الثلاثاء   
   30 12 2025   
   9 رجب 1447   
   بيروت 13:26

كيف نميز النسيان الطبيعي عن الخرف ؟

حين يتعثر أحدنا في تذكر اسم شخص يعرفه جيداً، أو يدخل غرفة ثم يقف لحظة محاولاً استعادة سبب قدومه، يفرض سؤال نفسه بهدوء مقلق: هل ما يحدث نسيان طبيعي أم إشارة مبكرة إلى الخرف؟ ومع ارتفاع متوسط العمر المتوقع، وتنامي الحديث عن ألزهايمر وأمراض الذاكرة، لم يعد النسيان مجرد تفصيل يومي عابر، بل تحول لدى كثر إلى هاجس صحي ونفسي.

لكن الأبحاث الحديثة تظهر الفرق بوضوح بين التغيرات المعرفية الطبيعية المصاحبة للتقدم في العمر، وبين التدهور المرضي الذي يُصنف ضمن الخرف.

فالفارق الجوهري لا يكمن في وقوع النسيان بحد ذاته، بل في نمطه، وتكراره، واتساع أثره في القدرة على العيش باستقلالية، لذلك، ليس كل نسيان مدعاة للقلق، كذلك فإن بعض الإشارات التي يُتغاضى عنها قد تحمل في طياتها إنذاراً مبكراً يستحق التوقف والفهم، لا الذعر ولا التجاهل.

نسيان مدعاة للقلق

وفق تعريف مركز “مايو كلينك” يستخدم مصطلح النسيان لوصف صعوبة تذكر المعلومات أو الأحداث، وغالباً ما يكون جزءاً من التغيرات الطبيعية المصاحبة للتقدم في العمر، ولا يشير بالضرورة إلى مشكلة مرضية.

أما فقدان الذاكرة فيُعد حالاً طبية أكثر وضوحاً، يتمثل في فقدان الذكريات أو صعوبة تكوين ذكريات جديدة أو استرجاع القديمة، وقد يكون ناتجاً من إصابة دماغية أو مرض أو عوامل أخرى، ويؤثر بدرجات متفاوتة في أداء الأنشطة اليومية.

في المقابل، يشير الخرف إلى تدهور ملحوظ ومستمر في عدد من الوظائف العقلية، من بينها الذاكرة والتفكير واللغة والحكم على الأمور، بما يعوق قدرة الشخص على العيش باستقلالية، وهو ليس مرضاً واحداً بحد ذاته، بل مصطلح شامل لمجموعة من الأعراض، ويُعد داء ألزهايمر أكثر أسبابه شيوعاً.

تشير أبحاث حديثة في علوم الأعصاب إلى أن النسيان الطبيعي المرتبط بالتقدم في العمر لا يعني اختفاء المعلومات من الذاكرة، بل هناك بطء في الوصول إليها. دراسة نشرت عام 2022 بعنوان “الشيخوخة المعرفية الطبيعية، “ما الذي يتغير وما الذي يبقى ثابتاً؟” في مجلة “نيتشر ريفيوز” لعلم الأعصاب، أوضحت أن التقدم في العمر يؤثر أساساً في سرعة المعالجة والانتباه والذاكرة العاملة، بينما تبقى الذاكرة الطويلة المدى والمعرفة المتراكمة أكثر استقراراً لدى معظم الأشخاص الأصحاء.

في هذا السياق، يوضح الباحثون أن نسيان الأسماء أو التفاصيل الموقتة غالباً ما يكون نتيجة تأخر في الاستدعاء، إذ يحتاج الدماغ إلى وقت أطول لتنظيم المعلومات والوصول إليها، لا بسبب فقدانها، لذلك، يستطيع الشخص في الغالب تذكر المعلومة لاحقاً، خصوصاً عند إعطائه تلميحاً بسيطا.ً

وتؤكد دراسة أخرى صادرة عام 2023 عن المعهد الوطني الأميركي للشيخوخة بعنوان “تمييز النسيان الطبيعي عن التدهور المعرفي المبكر” أن النسيان الطبيعي لا يؤثر في القدرة الوظيفية اليومية، فإدارة المال والتزام المواعيد واستخدام الأجهزة والتنقل في الأماكن المألوفة، تبقى جميعها سليمة.

وشددت الدراسة على أن التوتر المزمن وقلة النوم وتعدد المهام الرقمية، من أكثر العوامل التي تضخم الإحساس بالنسيان حتى لدى صغار السن، مما يجعل الذاكرة مرآة للحال النفسية والجسدية بقدر ما هي مؤشر عصبي.

حين يتحول النسيان إلى عجز وظيفي

على النقيض من ذلك، لا يصنف الخرف طبياً بوصفه مشكلة نسيان وحسب، بل ينظر إليه كمتلازمة تتسم بتراجع تدرجي في عدد من القدرات المعرفية، مما ينعكس مباشرة على قدرة الفرد على إدارة شؤون حياته اليومية بصورة مستقلة، تقرير علمي شامل نشر عام 2024 بعنوان “الوقاية من الخرف، التدخل، والرعاية”، صادر عن لجنة “ذا لانسيت” الدائمة للخرف، شدد على أن التأثير الوظيفي هو الفاصل الحقيقي بين النسيان الطبيعي والخرف.

فالمصاب بالخرف لا ينسى الأحداث القريبة فقط، بل يعجز عن إدارة شؤون حياته المعتادة: يكرر الأسئلة من دون إدراك، ويضيع في أماكن مألوفة، ويواجه صعوبة في التخطيط أو اتخاذ القرار، وقد يخطئ في استخدام أدوات بسيطة اعتاد عليها أعواماً، وغالباً ما ترافق ذلك تغيرات نفسية وسلوكية، مثل الانسحاب الاجتماعي أو التهيج أو الشكوك غير المبررة، وهي أعراض تؤكد الدراسات الحديثة أنها جزء من المسار المرضي، لا مجرد رد فعل نفسي.

وبين النسيان الطبيعي والخرف تقع حال وسطية تعرف بالاختلال الإدراكي البسيط، دراسة طولية كبيرة نشرت عام 2021 بعنوان “الاختلال الإدراكي البسيط: المسارات السريرية والتنبؤ بالتطور” في مجلة “جاما” لعلم الأعصاب، أوضحت أن هذه الحال ليست مساراً واحداً، فبينما يتطور بعض المصابين بها إلى الخرف خلال أعوام المتابعة، تستقر حال نسبة ملحوظة، بل تتحسن لدى آخرين عند معالجة عوامل قابلة للتعديل مثل اضطرابات النوم والاكتئاب وضعف السمع ونمط الحياة الخامل.

وتتفق الدراسات الحديثة على نقطة محورية بأن ليس كل تراجع في الذاكرة بداية خرف، لكن تجاهل التغيرات الوظيفية المتكررة قد يؤخر التشخيص والتدخل، ولهذا، فإن فهم الفارق بين النسيان الطبيعي والتدهور المرضي لم يعد مسألة طمأنة فقط، بل خطوة أساسية لحماية جودة الحياة على المدى الطويل.

وفي السياق ذاته، أعاد تقرير لجنة “ذا لانسيت” الصادر عام 2024 تسليط الضوء على دور الوقاية، مؤكداً أن ما يقارب 40 في المئة من حالات الخرف عالمياً قد يكون مرتبطاً بعوامل قابلة للتعديل عبر نمط الحياة، مثل النشاط البدني وصحة السمع وضبط ضغط الدم والتعليم المستمر والعلاقات الاجتماعية.

المصدر: الاندبندنت