تتحدّد مراحل وقفزات الصراع الطويل بحسب نضج تجربة الحالة التحررية، وبالمقارنة مع مقدار تكيّف وتعلّم المستعمر وتحشيده لقدراته وتحالفاته. تستثمر الحالة التحررية مع انطلاقتها نقاط ضعفٍ أهملها المستعمر بفعل استقرار قدراته وهيمنته، وتبدع أساليب لم يكن يتوقعها أو لم يُسْبَق بها بمعرفة، لتتمكن من تجاوز نقاط تفوقه، فتأتي ضرباتها محكمة قاسية.
يبدأ المستعمر في المرحلة اللاحقة بتغيير احتياطاته وإجراءاته السياسية والاستراتيجية والتكتيكية والتقنية. ينشأ هنا سباق صعب ومحفوف بالتحدي والمخاطر ينجح فيه الطرف الأكثر إبداعاً وتحمّلاً. إذا فازت فيه حركة التحرر ننتقل إلى الحروب غير المباشرة: ثقافية، أمنية، اقتصادية، والأهم الحرب بالوكالة.
تهدف هذه الحروب إلى التشتيت والاستنزاف وتجفيف جذور التحرر، والأخطر هو ميدان حرب الوكلاء، الرامي إلى تغيير نمط القتال وخبراته واستنزاف وكشف بنية حالة التحرر تحضيراً لخوض تجربة مواجهة مباشرة معها.
حاول كيان الاحتلال عام 2006 وفق هذه المنهجية وفشل. ثم عمل لمدة 18 عاماً للتحضير ضمن تحالف دولي للإجهاز على النموذج التحرري اللبناني، بعد أن تخطّى مرحلة الحروب البديلة منتصراً فيها جميعاً. كانت الضريبة الطبيعية لهذه الانتصارات هي تحولات في النمط والتعلم والحصانة الأمنية، لقد كانت انتصارات مكلفة وليست من دون ثمن. كما كان للانتصارات نفسها الأثر الطبيعي من الثقة، خصوصاً أنها أثّرت في بنية التحرر على مستوى الإقليم وطورتها بشكل جوهري، كما لأنها كانت في مقابل تحالف دولي إقليمي ضخم.
حينما كانت المقاومة مشغولة بتلك الحروب من كل نوع وشكل، كان العدو كامناً يحضّر للحرب مستثمراً كل المتغيّرات البنيوية في بنية المقاومة والتي يتطلبها التكيّف العميق مع الحروب المتعددة التي خاضتها. رغم كل هذا التراكم والجهد اللذين بذلهما التحالف الدولي/ الإقليمي تحضيراً للحرب الحاسمة، إلا أنه فشل بشكل ذريع في حسم الصراع.
انتقلت حالة التحرر إلى مرحلة تكيّف جديدة في الأبعاد السياسية والاستراتيجية والتقنية، لتواجه ثورة في الشؤون العسكرية غير مسبوقة في التاريخ البشري، لناحية السبر والوصول إلى المعلومات، في مواجهة بؤرة استيطانية متأصلة أيديولوجياً يعتقد سكانها أنهم أصحاب الأرض الحقيقيون ويدافعون فيها عن وجودهم، لا بؤرة استيطانية عائمة وغير متجذرة.
خاضت المقاومة في لبنان تجربة استثنائية في تاريخ الصراع بين الاستعمار والتحرر، حيث واجهت حرباً شاملة أصابت سهامها كامل بنية المقاومة، ولكنها تكيفت خلال أيام قليلة وقامت من تحت الركام وواجهت مشروع الاحتلال الاستعماري المستجد وأحبطته.
نجحت المقاومة في تسجيل تاريخها الخاص في مواجهة التحالف الدولي المحرك للكيان الصهيوني المؤقت في التحرير الأول منذ بدء الصراع عام 1936، وفي صد الحرب الهجومية عام 2006، وفي الحروب البديلة المتنوعة عام 2006 و2023، وفي التكيّف الاستثنائي السريع والمرن مقابل الثورة التكنولوجية الأخطر في التاريخ وتحت النيران المتواصلة في الحرب الأخيرة.
إنه إنجاز ملحمي دامٍ مكلل بالجراحات العميقة، لكنه يقع في مرحلة الذروة لناحية التعلّم والتكيّف البنيوي لا حرب الأدمغة التكتيكية. مرحلة فاصلة بين المواجهة العرضية الجزئية مع الاستعمار وبين المواجهة الكلية الشاملة في حدودها القصوى.
دخلت إسرائيل، اليد الفاعلة للتحالف الاستعماري، في مرحلة ما بعد تجربة محاولة اجتثاث حالة التحرّر في لبنان. هي تحتاج في هذه المرحلة إلى مقاربة أكثر جذرية وطموحاً لتقديم الوعد لجمهورها بأنها ستدفع تكاليف الحرب لآخر مرة، وإلا فإنها ذاهبة إلى الإقرار بإخفاق أسلوبها في استثمار الثورة في الشؤون العسكرية، التي أوجدها الذكاء الاصطناعي، والانتقال إلى مرحلة الحروب المتكررة وانعدام الأمن.
بالمقابل، انتقلت المقاومة إلى ولادة جديدة خارج مسار الحروب البديلة لتخوض التكيّف البنيوي الجديد مع العدو والتكنولوجيا في الآن عينه، مستندة إلى قدرتها على التكيف على النيران خلال الحرب، مستفيدة من الدروس والعبر التي ولدتها حالة التحدّي الأقصى، لتبنيَ تصوّراً جديداً يرتبط بالمرحلة الجديدة المختلفة عن كل تاريخ الصراع.
لقد حرَّكَ التحالف الاستعماري كل أحجار الشطرنج دفعة واحدة، بعد أن انتقلت حركات التحرّر في السابع من أكتوبر إلى مرحلة الهجوم على القلعة الاستعمارية الجاثمة على أرض فلسطين المسلوبة، والآن تخوض حالة المقاومة عملية التكيّف الأكثر عمقاً وجذرية في تاريخها لتواجه رد فعل الاستعمار المثقل بالتقنية.
قرّرت المقاومة في هذه المرحلة من المواجهة أن تستهدف وجود القلعة الاستعمارية وتقف أمام تحالف الدول الاستعمارية بندّية غير مسبوقة، في لحظة الطفرة التكنولوجية، وبعد أن شنّ التحالف حربه الذكية المدمرة لا يزال يتعامل يومياً مع التهديدات الناشئة في كل ساحات المواجهة. إنها حالة متجذرة ولائقة بالمواجهة الندّية القائمة. ومع الوقت تتبدّد آثار تلك الحرب وتظهر متطلّبات الأمن المستجدّة للقلعة الاستعمارية. ينتهي خطاب النصر ويعود خطاب القلق. وبينهما سباق بين التكيّف الجاري في بيئة المقاومة، وبين محاولة الاستعمار منع التكيّف واستباقه والتحضير لجولة قادمة تكون أكثر ضماناً وموثوقية لناحية النتائج.
تكيّف المقاومة يتضمّن الترميم في طياته ويتجاوزه؛ فالخلل ليس في القدرات بقدر ما هو في الاستجابة لنمط مستجد لم تواكبه المقاومة بالقدر الكافي للتغلّب عليه نتيجة مرحلة الحروب البديلة، فتمكّنت من إحباط نتائجه الحاسمة المتوقعة فقط. التكيّف المطلوب يتعلّق بالذكاء ليتجاوز ترميم البنى والمنشآت والاستحكامات؛ إنها حرب الإبداع والتوظيف السليم للعقل الجماعي والفردي، في الحرب السياسية والاستراتيجية والتكنولوجية.
تستند المقاومة في هذا التكيّف إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى الذي كان السند الحقيقي لها عندما بدأت من الصفر عام 1982، وإلى قدرة التعلّم لدى شبابها وكوادرها التي تنامت خلال العقود، وإلى الإرادة التي صنعت كل إنجازاتها في المواجهات المتنوّعة، وإلى دافع الضرورة التاريخية الحاسمة. فالتكيّف لا يتعلّق هنا بنجاح مسار التحرير، بل بالوجود والبقاء.
نشرت مؤسسة «راند» للأبحاث، ومقرّها أميركا، عام 2022، دراسة حول سبل تقليص تكيّف الفاعلين غير الحكوميين، شارك فيها ستة باحثين اشتغلوا على خمس عشرة حالة من بينها حزب الله. المرتكز الأول للتحليل كان أنّ «إحباط تلك المنظّمات صعب لأنها مرنة عموماً ومبنية بطريقة تسهّل قابليتها للتكيّف مع المتغيرات التي تحصل في بيئتها العملياتية، وفي بعض الحالات مع ما هو أبعد من ذلك». توصي الدراسة الجيش الأميركي باستباق عمليات تكيّف تلك المنظمات والتخفيف منها، ومنعها من الوصول إلى الموارد التي تسمح لها بالتكيّف مع متطلّبات الميدان، وتصنّف مجالات المرونة إلى ستة: التحالفات، الوسائل والتكنولوجيا، الانتشار الجغرافي، القدرات الاقتصادية والمالية، التكتيكات، تعويض اغتيال القادة.
وبخصوص حزب الله، حصرت المتخصصة في الشأن اللبناني في مركز دراسات الأمن القومي في تل أبيب أورنا مزراحي اهتمامها بمجالات الترميم. في مقالة موسعة في شهر أيار من هذا العام، تقول إن «تعافي حزب الله يشمل توسيع احتياطياته المالية المتناقصة، ومواصلة نقل الأسلحة إلى جنوب لبنان، وتهريب الأسلحة بأي وسيلة من الخارج، وتجنيد عناصر جدد، وإعادة تنظيم مؤسساته، وبذل بعض الجهود للاستجابة لاحتياجات السكان الشيعة».
أغفلت دراسة «راند» ومقالة مزراحي العوامل العميقة التي تمثّل دوافع وقابليات التكيّف والتعلّم وركّزت على المجالات والأدوات التي تظهر فيها المتغيّرات. وفي حالة المقاومة في لبنان، التي خاضت دورات متتابعة من التطوّر تبعاً للظروف والتحدّيات طوال أربعة عقود، فإنّ عامل المرونة يتحرّك الآن بشكل مضاعف في ثلاثة اتجاهات:
(1) التكيّف الإكراهي: الناتج من عمليات اغتيال القادة من كل المستويات وبشكل واسع وكذلك مع التغيرات التي لحقت بالقدرات.
(2) التكيّف الدينامي: الناشئ من التفاعل مع عمليات الضغط الأمني والسياسي والاقتصادي المتواصلة.
(3) التكيّف الإبداعي: المتأتي من استثمار أجيال من الشباب المبدعين المتحفزين بهدف مواجهة المشروع التوسعي الصهيوني.
هادي قبيسي – مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير
المصدر: بريد الموقع
