الأحد   
   16 11 2025   
   25 جمادى الأولى 1447   
   بيروت 17:32

تدمير متحف قصر الباشا في غزة وسرقة 17 ألف قطعة أثرية على يد جيش الاحتلال

يشكّل تدمير متحف قصر الباشا في مدينة غزة وسرقة ما يقارب 17 ألف قطعة أثرية على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أكبر الخسائر الثقافية التي شهدها القطاع خلال الحرب الأخيرة، في ضربة استهدفت أحد أبرز معالم التراث الفلسطيني.

كان المتحف، الواقع في قلب المدينة القديمة، يحتضن مجموعات نادرة تعود إلى حضارات متعاقبة مرّت على فلسطين. وبعد توقّف القصف، لم يعثر القائمون عليه سوى على عشرين قطعة فقط بين الركام، ما يعكس حجم المأساة التي لحقت بتاريخ المدينة وذاكرتها.

معلم تاريخي يعكس ذاكرة المدينة

يُعدّ متحف قصر الباشا من أهم المعالم الأثرية في قطاع غزة، ويستند إلى تاريخ معماري وثقافي يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي حين شُيّد في العهد المملوكي، قبل أن يشهد توسعات في العهد العثماني، ما جعله نموذجًا معماريًا فريدًا يعكس طبقات التاريخ الحضاري للمدينة.

تحوّل القصر عبر العقود من مقرّ للحكم والإدارة إلى متحف وطني يحتضن آلاف القطع الأثرية الممتدة من العصور الكنعانية والآرامية إلى الإسلامية والبيزنطية، بينها أدوات فخارية، عملات نادرة، مجوهرات، أسلحة، ومخطوطات. وأسهم هذا الإرث الثري في إبراز الدور الحضاري لغزة كممرٍ تجاري وثقافي بين القارات.

ورغم الحصار، ظل المتحف مركزًا للتوثيق والترميم ومقصدًا للباحثين والطلاب والزائرين، قبل أن يُدمَّر بالكامل وتُنهب محتوياته في الحرب الأخيرة، في حادثة تُعدّ الأكبر منذ تأسيسه.

سرقة منظمة واستهداف مباشر

بحسب وزارة السياحة والآثار في غزة، كان مخزن المتحف يحتوي على نحو 17 ألف قطعة أثرية موثقة ضمن سجلات إلكترونية وورقية، من بينها قطع نادرة من الفترات الكنعانية والرومانية والإسلامية. وبعد انتهاء القصف، تبيّن أن المخزن قد فُرغ بالكامل تقريبًا، فيما لم يُعثر سوى على بضع عشرات من القطع المحطمة والمتفحمة.

وتشير شهادات العاملين إلى أن عملية الإخلاء تمت بطريقة منظمة، إذ شوهدت صناديق كبيرة تُنقل من داخل المتحف في الأيام الأولى للحرب، ما أثار شبهات واسعة حول نقل المقتنيات إلى خارج غزة في إطار عملية نهب منظمة نفذتها قوات الاحتلال.

كما أظهرت صور الأقمار والصور الميدانية أن القصف استهدف بشكل مباشر قاعات العرض وغرف الحفظ، ما أدى إلى تدمير السجلات الورقية وتجريف الأرشيف. ويرى مختصون أن هذه السرقة لم تكن عشوائية، بل عملية مدروسة استهدفت القطع الأعلى قيمة علمية ومادية.

اجتثاث للذاكرة الفلسطينية

لا يقتصر فقدان متحف قصر الباشا على خسارة مبنى أثري، بل يتعداه إلى اجتثاث جزء جوهري من الذاكرة الجمعية لسكّان غزة. فقد كانت المقتنيات المنهوبة تمثل سجلًا ماديًا نادرًا لتاريخ المدينة، وتشكّل مرجعًا لا غنى عنه للباحثين في تاريخ المنطقة وحضاراتها القديمة.

ويصف خبراء التراث الثقافي سرقة هذا العدد الهائل من القطع بأنها “إبادة ثقافية”، تستهدف محو الحضور الفلسطيني من خلال طمس رموزه الحضارية والتاريخية. ويرى هؤلاء أن خروج هذه المقتنيات من غزة يعني ضياع تسلسل أثري يساعد على فهم طبقات التاريخ المحلي الممتد منذ آلاف السنين.

جهود توثيق وملاحقة دولية

في ظل الدمار الهائل وفقدان آلاف القطع، بدأت المؤسسات الفلسطينية سباقًا مع الزمن لتوثيق ما تم تدميره وما فُقد من مقتنيات، إذ شرعت وزارة السياحة والآثار بإعداد قوائم محدثة بالقطع المسروقة استنادًا إلى الصور والسجلات القديمة وشهادات العاملين.

كما أطلق باحثون ومؤرخون محليون مبادرات رقمية لتجميع أرشيف بصري لجميع مقتنيات المتحف، بهدف حفظ الذاكرة المفقودة ومواجهة محاولات طمس التاريخ.

وعلى الصعيد الدولي، دعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى فتح تحقيق بشأن اختفاء المقتنيات، معتبرة أن تدمير المتحف وسرقة محتوياته خرقٌ فادح للقوانين الدولية التي تحظر نهب الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة.

وشملت الجهود أيضًا المجلس الدولي للمتاحف (ICOM)، الذي أدرج القطع الفلسطينية المنهوبة ضمن “القوائم الحمراء” لتحذير المتاحف ودور المزادات حول العالم من اقتنائها أو تداولها بشكل غير قانوني.

جرح ثقافي مفتوح

يرى المؤرخون أن خسارة متحف قصر الباشا تمثل صدمة جماعية ومأساة ثقافية غير مسبوقة لغزة، إذ حوّل الاحتلال متحفًا كان شاهدًا على تاريخ المدينة إلى ركام، وسرق شواهدها لتغيب عن أجيالها القادمة.

وبينما تتواصل الجهود المحلية والدولية للتوثيق والمطالبة باستعادة المسروقات، يؤكّد خبراء أن الخطر الأكبر يكمن في محاولة استبدال الرواية الفلسطينية التاريخية بروايات بديلة، وهو ما يجعل الحفاظ على الذاكرة الموثقة، ولو رقميًا، ضرورة وطنية وثقافية.

تدمير متحف قصر الباشا وسرقة مقتنياته لا يمثلان فقدانًا مادّيًا فحسب، بل ضربة لهوية مدينة كاملة قاومت قرونًا من الغزوات، وظلّت محافظة على تاريخها الحيّ رغم الحصار والحروب. وفي وجه هذا الاجتثاث المنظم، تبقى إرادة صون الذاكرة الفلسطينية فعل مقاومة بحد ذاته.

المصدر: وكالة شهاب