ارتفعت حدة الكباش بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا الاتحادية ، ووصل تبادل الرسائل الحادة بين الدولتين النووتين الاكبر في العالم الى مستوى التهديد باستخدام القوة العسكرية، بعد ان رفعت واشنطن منسوب التوتير الخطابي ضد روسيا بالتوازي مع فشل مفاوضات الضمانات الامنية التي طلبتها موسكو من واشنطن، ومن الحلف الذي تقوده ، والمسمى حلف “الناتو”، وهو الحلف العدواني الذي ينفذ رغبات الادارات الاميركية وغرائزها منذ تأسيسه عام 1949 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باربع سنوات ، وهدف انذاك لمواجهة الاتحاد السوفياتي ولاحقا “حلف وارسو” الذي انشا عام 1955 وهوالحلف الذي طواه انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
من الواضح ان الولايات المتحدة تهرب الى الامام كلما تلقت هزيمة او خسارة على المستوى الخارجي ، وليس بالاهمية لها نزف انهار الدم من شعوب بعيدة عن جغرافيا الولايات المتحدة ، وكذلك فان اي ازمة داخلية يستعصي حلها بين الاطراف الاميركية المتنازعة داخليا ، تعودت اميركا مقابلها بطبيعتها الامبريالية صنع عدو خارجي على امل لمّ الشتات الداخلي لمهاجمة “العدو الذي يهدد الامن القومي” او ادواته الخارجيين .
كان فشل المفاوضات الروسية الاميركية ومفاوضات حلف الناتو متوقعا في ظل بروباغندا غربية لا تستند الى اي وقائع للتحشيد ضد روسيا ولا سيما تلك الدعاية القائلة بان روسيا ستغزو اوكرانيا ، وان واشنطن وحلفاءها لن يكونوا على الحياد ، لا بل وصلت الوقاحة الاميركية الى الذروة بالتلويح بفرض عقوبات على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي حال “اجتياح” روسيا لأوكرانيا، يدعو مشروع القانون الاميركي لفرض عقوبات كذلك على رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين ووزير الدفاع سيرغي شويغو وعدد من رجال الأعمال وغيرهم، يعني على جميع اركان جمهورية الاتحاد الروسي.
على هذه الجزئية من الوعيد بالعقوبات رد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف ، أن التهديد بفرض عقوبات على الرئيس الروسي قد يؤدي إلى قطع العلاقات مع الولايات المتحدة، وهذا يعني فيما يعني ان الدولتين العظميين باتتا على شفير الصدام ، مع فقدان لغة التخاطب ، وربما هذا الامر تريده الادارة الاميركية مع عجزها عن معالجة تداعيات انتخابات جو بايدن قبل عام رئيسا للولايات المتحدة ، لا بل ان التداعيات تزداد ضراوة مع الاتهامات الزقاقية المتبادلة بين الرئيس السابق دونالد ترامب ومؤيديه، وصولا الى طرح مصير “الامة” في ميدان الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين من خلال تحذير طرحه بايدن كتساؤل امام الاميركيين وفيه “علينا أن نقرر اليوم أي أمة سنكون.هل سنكون امة تقبل بان يصبح العنف السياسي هوالقاعدة؟ هل سنكون أمة لا تعيش في ضوء الحقيقة إنما في ظل الكذب”؟.
نعم ، وبلا ادنى شك انها امم وليست امة في الولايات المتحدة تعيش في ظل الكذب، لا بل هي امة انتاج وفبركة الكذب بصنوفه الشريرة المتعددة، ولا تحتاج مسوغات للكذب لانها من طبيعتها البنيوية، وكما تخترع الاكاذيب في بلادنا ، وتسوغ الاحتلال الصهيوني ، وتروج لعدوانه ولجرائمه امام العالم على انها دفاع استباقي ، تفرغ اليوم آلة اعلامية وسياسية غير مسبوقة لبناء عناصر عداء لروسيا ، ومن هنا يمكن فهم المآرب الخبيثة التي تلحظ في خطابات المسؤولين الغربيين عموما، ومواقف المسؤولين الاميركيين وان تناقضت احيانا بشكل صارخ على وجه خاص.
بكل بساطة رد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب،على غريمه بايدن بالتوصيف نفسه قائلا إن إدارة بلاده الحالية لا تسيطر على الموقف، ودفعت الوضع إلى ظهور تعليقات روسية حول احتمال ظهور تواجد عسكري روسي في أمريكا اللاتينية. وقال “ها هو (الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) يهدد الآن بالذهاب إلى كوبا وفنزويلا، وهذا نقص في الاحترام. سابقا لم نواجه مثل هذه المشكلة أبدا”. وإن المسؤولين الأمريكيين تعمدوا تعقيد الأمور وتصعيبها على إدارته السابقة، من خلال الكذب بشأن روسيا.
لا شك ان الولايات المتحدة التي يزداد فيها عدد الولايات المطالبة او الداعية للانفصال ، فضلا عن الازمات المتعددة على المستوى الداخلي ، تهرب الى الامام لتأجيل ما امكن مصير التمزق ، ولذا طالما اوجدت اعداء في الخارج ، لعلها تمنع انفراط عقود الداخل ولو ادى ذلك الى حروب لا تبقي ولا تذر، وفي هذا السياق رفع مستوى العداء مع روسيا والصين وايران حتما ، ولذلك تسعى الدول الثلاث لاحتواء العداء الاميركي ومنع انتشاره السرطاني.
يلاحظ الباحثون الموضوعيون ان الدول الثلاث تعمل على تفكيك الاكاذيب الاميركية ، وتقديم افكار هدفها منع الحروب مع عدم الخضوع لاملاءات الشرور الاميركية ، وعلى هذه القاعدة تقدمت روسيا بمقترحاتها التي سارعت في البداية اميركا الى رفضها ، بدل مناقشتها او حتى تقديم مقترحات للنقاش ، لا بل – وبدون مقدمات او مسوغات- انطلقت اميركا واعوانها في اوروبا تهديدات مضمونها عقوبات فظيعة ضد روسيا في حال غزوها أوكرانيا، بينما خطر مثل هذا الغزو لم تشعر به اوكرانيا نفسها ، فيما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي، دون تقديم أي دليل، إن الولايات المتحدة “حددت” توقيت “الغزو” الروسي لأوكرانيا. ووفقا لها، قد تختلق موسكو الذريعة الضرورية لمثل هذه الأعمال..
في الحقيقة ان موسكو لا تثق بواشنطن ولذلك اعلنت روسيا انها تنتظر ردودا خطية، أو ربما مقترحات مضادة، من كل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، الا ان الاكثر غرابة ما تفوهت به نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، بأن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حضرت 18 احتمالا للرد في حالة “الغزو الروسي” لأوكرانيا، واننا مع الحلفاء على استعداد للتسبب بألم حاد بشكل سريع إذا اتخذت روسيا أي خطوة [عدوانية]”.
لقد نفت روسيا تكرارا اي نية للهجوم على اوكرانيا رغم استفزازات الاخيرة ، وقد وصفت السفارة الروسية في واشنطن، تصريحات البيت الأبيض بشأن توقيت “غزو” روسيا لأراضي أوكرانيا، بالمعلومات المضللة، واعتبرتها بمثابة ضغط إعلامي مع تأكيد موسكو الانتقال إلى “إجراءات أخرى”، بما في ذلك الردع المضاد والإخافة المضادة. وقد ترجم ذلك دميتري بيسكوف السكرتير الصحفي للكرملين في حديث لشبكة CNN،معلنا أن “روسيا والولايات المتحدة تسيران في مسارين مختلفين تماما، وأن الأمر صار يدعو للقلق”.واوضح إن التوتر على الحدود مع أوكرانيا مرتفع للغاية، وأن، موسكو تريد “إجابة محددة للغاية على مقترحاتها المحددة للغاية”.
ان الرفع المنهجي في خطاب موسكو الصارم يعود لادراكها جدية اوراق القوة التي ملك يديها ، وتدرك في الوقت نفسه مدى التسرع والانبطاح الاوروبي امام جبروت واشنطن وان حاولت بعض الدول الاوروبية الانعتاق من النير الاميركي ،دون الالتفات من بعض الدول ايضا الى مصلحة شعوبها ، التي تحتاج الغاز الروسي ، وبدون هذا الغاز ، وعدم تخزين احتياط يكفي لموسم الصقيع ، فقد تتجمد اوروبا ووفقاً لخبراء الشركة الاستشارية “وود ماكينزي” Wood Mackenzie، فلو توقفت إمدادات الغاز من روسيا تماماً، ستتجمد أوروبا حرفياً هذا الشتاء.
لقد اعتبرت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية أن الرئيس جو بايدن سيواجه “شتاء سيئا للغاية” على خلفية التضخم القياسي واحتدام جائحة كورونا في بلاده، والتوتر الحاصل في العلاقات مع روسيا. وانه “يواجه بايدن مهام صعبة في الداخل والسياسة الخارجية، فيما الأزمة في شرق أوروبا آخذة في الاحتدام، حيث أن المفاوضات مع موسكو حول القضايا الأمنية في المنطقة لم تخرج بأي نتائج مهمة بعد”.و “المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي وصلت أيضا إلى نقطة حرجة”.
السؤال ،هل تهتم اميركا لموت الاوروبيين بردا ، وهي التي لم تنجدهم مع بداية جائحة كورونا ، فلجأ العديد من بلدانهم الى روسيا والصين ،ربما هذا التساؤل اجابت عنه صحيفة “نيويورك تايمز”، وخلاصته إن مسلك الولايات المتحدة في السياسة الخارجية اعتمد دائما على مبدأ وجود مناطق النفوذ، واتهم الكاتب الاميركي بيتر بينارت السياسيين الأمريكيين بالنفاق، لأن واشنطن على خلفية المفاوضات مع موسكو بشأن الضمانات الأمنية، لا تزال تلتزم بما يسمى “مبدأ مونرو”. وقال: “تنتهج الولايات المتحدة سياسة مناطق النفوذ في النصف الشمالي من الكرة الأرضية منذ ما يقرب من 200 عام، أي منذ أن أعلن الرئيس جيمس مونرو في خطابه السنوي السابع أمام الكونغرس، أنه يجب على الولايات المتحدة أن تعتبر أي محاولة من قبل الدول الأجنبية، لبسط نفوذها على أي جزء من هذا النصف من الكرة الأرضية، بمثابة تطاول وتعد خطير على سلامنا وأمننا”. ونوه بأن إدارة الرئيس جو بايدن، لا تنوي التوقف عن استخدام الضغط والإكراه الاقتصادي تجاه الدول الواقعة في مجال المصالح الأمريكية. ما دفع السفير الروسي لدى الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف للاعلان صراحة أن التوسع المحتمل لحلف الناتو شرقا، يمثل أحد أخطر التهديدات للأمن القومي الروسي.
لقد سبق المفاوضات ببضعة ايام، تقييم للاوضاع من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ظل التسعير الغربي، وقال ان روسيا سترد “عسكرياً وتقنياً” على التهديدات الغربية، وحمّل الغرب مسؤولية تصاعد حدة التوتر في أوروبا ،وقال بحضور كبار المسؤولين العسكريين، إن روسيا سترد “بالشكل المناسب”على أي اعتداء غربي وستواصل تطوير جيشها.
اللافت ان الرئيس الروسي، قال بثقة ، وبلا اي مواربة : أن موسكو لا تطلب لنفسها أي ظروف استثنائية في مجال الأمن، لكنها لن تترك تحركات الغرب العدائية ضدها بلا رد. وقال: لا نطلب لأنفسنا أي ظروف استثنائية، إذ تدعو روسيا إلى ضمان أمن متساوٍ وغير منقسم في كل الفضاء الأوراسي. وأضاف أن من حق موسكو أن تتخذ “الخطوات الضرورية لضمان أمن روسيا وسيادتها”.
بلا شك ان الوضع يتفاقم ، وعض الاصابع يكاد يصل الى الخواتيم مع روسيا ، واذا ارادت واشنطن الحرب ، فان اوراق روسيا متعددة، وليس اكبرها الاحتلال الاميركي في سوريا.
المصدر: خاص