في رسالته المفتوحة إلى العالم الإسلامي أواخر العام 2014، كتب عبد النور بيدار، أستاذ الفلسفة بجامعة صوفيا أنتيبوليس في نيس بفرنسا،: “وإذا كنت تريد أن تعرف كيف لا تنجب مستقبلاً مثل هذه الوحوش (داعش)… لا بدّ أن تبدأ بإصلاح التعليم الذي تعطيه أطفالك برمّته، أن تصلح كلّ مدرسة من مدارسك، وجميع أمكنة المعرفة والسلطة.. هذه وسيلتك الوحيدة كي لا تُنجب مثل هذه الوحوش“.
بكلماته الصادقة في مصارحة العالم الإسلامي تمكن بيدار،المفكر الفرنسي المسلم، من وضع يده على الجرح المفتوح. المشكلة تكمن هنا، في “التقهقر الوهابي المتعصّب والظلامي الذي ما يزال يعيث فساداً في كلّ مكان تقريباً داخل حدودك (العالم الاسلامي)، وهي وهابيّة تنشرها انطلاقاً من أماكنك المقدّسة في المملكة العربيّة السعوديّة كسرطان ينطلق من قلبك ذاته!”… المشكلة تكمن في التعليم الذي سمحت به وصاغت أسسه الوهابية.
عام 2014، قدّر موقع “Daily Paul” الأميركي المتخصص في الشؤون الأمنية عدد المقاتلين السعوديين في صفوف داعش بسبعة آلاف مقاتل ليحتلوا بذلك المرتبة الأولى في عدد المقاتلين لناحية الجنسية. وفي بداية العام 2015، نشر موقع “روسيا اليوم” إحصاءً أظهر احتلال السعوديين المرتبة الثانية في مقاتلي التنظيم.
صحيفة “الحياة” السعودية نفسها أقرت في تشرين الأول/اكتوبر 2014 أن المقاتلين السعودين نفذوا 60٪ من العمليات الانتحارية لداعش في العراق. وفي الفترة نفسها، ناقشت قناة “العربية” في أحد برامجها الحوارية الأسباب التي تجعل “السعوديين أكثر الانتحاريين في سوريا والعراق”.
ليست سورية والعراق فقط من كان انتحاريوها من السعوديين، التفجيرات والهجمات المسلحة في الإحساء والقطيف والدمام، وكذلك في الكويت نفذها سعوديون. فكيف تمكنت السعودية من صناعة الإرهاب؟
يحيل كلام المفكر الفرنسي عبد النور بيدار إلى أن جذور التكفير تكمن في التعليم. في المناهج التي تُقدم للأطفال، وينشأ عليها الجيل السعودي. وأبناء الدول التي تفتح على أراضيها مدراس سعودية من واشنطن إلى جاكرتا، مروراً بالرباط والجزائر ومدريد إلى باريس وروما وبرلين وبون الألمانيتين وفيينا موسكو، وصولاً إلى اسطنبول وأنقرة، ومن ثم إسلام أباد إلى كراتشي فنيودلهي وصولاً إلى بكين، حتى جيبوتي،. فيما قررت بريطانيا وإيرلندا إغلاق هذه المدارس.
تبدأ قصة المشكلة التعليمية منذ اليوم الأول لترسيم سياسة التعليم بالمملكة، حيث أخذت على عاتقها أن تعكس التصور الديني الرسمي الذي تتبناه سلطة الدولة باعتباره النموذج الوحيد والشرعي القابل للتعليم فيما تعتبر بقية المدارس العقائدية والفقهية مرفوضة وغير معترف بها رسميا، بل وينبغي محاربة “ضلالها وبدعها”.
في حقبة الستينات وإبان حكم فيصل بن عبدالعزيز، ازداد نفوذ جماعة الاخوان المسلمين في السعودية، بعد أن احتضنتهم المملكة السعودية في إطار صراعها مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر. لعب الاخوان الدور الأهم في تحديث مجال التعليم وصياغة البرامج التربوية، في ظل عجز المؤسسة الوهابية عن القيام بهذا الدور، وفق ما يوثق كتاب “زمن الصحوة.. الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية”، للباحث الفرنسي في العلوم السياسية ستيفان لاكروا. لعب الاخواني السوري محمد المبارك دوراً مهماً في ذلك، كما كان للاخواني المصري منّاع القطّان دور بارز في إقرار السياسة التعليمية في المملكة، والتي لاتزال قائمة إلى اليوم رغم “تنقيحات” العام 2003.
بعد أحداث أيلول/سبتمبر عام 2001، كُتب الكثير في الصحافة العربية والغربية عن ضغوط مارستها الإدارة الأميركية للدفع باتجاه تغيير المناهج التربوية، التي قيل يومها إنها تقف وراء العنف الذي يُمارس باسم الدين. صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية كتبت في 3 شباط/فبراير 2003 عن ذلك.
نقلت الصحيفة تصريحاً لوزير التعليم السعودي محمد الرشيد آنذاك: “يقول الناس ان النظام التعليمي هو السبب في المواقف العنيفة ضد البلدان والاديان الاخرى، ولكن هذا ليس صحيحاً. ولو كان صحيحاً فإن كل السعوديين الذين تلقوا تعليمهم تحت هذه المناهج كانوا سيشاركون في هذه الاعمال”. إلا أنها أوردت ما يرد على كلام الرشيد، فكتبت: “قامت السلطات السعودية بمراجعة كل الكتب الدراسية بحثا عن أية مظاهر للتطرف ووجدت ان 5 في المائة من المواد المقررة يجب حذفها”، إلا أن تنقيح المناهج التربوية لم يكن جدياً، لأن “الفريق الذي وضع منهج التعليم الديني في المدارس الحكومية هو نفسه من قام بالمراجعة.. مبقياً على المضمون ذاته”، وفق ما يذكر سعد الشريف في دراسة نشرتها مجلة “الحجاز”.
صورة تشكيل العقل التكفيري في السعودية تظهر من خلال البحث في مقرر التوحيد المعتمد في مناهجها، وتتضح أكثر ما إن عُرف أن المقرر نفسه، المستند إلى كتاب “التوحيد” لمحمد بن عبدالوهاب، يُدرس في المدارس التي أقامها تنظيم داعش في مدن كحلب والرقة.
ويعلق الباحث التاريخي السعودي عبدالله الشمري: “تنتشر داعش في المناطق التي تسيطر عليها العقيدة السلفية وكتب ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب ومشايخ الدعوة النجدية الوهابية وتدرسها.”
تؤكد وثيقة “سيـاسة التعليم بالمملكة العربية السعودية” أن “السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية تنبثق من الإسلام الذي تدين به الأمة عقيدة وعبادة وخلقا وشريعة وحكما ونظاما متكاملا للحياة ، وهي جزء أساسي من السياسة العامة للدولة”، والإسلام هنا يُقصد به الوهابية حصراً.
وفيما تؤكد الوثيقة الرسمية أن “العلوم الدينية أساسية في جميع سنوات التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي بفروعه، والثقافة الإسلامية مادة أساسية في جميع سنوات التعليم العالي”.
وتؤكد على ضرورة “توجيه العلوم والمعارف بمختلف أنواعها وموادها منهجاً وتأليفا وتدريسا وجهة إسلامية في معالجة قضاياها والحكم على نظرياتها وطرق استثمارها، حتى تكون منبثقة من الإسلام، متناسقة مع التفكير الإسلامي السديد”، والذي يُقصد به فكر محمد بن عبدالوهاب الذي يكفر مختلف الفرق الإسلامية الأخرى، ويخرجهم من دائرة الاسلام. وهو المقصود بعبارة “تنمية روح الولاء… بالبراءة من كل نظام أو مبدأ يخالف هذه الشريعة”.
وتشدد الوثيقة السعودية على أن “الجهاد في سبيل اللّه فريضة محكمة، وسنة متبعة، وضرورة قائمة، وهو ماض إلى يوم القيامة”، مضيفة أن من أهدافها ” إيقاظ روح الجهاد الإسلامي لمقاومة أعدائنا… والقيام بواجب رسالة الإسلام”.
فكيف ترسم المناهج التربوية في المملكة صورة العدو؟ وكيف تحدد هذه المناهج مسار “مجاهدته” الذي يأخذه إلى ساحات قتل المسلمين تحت عنوان الشرك والتكفير، ويبرر له غيابه عن ساحات مجاهدة الإحتلال والاستكبار بدواعي “طاعة ولي الأمر؟
أسئلة يجيب عليها الجزء الثاني من التقرير