الإثنين   
   24 11 2025   
   3 جمادى الآخرة 1447   
   بيروت 21:08

اوري تسافون.. كيف تحَول العقيدة الدينية إلى أداة استيطان؟

محمد حمود – باحث في علم التاريخ

شهدت المرحلة التي أعقبت حرب غزة (2023–2024) بروز منظمة إسرائيلة جديدة تحمل اسم «أوري تسافون»؛ وهي حركة استيطانية يمينية متطرفة تسعى إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في المنطقة عبر نقل مشروع الاستيطان من غزة والضفة الغربية إلى جنوب لبنان. نشأت الحركة تخليدًا للجندي الإسرائيلي يسرائيل سوكول، لكنها سرعان ما تحوّلت من مبادرة رمزية إلى منصة تعبئة أيديولوجية تتبنّى خطابًا توسعيًا أوسع من حدود “الدولة”، مستندة إلى خليط من المقولات الدينية والمرجعيات التاريخية ورؤية قومية متشددة تتجاوز اتفاقيات سايكس–بيكو (1916) والحدود المعترف بها دوليًا.

تطرح الحركة نفسها بوصفها امتدادًا لـ«رسالة تاريخية» ترى أنّ استقرار إسرائيل بعيد المدى لن يتحقق إلا عبر مواجهة النفوذ الإيراني وإعادة بسط السيطرة على مناطق تعتبرها جزءًا من «أرض الآباء» — وفي مقدمتها الجنوب اللبناني. ورغم محدودية قدرتها الفعلية على تنفيذ مشاريع ميدانية، تكشف «أوري تسافون» عن تحوّل خطير في بنية اليمين الإسرائيلي؛ إذ تمثّل امتدادًا مباشرًا للحركات الصهيونية المتطرفة التي ظهرت منذ بدايات القرن العشرين، من «الهاغانا» و«الإرغون» إلى «غوش إيمونيم» ومنظمات الكاهانية.

النشأة

تُعدّ مجموعة أوري تسافون وتعني بالعبرية “استيقظي يا الشمال” من أبرز الظواهر التي برزت داخل الكيان الاسرائيلي بعد حرب غزة (2023–2024)، وقد تأسست تخليدًا لذكرى الجندي الإسرائيلي يسرائيل سوكول، البالغ من العمر 24 عامًا، الذي قُتل خلال المعارك في غزة في كانون الثاني/يناير 2024.

وفقًا لعائلته، لم يكن حلم سوكول يقتصر على إعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، بل كان يمتد أيضًا إلى ما هو أبعد من ذلك — إلى لبنان. وفي مقابلة مع صحيفة Jewish Currents، كشف شقيقه يعقوب سوكول عن جانب من هذا الطموح قائلًا: كانت بيني وبين يسرائيل نكتة حول أننا سنعيش في لبنان، لكنها لم تكن مجرد مزاح، بل كانت تعبيرًا عن قناعة حقيقية. إنها الأرض التي يجب أن تكون في أيدينا.

بعد وفاة يسرائيل، تدخل عاموس عزاريا، الأستاذ الناشط في الحركة الإسرائيلية لإعادة إنشاء المستوطنات في غزة، وتباحث مع عائلة سوكول حول طرق تحقيق حلم يسرائيل. وأسفرت هذه المحادثات عن تأسيس مجموعة “أوري تسافون”.

الأهداف والرؤى المستقبلية

تسعى الحركة إلى وضع جنوب لبنان تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، وتحويله إلى ما تصفه بـ«منطقة محمية» تُدار بقيادة محلية وتخضع للحماية الأمنية الإسرائيلية. وترى قياداتها أنّ هذا النموذج يمكن أن يشكّل «حزام أمان استراتيجيًا» لإسرائيل، مشابهًا لما كانت تمثله «المنطقة الأمنية» قبل الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000. ومن منظور الحركة، لا بديل عن التدخل العسكري في لبنان لضمان ما تسميه «أمن إسرائيل واستقرارها الاستراتيجي»، إذ ترى أن الحسم العسكري وحده قادر على إعادة تشكيل البيئة الأمنية والسياسية بما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية في المدى البعيد.

يشير الدكتور جمال واكيم في مقابلة مع موقع المنار الى أنّ الحركات الإسرائيلية المتطرفة ليست ظاهرة جديدة، بل امتداد طبيعي لبنية الفكر الصهيوني نفسه، الذي نشأ قائمًا على رؤية عنصرية وسرديات تاريخية مختلقة لتبرير مشروعه السياسي. ويُرجع واكيم صعود الصهيونية إلى التحولات العالمية منذ القرن التاسع عشر، ولا سيّما توسّع الرأسمالية وهيمنة عائلات يهودية نافذة اندمجت في البرجوازيات الأوروبية، وسعت إلى صياغة هوية قومية يهودية عابرة للحدود تستند إلى التوراة للمطالبة بفلسطين باعتبارها “أرض الميعاد”.

ويرى واكيم أن التطرف مكوّن بنيوي داخل الأيديولوجيا الصهيونية، مرتبط بطموح هيمني يسعى لإعادة تشكيل جغرافيا وتاريخ المنطقة وفق مخيّلتها، عبر تجاوز الواقع العربي والإسلامي وإلغائه. لذلك فإن ظهور الحركات الإسرائيلية المتطرفة اليوم لا يُعدّ نتاجًا ظرفيًا، بل استمرارًا لمسار تاريخي طويل يجعل التطرف جزءًا جوهريًا من المشروع الصهيوني نفسه.

من غزة إلى جنوب لبنان : عقيدة التوسّع الإسرائيلي واستعادة أرض الآباء

ترى حركة «أوري تسافون» الاستيطانية أن هزيمة ما تصفه بـ«الخطر الإيراني» وتحقيق استقرار طويل الأمد لإسرائيل يقتضيان، في نظرها، العودة إلى جنوب لبنان ووضعه تحت السيطرة الإسرائيلية. وتعتبر الحركة أنّ ما تسميه «أرض إسرائيل» لا يفقد هويته «الإسرائيلية» حتى في حال انسحاب الدولة منه أو إهماله، بل إنّ الأرض – وفق خطابها – تبقى تطالب بالعودة إليها.

وتستشهد الحركة بما تسميه «قانونًا حديديًا» في تاريخ إسرائيل المعاصر: أن كل منطقة تنسحب منها إسرائيل تتحول لاحقًا إلى كيان معادٍ. وتُسقط هذا المنطق على غزة ولبنان على حد سواء، إذ ترى أن الانسحاب من غزة لم يمنع المواجهة، وأن الانسحاب من لبنان سمح بتعاظم قوة حزب الله، وأن ما حال دون خوض مواجهة مباشرة واسعة في الشمال خلال حرب «سمحات توراة» هو ما تسميه الحركة «الانشغال الإيراني في غزة».

وفي سياق رؤيتها التوسعية، تعرض الحركة ما تعتبره «مساهمة في الحرب المقبلة»، عبر اقتراح أسماء لمستوطنات جديدة تخطط – من منظورها الأيديولوجي – لإقامتها في ما تصفه بـ«أرض إسرائيل الموسّعة»، بما يشمل جنوب لبنان.

توضح موسوعة أرض إسرائيل الصادرة عام 1951 هذا التصور الواسع لأرض إسرائيل منذ العصور السابقة لإقامة الدولة. على سبيل المثال، تُشير الموسوعة إلى أن الحدود الجديدة استبعدت أجزاء كبيرة من الجليل الأعلى، والتي أصبحت ضمن أراضي لبنان. كما يُوصف اسم قرية بنت جبيل بأنها «قرية تقع في جبال الجليل الأعلى».باختصار، التصور التقليدي لأرض إسرائيل كان أوسع بكثير مما تحدده الحدود الحديثة.

ويرى المحلّل في الشؤون العبرية في قناة المنار، الأستاذ حسن حجازي في مقابلة مع موقع المنار، أنّ حركة «أوري تسافون» تعتبر الجنوب اللبناني جزءًا من «أراضي إسرائيل التاريخية»، وبالتالي ترى ضرورة العودة إلى الاستيطان في هذه المنطقة. وتندرج هذه الحركة ضمن تيار اليمين الديني الصهيوني الداعي إلى التوسع في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان ولبنان، بل إنّ له أطماعًا تمتدّ إلى الأردن وسيناء وغيرها.

المؤتمر الأول: استيطان جنوب لبنان

في 17 يونيو/حزيران 2025، عُقد المؤتمر الأول لحركة “أوري تسافون” الاستيطانية عبر منصة زووم، تحت عنوان :”نماذج ناجحة للاستيطان من الماضي ودروس لجنوب لبنان”. ووفقًا للقناة 12 العبرية، شكّل هذا المؤتمر التدشين الرسمي للمنظمة، فيما ذكرت صحيفة ماقور ريشون في 18 يونيو أن الهدف المعلن يتمثل في العمل على احتلال جنوب لبنان حتى نهر الليطاني وتوطين اليهود فيه.ويشير النص إلى أن وقف إطلاق النار الأخير ينص على انسحاب إسرائيل خلال 60 يومًا من البلدات اللبنانية التي احتلتها أثناء العدوان الأخير على لبنان، ما يجعل عقد المؤتمر في هذا السياق إعلانًا سياسيًا مثيرًا للجدل.

على الرغم من انعقاده افتراضيًا، لم يتجاوز عدد المشاركين 280 شخصًا، وفقًا لصحيفة هآرتس العبرية، التي أشارت أيضًا إلى أن عاموس عزاريا هو زعيم المنظمة وقائدها.

خلال المؤتمر، تحدث حاجي بن آرتسي، شقيق سارة، زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قائلاً: “لسنا متطرفين، والحدود بين لبنان وإسرائيل مصطنعة، والجليل يمتد إلى الليطاني”.

كما تناول المؤتمر الجوانب القانونية للاستيطان، حيث أشار المحامي دورون نير تسيفي إلى وجود سوابق في الضفة الغربية، مؤكدًا أن التسوية قد تحظى بموافقة دولية، وأضاف: “يمكن إجراء تسوية في جنوب لبنان لأسباب أمنية، كما سبق ووافق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عام 2019 على اعتبار الجولان جزءًا من إسرائيل”.

نشاطات المنظمة الاستيطانية واستخدام الرموز الدينية لتبرير الاستيطان في جنوب لبنان

تعمل منظمة «أوري تسافون» على تعزيز مشروعها الاستيطاني في جنوب لبنان عبر حملات دعائية وأنشطة ميدانية مختلفة، شملت وضع ملصقات في شمال الأراضي المحتلة، وتنظيم احتجاجات ومسيرات تطالب بإقامة مستوطنات في الجنوب اللبناني. ويشارك في هذه التحركات أعضاء من حركة «نحلاه» التي تستقطب مئات العائلات الراغبة في الاستيطان، وقد ظهرت ملامح دعم سياسي لها في مؤتمرات حضرها وزراء وأعضاء كنيست.

وتستخدم المنظمة أدوات دعائية مباشرة، مثل الطائرات المسيرة والبالونات التي تلقي منشورات داخل الأراضي اللبنانية تهدد السكان وتدّعي ملكية “أرض إسرائيل”. كما تنظم لقاءات ميدانية قرب الحدود للتأكيد على نية الاستقرار في الجنوب. وبلغ نشاطها ذروته في مؤتمر افتراضي واسع ناقش “الارتباط اليهودي بلبنان”، وحظي بدعم شخصيات سياسية متطرفة، ما منح خطابها انتشارًا وتأثيرًا أكبر.

استخدام الرموز الدينية والنصوص التوراتية

تستخدم منظمة «أوري تسافون» الرموز الدينية والنصوص التوراتية لإضفاء شرعية دينية على مشروعها الاستيطاني، من خلال تصوير جنوب لبنان كجزء من “أرض إسرائيل” الموعودة وتحويل الخريطة السياسية إلى نص مقدّس يبرّر نشاطها. وتعتمد الحركة طقوسًا ورموزًا دينية—مثل شعارات توراتية، ووضع حجر الأساس، واحتفالات “نقل الشعلة”—لتحويل الاستيطان إلى فعل طقوسي يعزز الولاء الجماعي.

كما يجسّد شعارها، الذي يضم شجرة الأرز داخل نجمة داوود، هذا الدمج بين الديني والسياسي. وتربط المنظمة بين التبرير الديني والذريعة الأمنية، معتبرة أنّ الاستيطان في الجنوب يهدف إلى حماية المستوطنات الشمالية، ما يساعدها على استقطاب المتدينين والعسكريين.

ويرى حجازي أن جرأة هذه الطروحات جاءت نتيجة التوسع العسكري الحالي وتراجع قوة الردع، ما أتاح للحركات المتطرفة التعبير بصراحة عن رؤاها التوسعية بعدما كان ذلك غائبًا في ظل قوة المقاومة سابقًا.

أدوات التأثير والتعبئة

تستخدم حركة «أوري تسافون» وسائل التواصل الاجتماعي لنشر خرائط ومحتوى دعائي يدعم فكرة إنشاء مستوطنات في جنوب لبنان، حيث روّجت مؤخرًا لخريطة تشمل بلدات من جنوب الليطاني حتى كفركلا، وقدّمت لها أسماء عبرية مع أسعار مقترحة لقطع الأراضي، في محاولة لطرحها كمناطق استيطان مستقبلية. وتتماهى هذه الخطوات مع ممارسات مجموعات استيطانية مشابهة في الجولان وجنوب سوريا، التي تعتمد على سرديات دينية وتاريخية تزعم ارتباط تلك المناطق بالممالك اليهودية القديمة.

ويرى حجازي أن هذه التحركات تبقى رمزية، إذ تكرر نمطًا استخدم في الضفة الغربية يبدأ بنصب خيام وبنى بسيطة قبل تحويلها إلى مستوطنة، غير أن ظروف لبنان تمنع تطبيق هذا السيناريو فعليًا. ويشير إلى سلوكيات شبيهة، مثل محاولة المؤرخ «أرليخ» البحث عن دلائل أثرية في قرية شمع لتبرير الادعاء بارتباطها بـ«شعب إسرائيل». وفي المحصلة، تبقى هذه المجموعات محدودة التأثير، لكنها تكشف جوهر الفكر الصهيوني التوسعي الذي يسعى إلى إعادة رسم الجغرافيا عبر مزيج من الأسطورة والدعاية الرقمية.

اوري تسافون امتداد لخطاب السيطرة

تظهر المنظمات الإسرائيلية المتطرفة امتدادًا تاريخيًا متصلاً يبدأ من الحركات الصهيونية الأولى التي تبنّت خطابًا إحلاليًا توسعيًا، وصولًا إلى الجماعات الراهنة التي تعيد إنتاج الذهنية نفسها بأدوات أكثر حداثة وتنظيمًا. وعلى الرغم من تغيّر السياقات السياسية، يبقى القاسم المشترك بينها هو السعي إلى فرض الهيمنة وشرعنة الاستيطان عبر مزيج من العنف والدعاية وتوظيف الأساطير التاريخية.

يتحدث الأستاذ نجا حمادة، الباحث في التاريخ، في مقابلة مع موقع المنارعن تطوّر المنظمات الصهيونية المسلحة منذ تأسيس الهاغانا عام 1920، مرورًا بالإرغون (1931) وليحي (1940)، وهي تنظيمات تبنّت العنف ضد العرب وأسّست للأيديولوجيا المتطرفة التي استمرّت لاحقًا عبر الأطر السياسية، ولا سيّما حزب حيروت الذي تحوّل فيما بعد إلى حزب الليكود.

ويرى حمادة أنّ هذه التنظيمات شكّلت البنية الأولى لفكر يقوم على القوة كوسيلة لتحقيق المشروع الصهيوني، وأنّ هذا الإرث انتقل من التنظيمات شبه العسكرية إلى المؤسسات السياسية بعد قيام الدولة. ويؤكد حمادة أنّ حركة «أوري تسافون» اليوم ليست ظاهرة معزولة، بل تمثّل استمرارًا مباشرًا لهذا الخط الفكري.

الخاتمة

حركة «أوري تسافون» تمثل نموذجًا للتطرّف الاستيطاني في إسرائيل بعد حرب غزة 2023–2024، حيث تجمع بين خطاب أمني لتبرير السيطرة على جنوب لبنان وخطاب أيديولوجي–ديني يرى المنطقة امتدادًا لـ“أرض إسرائيل التاريخية”.

تستخدم الحركة منصات التواصل، الدعاية المكثفة، والفعاليات الميدانية لاستقطاب المستوطنين والناشطين القوميين، ولإضفاء شرعية على مشروع توسعي طويل المدى. وهي بذلك تحوّل الأمن والدين والدعاية إلى أدوات لتحقيق مشروع سياسي يتجاوز اللحظة الراهنة ويعيد رسم خريطة الصراع في الشمال.

المصدر: بريد الموقع