يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القدر : بسم الله الرحمن الرحيم ،إنا انزلناه في ليلة القدر ،وما أدراك ما ليلة القدر ،ليلة القدر خير من الف شهر ،تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ،سلام هي حتى مطلع الفجر .
هذه السورة المباركة تشير الى عدة حقائق ترتبط بليلة القدر وخصائصها وصفاتها وما حصل فيها في الماضي كنزول القرآن, وما يحصل فيها عادة في كل سنة كنزول الملائكة والروح, لتدبير كل أمر من أمور الناس وشؤونهم.
ونحن نتحدث هنا حول هذه الليلة وحول ما أشار ت إليه السورة المباركة من حقائق في عدة نقاط:
النقطة الاولى : أنه لا شك في أن ليلة القدر هي ليلة من ليالي شهر رمضان، ولكن القرآن الكريم لم يعين أية ليلة هي من ليالي الشهر المبارك، فلم يحدد مثلاً أنها ليلة التاسع عشر او الحادي والعشرين او الثالث والعشرين وما الى ذلك ، وإنما التعيين والتحديد جاء من خلال الروايات المروية عن النبي (ص) وعن ائمة أهل البيت (عليهم السلام) فهي التي عينت لنا أية ليلة من ليالي شهر رمضان هي ليلة القدر، وقد ذكرت الروايات تحديدات متعددة لليلة القدر، ولكن المشهور منها أنها ليلة التاسع عشر أو الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين.
وهناك روايات متعددة عن أئمة أهل البيت (ع) تركز على ليلة الثالث والعشرين بينما روايات أهل السنة تركز على ليلة السابع والعشرين .
ليلة القدر اذاً محاطة بهالة من الإبهام والخفاء وهذا يدعونا الى طرح سؤال عن سبب هذا الابهام والخفاء في تعيين ليلة القدر؟؟
الاعتقاد السائد أن اختفاء ليلة القدر بين ليالي شهر رمضان ربما يكون سببه توجيه الناس الى الاهتمام بجميع هذه الليالي وإحياءها جميعا بالعبادة .
فالله تعالى ربما يكون قد أخفى ليلة القدر بين الليالي كي يتجه الناس الى عبادته في جميع الليالي ولا يكتفوا بإحياء ليلة واحدة، وهذا مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتوجه الناس الى جميع الطاعات، وكما أخفى غضبه بين المعاصي كي يتجنب الناس جميع المعاصي، وكما أخفى أحبائه وأوليائه بين عباده كي يحترم كل الناس، وأخفى وقت الموت كي يكون الناس دائماً على استعداد له, فالله تعالى قد يكون أخفى ليلة القدر من أجل ان يجتهد الناس في العبادة والتوجه الى الله في كل ليالي شهر رمضان المبارك طلباً لليلة القدر وثوابها وفضلها وأجرها .
النقطة الثانية : أن ليلة القدر ليست خاصة بزمن نزول القرآن وعصر النبي(ص) بل هي تتكرر في كل سنة في شهر رمضان والى أن يرث الله الأرض ومن عليها . وهناك روايات تصرح أن هذه الليلة هي من الهبات الالهية على الأمة الإسلامية, فلم تكن في الأمم السابقة، فقد روي عن النبي (ص) أنه قال : إن الله وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطيها من كان قبلهم .
النقطة الثالثة: أن ليلة القدر ترتبط لدى الكثير من المسلمين العاديين بظاهرتين :
الظاهرة الاولى : إرتباط ليلة القدر لدى بعض الناس بظواهر حسية معينة ، فبعض الناس العاديين يتصورون أن من وافاه الحظ أو من وفقه الله في هذه الليلة يشاهد ظاهرة حسية خارقة للطبيعة، كإنحناء جدار مثلاً أو شجرة ، أو كرؤية جسم غريب بشكل معين وما الى ذلك .. ولا شك أن هذا التصور هو تصور خاطئ ليس له أساس في النصوص الاسلامية , فليس في الأحاديث ما يدل على حدوث ظواهر غير طبيعية في ليلة القدر، كما ليس فيها ما يدل على أن ليلة القدر تتمثل في كائن معين أو في جسم معين ، بحيث إنها تنزل على بعض المحظوظين في تلك الليلة كما يتوهم بعض عوام الناس .
الظاهرة الثانية: إرتباط ليلة القدر لدى بعض المسلمين السطحيين بظاهرة المغفرة السريعة والسهلة ، فبعض المسلمين يتصور أنه ليس على الانسان إلا أن يصلي ويجتهد في الصلاة ويدعو ويجتهد في الدعاء في هذه الليلة لينال المغفرة على كل ذنوبه الماضية ، وليوفقه الله في سنته القادمة ، هكذا بكل بساطة من دون أن يعمل الانسان بطاعة الله في سائر أيامه, ومن دون أن يسعى باتجاه تصحيح اعماله ومواقفه وتصرفاته وفق ما يريده الله ويحبه.
إن هذا التصور أيضاً كالتصور السابق هو تصور خاطئ وبعيد عن روح الاسلام وعن أسلوبه في تربية الانسان, فالاسلام دين يؤكد على العمل وعلى السلوك المتوازن العقلاني، الاسلام يؤكد على ان الطريق الوحيد للخلاص وللنجاح والتوفيق والتقدم في جميع المجالات إنما هو الإيمان والعمل الصالح ، فلا يوجد في الاسلام صيغ سحرية لكسب انتصارات سهلة ومغفرة سهلة من دون عمل وسعي واجتهاد بطاعة الله وتصحيح المواقف والسلوك والاعمال وفق ارادة الله سبحانه وتعالى.
يقول الله تعالى : ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ،الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملا وهو العزيز الغفور ) الملك /201
وروي عن الامام الباقر (ع) : ليس بين الله وبين أحد قرابة ،أحب العباد الى الله عز وجل وأكرمهم عليه اتقاهم وأعملهم بطاعته.
ولكن هل هذا يعني أن ليلة القدر كغيرها من الليالي لا تتميز بشيء ولا تختص بفضل معين ؟ بطبيعة الحال ليس الأمر كذلك ، فهي ليلة دلت النصوص التي لا شك فيها على أنها تمتاز عن غيرها من الازمان والليالي بفضل خاص يجعل العملَ الصالحَ فيها أفضل من أي زمن آخر, ويجعل العبادةَ فيها خيراً من عبادة ألف شهر، يقول تعالى : (وما ادراك ما ليلة القدر ) كناية عن عظمة هذه الليلة وجلالة قدرها وعلو منزلتها ويقول تعالى: (ليلة القدر خير من الف شهر ) فان الألف شهر يساوي أكثر من ثمانين سنة, فأي ليلة أعظم من هذه الليلة التي تساوي قيمتها عمراً طويلاً مباركاً بهذا الحجم ، فالعبادة فيها خير من عبادة ألف شهر،والأعمال الصالحة فيها خير من الأعمال الصالحة في ألف شهر.
إذن: عظمة وقيمة وفضل العمل في هذه الليلة محسوم, ولكن الذي نريد أن نؤكد عليه هنا, هو أن العمل في ليلة القدر لا يتمتع بأي صفة سحرية خارقة تجعل له أثراً مستقلاً عن سلوك الانسان في سائر أيام عمره .
فالانسان الذي يحافظ على الاستقامة هو الذي ينفعه العمل العبادي الخاص في هذه الليلة ،وأما الانسان الذي لا يتمتع في عمله وسلوكه العام بأي استقامة ، والذي يستقبل أيامه بعد ليلة القدر بالمعصية والانحراف الذي كان يمارسه قبلها ، هذا الانسان قد لا تنفعه الاعمال العبادية الخاصة وقد لا ينفعه أن يجهد نفسه بالدعاء في هذه الليلة .
النقطة الرابعة : أن الله سمى هذه الليلة بليلة القدر, اي الليلة التي يقدر ويعين الله فيها أمور وحوادث السنة القادمة ، ففي هذه الليلة تعين مقدرات الناس لسنة كاملة من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وما الى ذلك ،وهذا ما يدل عليه قوله تعالى في سورة الدخان في وصف هذه الليلة (فيها يفرق كل أمر حكيم ) ففي هذه الليلة يقدر كل الامور والمسائل المصيرية المرتبطة بالانسان والحياة والكون ، والتعبير بالحكيم إنما هو لبيان ااستحكام هذا التقدير وعدم تغيره وكونه حكيماً .
إن هذا المعنى لليلة القدر ينسجم مع الروايات الكثيرة التي تقول إن كل شيء من خير وشر وطاعة ومعصية وولادات وآجال وأرزاق وأعمار تقدر في هذه الليلة ، فيقدر لكل فرد من الناس ما يليق له وحسب درجة إيمانه وتقواه وطهارته وأعماله الحسنة، وبذلك فإن أرضية التقدير يوفرها الانسان نفسه بحسب درجة إيمانه والتزامه.
النقطة الخامسة : أنه في ليلة القدر تتنزل الملائكة والروح ، والروح هو مخلوق عظيم يفوق الملائكة ،تتنزل الملائكة والروح بإذن ربهم من أجل تدبير كل أمر من الامور وتعيين وتقدير كل خير وبركة ورزق وحياة وموت وغير ذلك مما سيقع في السنة القادمة ، الهدف من نزول الملائكة والروح في هذه الليلة هو لتقدير وتعيين هذه الامور والحوادث الكونية التي ستقع في السنة القادمة . وهذا ما أشار إليه قوله تعالى في الاية الرابعة من هذه السورة: ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ) فان كلمة ( تنزل ) بمعنى تتنزل وجملة ( من كل أمر ) يعني لأجل تدبير كل أمر من الأمور المتعلقة بالحياة والكون .
النقطة السادسة : أن الآية الأخيرة من السورة وهي: ( سلام هي حتى مطلع الفجر ) تصف هذه الليلة بأنها ليلة مفعمة بالسلام والأمن حتى الصباح ، فهي سلام كلها لا شر ولا كيد ولا حرمان فيها ، بل هي ليلة الرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة والعبادة وفيها يحظى العباد برحمة خاصة ، فهي ليلة سلام كلها من بدايتها وحتى مطلع الفجر.
وإذا كانت هذه الليلة ليلة السلام والرحمة التي تشمل العباد، واذا كانت هذه الليلة تقدر فيها أمور الناس حسب ما يليق بكل فرد منهم وحسب قابلياته واستعداداته, فإنه ينبغي على الانسان في هذه الليلة أن يكون مستيقظاً ومتوجهاً الى الله, أن لا يضيّع فرصة هذه الليالي وهذه الساعات باللهو والعبث, بل بالعبادة والدعاء والطاعة, ليرفع من مستوى لياقته واستعداده لمزيد من رحمة الله ورضوانه , وليستمد منه القوة والعون على مواجهة تحديات الحياة وتحديات الأعداء لا سيما العدوين الصهيوني والتكفيري. هذان العدوان اللذان يتوعدان ويهددان في كل يوم شعوب هذه المنطقة وبلدانها بالمزيد من الدمار والقتل والتفجير.
“إسرائيل” تتحدث في كل يوم عن نزعتها العدوانية تجاه لبنان وتتوعد وتهدد بما ستفعله بلبنان في الحرب القادمة بينما بعض القوى السياسية في لبنان مستغرق في الكيد للمقاومة ولا يزال همه وشغله الشاغل نزع سلاح المقاومة.
هؤلاء غافلون عن شيء اسمه “اسرائيل” تهدد لبنان في كل يوم تبعاً لأسيادهم الإقليميين .
اليوم معظم الدول العربية غافلة عن مخاطر النزعة العدوانية الإرهابية “الاسرائيلية” ضد المنطقة ودولها وشعوبها، بل بعض هذه الدول كالسعودية ليست غافلة فقط ع” اسرائيل” وما تحضره للمنطقة بل متواطئة مع اسرائيل في إثارة الفتن المذهبية والعرقية في المنطقة، وتسهيل ودعم جماعات الارهاب التكفيري لتفتيت الشعوب والمجتمعات واستنزاف الجيوش والدفع باتجاه تسهيل تصفيتها وتدميرها وإسقاط حقوق الشعب الفلسطيني، ولا سيما حقه في العودة وتقرير المصير.
وبدل من أن تقف بعض الأنظمة الى جانب شعوبها المظلومة ضد “اسرائيل” وسياساتها العدوانية, نرى هذه الأنظمة تقف ضد شعوبها المطالبة بالحرية والكرامة وتعمل على قمعه بكل الوسائل والأساليب, كما يفعل النظام البحريني هذه الأيام بشعبه ورموزه الكبيرة..
ففي الإسبوع الماضي قام النظام البحريني بسحب الجنسية من العالم الجليل آية الله الشيخ عيسى قاسم في خطوة تأتي في سياق الخطوات المتهورة التي أقدم عليها النظام في الأشهر والأسابيع الأخيرة ولكنها خطوة تصعيدية بالغة الخطورة وغير محسوبة النتائج , وتدل على إفلاس النظام في مواجهة الحراك الشعبي السلمي الحضاري.
الحراك في البحرين بقي سلمياً طيلة خمس سنوات ولا يزال سلمياً, لكن عندما تقفل السلطة الأبواب أمام الإصلاح والحوار، وترفض الإستجابة لمطالب الشعب المحقة, وتقوم باجراءت تعسفية بالغة الخطورة في مقابل السلمية تطال رمزاً كبيراً كالشيخ عيسى قاسم فان “السلطة بحماقتها وتهوّرها وعنجهيتها هذه تدفع بالشعب البحريني إلى خيارات صعبة ستكون عاقبتها وخيمة على هذا النظام الديكتاتوري الفاسد”.
إسقاط الجنسية عن الشيخ قاسم هو بمثابة إسقاط للجنسية عن الشعب البحريني بكل مكوّناته, ولكن هذا الشعب لن يتخلى عن وطنه وحقه في العيش فيه بحرية وكرامة. وسحب الجنسية هو سحب لأخر أوراق التوت عن هذا النظام المتعفن والمتهالك والمتهاوي .
وما صدر من ردود فعل على هذه الخطوة الإستفزازية حتى الآن ليس كافياً, والمطلوب من المرجعيات الدينية والسياسية وهيئات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية ولا سيما الأمم المتحدة القيام بخطوات عملية وفعلية لمنع إقدام النظام على تنفيذ هذه الخطوة ولممارسة الضغط على النظام البحريني للتراجع عنها فوراً, وعن خطواته الأستفزازية, ولتغيير مساره السياسي نحو الحوار والتفاهم مع الشعب للخروج من الازمة السياسية المعقدة التي صنعها النظام بسبب سياساته الهوجاء وخضوعه للقوى الإقليمية والدولية.
والحمد لله رب العالمين
المصدر: خاص