تحوّل الجنوب السوري، منذ رحيل النظام في دمشق، إلى ساحة مفتوحة لإعادة رسم الخرائط الميدانية والسياسية، في سياق يسعى فيه الكيان الإسرائيلي إلى استثمار لحظة الفراغ والفوضى لإعادة تعريف قواعد الاشتباك وتفكيك منظومة الترتيبات الأمنية التي حكمت الجبهة السورية منذ اتفاق فضّ الاشتباك عام 1974.
ما يجري اليوم لم يعد مجرد تعديلات تكتيكية على خطوط التماس، بل يقترب من مشروع أوسع لإعادة هندسة الجغرافيا والوظيفة الأمنية والاقتصادية للجنوب السوري وربطها برؤية إسرائيلية طويلة المدى للأمن الإقليمي والتمدد نحو الشرق، مع ما يرافق ذلك من أبعاد ديمغرافية واستراتيجية عميقة.
تفكيك إرث 1974 وبناء واقع أمني جديد
تكرار الاعتداءات الإسرائيلية على العمق السوري، من غارات جوية يُقدَّر عددها بأكثر من ألف ضربة، وضربات برية موثّقة بعشرات عمليات التوغّل، يكشف عن انتقال واضح من سياسة “إدارة التهديد” إلى محاولة “إعادة تشكيل البيئة” في الجنوب. لم يعد الهدف محصوراً بتأمين حزام أمني ضيق على خط وقف إطلاق النار، بل باتت الأنظار تتجه إلى إعادة صياغة التوازنات السياسية والاجتماعية في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، كما ظهر في محاولة توظيف ملف الدروز وتقديم تل أبيب نفسها كـ”حامٍ للأقليات”.
على الأرض، رسّخ الاحتلال وجوده في شريط يمتد داخل الأراضي السورية على مساحة تُقدَّر بنحو 800 كلم مربع في أرياف القنيطرة ودرعا، بحسب وكالة الأناضول التركية، مع إنشاء قواعد عسكرية (9 قواعد) ونقاط مراقبة وتفتيش (10)، والسيطرة على مواقع حاكمة أبرزها المرصد السوري في جبل الشيخ، بما يتيح مراقبة عميقة باتجاه الداخل السوري واللبناني حتى تخوم الحدود العراقية. هذا الانتشار يعكس تحوّل الجنوب من “منطقة فصل” إلى عمق أمني متقدّم تتحكم به إسرائيل عسكرياً واستخبارياً.
يتزامن هذا المسار الميداني مع إعلان رئيس حكومة الاحتلال عن السعي لإقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح تمتد من محيط دمشق إلى مرتفعات الجولان المحتلة، في خطوة تُتوّج مساراً ميدانياً سبق الإعلان السياسي بسنوات.
وفي هذا الإطار، لفت المختص في الشأن الإسرائيلي علي حيدر في مقابلة مع موقع المنار، إلى أن منطقة الجنوب السوري تندرج ضمن خارطة التوسع الإسرائيلية منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إلا أن أسباباً داخلية وإقليمية حالت دون تنفيذ ذلك آنذاك، في حين أن الظروف الإقليمية اليوم تعتبرها إسرائيل مناسبة لتحقيق أطماعها، ولو بشكل تدريجي وعلى مراحل.
وبحسب المختص حيدر، فإن الكيان الإسرائيلي يسعى تحت عنوان حماية الأمن القومي الإسرائيلي، يسعى إسرائيل إلى إنشاء منطقة عازلة ومنزوعة السلاح تمتد إلى كامل الجنوب السوري وجنوب دمشق، إضافة إلى نسج علاقات مع بعض التجمعات السكانية في هذه المنطقة.
وشدد على أن المنطقة أمام أطماع توسعية وعوامل جغرافية ذات أبعاد أمنية تحاول “إسرائيل” السيطرة عليها وتطبيق المفهوم الاستراتيجي الذي تبلور بعد أحداث الأقصى، كما تحضّر نفسها لتكون عاملاً رئيسياً في المعادلة الداخلية السورية.
جبل الشيخ: منصة إنذار مبكر على المشرق
السيطرة الإسرائيلية على جبل الشيخ، أو “جبل حرمون”، تمثل أحد أبرز مكاسب مرحلة ما بعد رحيل النظام في دمشق، إذ يتحول هذا المرتفع، الذي يزيد ارتفاعه على 2800 متر فوق سطح البحر، إلى منصة إنذار مبكر تغطي سوريا ولبنان والأردن والعراق وشمال فلسطين المحتلة.
نشر منظومات مراقبة وتجسس فوق الجبل يمنح الجيش الإسرائيلي قدرة استثنائية على رصد التحركات العسكرية واللوجستية في سهل البقاع اللبناني ومسارات الإمداد المفترضة إلى المقاومة، ومراقبة العمق السوري حتى تخوم الحدود الشرقية، في مكسب استخباري طالما سعت إليه تل أبيب منذ 1967.
بهذا التموضع، يتحول جبل الشيخ إلى “عيون” متقدمة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية، ويُعاد إدماجه في خطاب “إسرائيل الكبرى” باعتباره جزءاً من المجال الرمزي والديني والاستراتيجي في آن معاً.
وفي الخلفية، تحسب تل أبيب لسيناريو انسحاب أميركي محتمل من شرق الفرات والتنف، ما يدفعها إلى ملء الفراغ بقدرات ميدانية سريعة الحركة تربط بين نقاط السيطرة في الجنوب السوري ومراكزها في الجولان وفلسطين المحتلة ضمن شبكة طرق عسكرية محمية بخنادق وسواتر ترابية.

المنطقة العازلة و”ممر داوود”.. عمق إستراتيجي جديد
هذا الطرح أعاد إلى الواجهة ما يُسمّى في بعض الدوائر الإسرائيلية بـ”ممر داوود”، وهو تصوّر لممر بري يمتد من الجولان مروراً بدرعا والسويداء وحمص وصولاً إلى شرق الفرات على تخوم الحدود السورية مع العراق وتركيا، قبل أن ينتهي في كردستان العراق، بما يعني عملياً إنشاء شريان جغرافي–أمني يسمح للكيان بكسر عزلته البرية والتقدّم نحو مناطق ذات وزن نفطي واقتصادي كبير.
ولا يهدف هذا التصور فقط إلى إنشاء حزام أمني يطيل عمر الكيان، بل يترجم أيضاً ما يعرف بـ”استراتيجية الأطراف”، التي تقوم على بناء شبكات ولاء في الهوامش البعيدة عن العواصم، من الدروز في الجنوب السوري إلى العشائر في الشرق السوري وغرب العراق.
وهو لا يقتصر على توسيع هامش الحركة العسكرية والاستخبارية، بل يهدف أيضاً إلى خلق “عمق إستراتيجي” جديد يمنح “إسرائيل” قدرة أكبر على التأثير في معادلات الإقليم من بوابة الممرات البرية وخطوط الطاقة والتجارة، لتتحول تغييرات قواعد الاشتباك في الجنوب – عبر تحويل التوغلات المؤقتة إلى حضور عسكري شبه دائم – إلى جزء من مشروع أوسع لإعادة توزيع موازين القوى في المشرق.
وبالتالي، فإن الاحتلال وفق المختص في الشأن الإسرائيلي علي حيدر، يسعى تحت غطاء الأمن، لأن يكون له الكلمة الفصل في أي ترتيب مستقبلي لسوريا، وفي تحديد مستقبل النظام السوري الجديد، لافتاً إلى أن ما يحدث اليوم يشكل متغيرات استراتيجية هائلة لم تحدث منذ إنشاء الكيان الإسرائيلي، ولا سيما في سوريا منذ عام 1948، وتحمل مخاطر كبيرة على سوريا ولبنان والمنطقة بأسرها.
“صوفا 53”.. طريق عسكري لبناء واقع دائم
ضمن هذه الرؤية، يمثّل مشروع “صوفا 53” حلقة حيوية في شبكة السيطرة الميدانية؛ إذ يربط بين مواقع إسرائيلية في القنيطرة (أم العظام، القحطانية، الحميدية، جباتا الخشب) عبر طريق عسكري موازٍ لخط فضّ الاشتباك 1974، تحيط به خنادق وسواتر بارتفاع 5–7 أمتار.
يُفترض أن يكتمل المشروع خلال وقت زمني قصير، بما يضمن حرية حركة الوحدات الإسرائيلية في العمق السوري شرقاً وغرباً، ويكرّس عملياً واقع “الطريق المحظورة” التي تُدار أمنياً من جانب واحد، وتُستخدم كعمود فقري لربط الجنوب السوري بمسارات أوسع نحو الشرق، وصولاً إلى الحدود العراقية، انسجاماً مع فكرة “ممر داوود”.
ولا يقتصر الحراك الإسرائيلي على إعادة انتشار عسكري، بل يتعداه إلى تغييرات ديمغرافية عميقة في قرى تقع ضمن الشريط العازل وخارجه، عبر الهدم والتهجير وإعادة تشكيل البنية العمرانية.
ففي قرية الحميدية قرب القنيطرة، وثّقت تقارير حقوقية هدم ما لا يقل عن 12 مبنى بعد طرد السكان، فيما شهدت جباتا الخشب عمليات تجريف واسعة طالت أراضي زراعية ومحمية غابات يفوق عمرها القرن، مع منع الأهالي من الوصول إلى أراضيهم، في واحدة من أكبر عمليات اقتطاع الأراضي منذ السبعينيات.
كما وثّقت منظمات دولية، بينها هيومن رايتس ووتش، حالات مصادرة منازل وهدم ممتلكات المدنيين وحرمانهم من مصادر رزقهم، إضافة إلى نقل محتجزين سوريين إلى داخل الكيان الإسرائيلي بصورة غير قانونية، في خرق واضح لقواعد القانون الدولي الإنساني التي تحظر الترحيل القسري والتدمير غير المبرر للممتلكات في الأراضي المحتلة. بهذا، تتحول سياسة “الأمن الحدودي” إلى مشروع متكامل للهندسة السكانية يهدف إلى خلق واقع يصعب التراجع عنه في أي تسوية مقبلة.

من الجنوب السوري إلى الضفة الغربية
تمدد الحدود الأمنية الإسرائيلية في الجنوب السوري يحمل انعكاسات مباشرة على ملف الضفة الغربية. فحين يصبح جبل الشيخ والجنوب السوري جزءاً من العمق الأمني الذي يطل على بحيرة طبريا ومصادر المياه، تتحول الضفة، في الحسابات الإسرائيلية، من “هامش حدودي قابل للتفاوض” ضمن سيناريو حل الدولتين إلى منطقة أقرب إلى الداخل الاستراتيجي.
هذا التصور يجعل التراجع عن أجزاء كبيرة من الضفة أكثر كلفة من الناحية الأمنية، ويُبقي الباب مفتوحاً لسيناريوهات خطيرة، مثل نقل جزء من سكان الجنوب السوري إلى الضفة، أو العكس، في إطار عمليات تهجير متبادلة تندرج ضمن إعادة رسم الخرائط السكانية في المشرق.
الدكتور جمال زهران: الكيان يسعى إلى السيطرة على المنطقة وإعادة رسم موازين القوى فيها
وفي هذا السياق، اعتبر أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة السويس الدكتور جمال زهران، أن سيطرة الكيان الإسرائيلي على مناطق عسكرية في الجنوب السوري تُشكّل تطورًا بالغ الخطورة، ولا سيما في ظل إحكام السيطرة على المرتفعات الاستراتيجية، وفي مقدمتها جبل الشيخ وحتى مشارف دمشق، وما لذلك من انعكاسات مباشرة على المشهد الأمني والسياسي في سوريا والمنطقة.
وأوضح زهران أن هذه السيطرة تبرز أهمية الممر الذي يخطط له الكيان الإسرائيلي، والمعروف بـ«ممر داود»، والذي يهدف إلى ربطه بشمال العراق وصولًا إلى آسيا، معتبرًا أن هذا الممر يحمل أبعادًا استراتيجية خطيرة، ويأتي ضمن تخطيط أميركي–صهيوني لإحكام السيطرة على المنطقة وإعادة رسم موازين القوى فيها.
وأشار إلى أن هذا التمدد الاستيطاني في الأراضي السورية يُمثّل محاولة لإحداث تغييرات جوهرية في وحدة سوريا وبنيتها، واصفًا المرحلة الحالية بأنها من أصعب المراحل التي تمر بها البلاد، في ظل مساعٍ متواصلة لإحكام السيطرة على الجنوب السوري وعلى سوريا عموماً بعد إضعاف الدولة السورية وسلطتها.
وفي ما يتعلق بالبعد العربي للجولان من زاوية الأمن القومي، أوضح زهران أن الجولان يُمثّل موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية لكونه منطقة مرتفعة، لافتًا إلى أن الولايات المتحدة منحت شرعية للوجود الصهيوني فيه، في إطار سياسات الدعم والانحياز، ما جعل الأوضاع أكثر تعقيدًا وإثارة للقلق.
كما أكد زهران على أن المشهد الراهن مقلق، إلا أن التاريخ يشير، بحسب تعبيره، إلى دورة ستؤدي في النهاية إلى إزاحة الكيان الصهيوني من هذه المنطقة، مع عودة سوريا إلى دورها ومكانتها السابقة.
البعد الاقتصادي والتجاري.. مياه، زراعة، نفط
مقابل الرؤية الأمنية الإسرائيلية تجاه الجولان والجنوب السوري بشكل عام، تبرز الأبعاد الاقتصادية للتحركات الإسرائيلية؛ فالكيان الإسرائيلي ينظر إلى هذه المنطقة بوصفها خزاناً حيوياً للمياه والأراضي الزراعية والفرص الاستثمارية، ما يجعل التمسك بها جزءاً من معادلة بقاء الكيان واستدامة تفوقه في المشرق.
تلعب هضبة الجولان وبحيرة طبريا دوراً مركزياً في “أمن إسرائيل المائي”، إذ تشير تقديرات إلى أن ما يصل إلى قرابة 40% من احتياجات الكيان من المياه العذبة يرتبط بمصادر آتية من الجولان، سواء عبر بحيرة طبريا أو الأحواض المغذية لها، فضلاً عن إشراف الهضبة المباشر على الجليل المحتل، بما يربط الجغرافيا بالمعادلة الوجودية للمياه ويُفسّر تشدد النخب السياسية والعسكرية حيال أي حديث عن الانسحاب منها.
في الميدان، تترجم هذه الرؤية عبر شبكة واسعة من الاستثمارات الزراعية والصناعات الغذائية والتحويلية المعتمدة على خصوبة التربة الجولانية، حيث يشكل هذا القطاع ما يُقدَّر بنحو ثلث النشاط الاستثماري في المنطقة المحتلة، فيما تُسجَّل معظم الشركات العاملة هناك في الكيان أو في مستوطنات الضفة والجولان، بما يعمّق عملية دمج الهضبة في الاقتصاد الإسرائيلي ويحوّل الاحتلال إلى حالة “استثمارية مربحة” لا مجرد واقع عسكري.
إلى جانب الماء والزراعة، تسعى حكومة الاحتلال إلى استكشاف واستغلال الموارد الباطنية في الجولان، وعلى رأسها النفط؛ ففي عام 2016، سمحت “لجنة المنطقة الشمالية” لشركة “Afek” الإسرائيلية بتمديد عمليات التنقيب لسنتين إضافيتين رغم اعتراض منظمات بيئية حذرت من مخاطر الحفر على المخزون المائي والصحة العامة، في مسار يربط توسّع مشروع الاحتلال بإمكان تحقيق “انتعاش اقتصادي وتقليص للفجوات الاجتماعية” داخل الكيان.
من أبرز أوراق القوة التي يمنحها الجنوب السوري للاحتلال أيضاً القدرة على التحكم بالطرق الإقليمية الحيوية التي تربط الخليج بتركيا والمتوسط عبر الأردن وسوريا، ولا سيما من خلال السيطرة على درعا بوصفها عقدة وصل، وعلى الطرق الرئيسة نحو ريف دمشق الجنوبي والغربي، مثل الطريق 7 بين خان أرنبة ودمشق، والطريق 119 الذي يتصل بالطريق 98 داخل المنطقة العازلة وصولاً إلى درعا والسويداء.
وإلى جانب ذلك، تشكل السويداء وجبل الشيخ خزاناً مائياً أساسياً يغذّي أنهاراً مثل الوزاني وبانياس والحاصباني والأردن، بما يوفر للكيان كميات كبيرة من المياه سنوياً، ويعزز قدرتها على إدارة ملف المياه كورقة ضغط استراتيجية إضافية على الإقليم.
في المحصلة، يكشف تداخل الأبعاد الأمنية والجيوسياسية والاقتصادية والتجارية أن الجنوب السوري يقف أمام عملية إعادة تشكيل قسرية للحدود والأدوار، في ظل غياب توازن الردع الذي كان يُقيّد السلوك الإسرائيلي في العقود السابقة. وإذا استمر هذا المسار من دون معادلة مضادة، فإن ما يُفرض اليوم كـ”ترتيبات مؤقتة” على الأرض مرشّح للتحوّل إلى معالم دائمة لخرائط جديدة تُرسم بقوة السلاح لا بقرارات التفاوض.
الاحتلال يهدد الأمن القومي العربي عبر جبل الشيخ و”ممر داود”
وفي هذا السياق، أوضح الباحث والمفكر المصري، رئيس مركز يافا للدراسات والأبحاث في القاهرة، الدكتور رفعت السيد أحمد، أن البقعة الجغرافية التي سيطر عليها الاحتلال تشكّل نحو 95% من مساحة محافظة القنيطرة، وتضم قرابة 20 بلدة وقرية فيها، فضلًا عن مناطق واسعة من الجولان وجبل الشيخ.
وأوضح في مقابلة مع موقع المنار، أن جبل الشيخ يكاد يكون قد تم احتلاله بالكامل، وبيّن أن الكيان الإسرائيلي يحاول إحاطة نفسه بمناطق يصفها بأنها “آمنة” إلى حدّ ما، لتحقيق ما يسمّيه الأمن القومي الإسرائيلي بالقوة، لا عبر المفاوضات أو تفاهمات السلام، مؤكدًا أن فرض الأمر الواقع يتم “تحت قصف النار”، مع الإقرار بأن مثل هذه الاستراتيجيات لا تدوم تاريخيًا.
واعتبر السيد أحمد أن الهدف الإسرائيلي من كل ذلك هو ترسيخ الأمن القومي الإسرائيلي بالقوة، مشدداً على أن أثر هذا المسار على الأمن القومي العربي كبير وخطير، لأن من يستولي على قمة جبل الشيخ يستطيع، أن يهدّد عسكريًا الرياض والقاهرة، وليس دمشق فحسب، في ظل التطور التكنولوجي الذي يمتلكه الكيان الإسرائيلي بدعم غربي لوظيفة إقليمية واسعة.
وبحسب تقديره، فإن “إسرائيل” قادرة من خلال سيطرتها على الجولان وجبل الشيخ على تهديد الأمن القومي العربي ككل، لا سوريا وحدها، وشدّد على أن الخطر على الأمن القومي العربي يتمثّل في أن من يسيطر على هذه المناطق يمكنه استراتيجيًا وعسكريًا أن يهدّد الدول العربية المحيطة، محذرًا من أن عدم تحرّر هذه الأراضي وعودتها إلى القيادة والسيطرة العربية سيُبقي الخطر قائمًا على سيناء، وعلى جنوب الأردن، وعلى الأردن ككل، وربما على المناطق النفطية في السعودية، داعيًا “العروش” العربية إلى الانتباه جيدًا لهذا التهديد الآتي.
وأشار كذلك إلى أن للكيان الإسرائيلي طموحًا بما يسمّى “ممر داود”، أي التمدّد باتجاه الأكراد في العراق عبر الجنوب السوري، معتبرًا أن هذا هدف أكبر يهدّد الأمن القومي العربي في عمقه. ودعا الدول العربية، ولا سيما العراق وسوريا، إلى الانتباه لهذا المشروع، وكذلك سائر العرب، خصوصًا في مصر والسعودية، معتبرًا أن الأردن “شبه منتهٍ” في هذا السياق، لأنه سيكون، بحسب وصفه، معبرًا لـ”ممر داود” القاتل في المرحلة المقبلة.

لبنان في قلب العين الصهيونية انطلاقاً من جبل الشيخ.. وقدرات مراقبة تمتد من دمشق إلى البقاع اللبناني
وفي هذا الإطار، لفت محرر الشؤون العبرية في قناة المنار، حسن حجازي، إلى أن الكيان الإسرائيلي يتعامل مع منطقة جنوب سورية بوصفها منطقة ذات بعد استراتيجي بالغ الحساسية، ولا سيما في ما يتعلق بالجانب اللبناني.
وأوضح حجازي، في مقابلة مع موقع المنار، أن قمّة جبل الشيخ السورية التي يسيطر عليها الاحتلال في الوقت الراهن، منحت الكيان قدرة واسعة على المراقبة والاستطلاع المباشر باتجاه المنطقة الممتدة من سفوح جبل الشيخ وصولاً إلى دمشق. وأشار إلى أن هذا النفوذ الاستطلاعي ينسحب كذلك على منطقة البقاع اللبناني، تحديداً على الخط الواصل بين بيروت ودمشق وصولاً إلى الحدود الجنوبية.
وأشار إلى أن السيطرة على هذه القمة تشكّل عنصراً استراتيجياً يرفع من مستوى الرصد، وقد تتحوّل إلى جزء من عملية التراكم لأي مبادرة قتالية أو تحرك عسكري قد يقدم عليه الاحتلال مستقبلاً.
وأضاف أن تموضع الاحتلال بمحاذاة الحدود اللبنانية من داخل الأراضي السورية يتيح له منفذاً عملياً لتنفيذ عمليات عسكرية باتجاه لبنان، الأمر الذي يجعل الخاصرة اللبنانية مكشوفة من جهة البقاع، ويفتح المجال أمام خطط تطويق بعض المناطق وفصل الجنوب عن الشمال، وفق مقاربات متداولة لدى عدد من المحللين.
إعادة تشكيل الجغرافيا
تُظهِر المعطيات الميدانية والسياسية أن ما يجري في الجنوب السوري يتجاوز كونه تحوّلاً في قواعد الاشتباك إلى كونه إعادة تشكيل عميقة لوظيفة الجغرافيا وحدود النفوذ في المشرق، بحيث يتحول الشريط الممتد من الجولان إلى تخوم البقاع والضفة الغربية إلى عمق أمني–جيوسياسي متداخل تتقاطع فيه الحسابات الإسرائيلية والإقليمية والدولية.
وفي ظل غياب معادلة ردع عربية صلبة أو تفاهمات واضحة ترسم حدود الأدوار، يبدو هذا المسار مرشحاً لتكريس وقائع ميدانية يصعب التراجع عنها في أي تسوية مقبلة، بما يفتح الباب على أسئلة مفتوحة حول مستقبل السيادة السورية، وأمن لبنان والأردن، وحدود الاشتباك الجديدة في الإقليم بأسره.
المصدر: موقع المنار
