الثلاثاء   
   21 10 2025   
   28 ربيع الثاني 1447   
   بيروت 21:26

تسييس القضاء وقمع الحريات وتوسيع الإنقسام ..قراءة في ولاية ترامب الثانية

يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يخرج يومًا من عباءة رجل الأعمال، حتى وهو جالس في المكتب البيضاوي. فالرجل الذي اشتهر بعبارته “You’re fired” جعل من البيت الأبيض مسرحًا جديدًا لاستعراض ذاته، ولكن على حساب دولةٍ بأكملها. تحت شعارات “أميركا أولًا” و“استعادة العظمة”، مارس ما يمكن وصفه بـ”الشعبوية المترفعة”، تلك التي تلبس ثوب الوطنية وتخفي تحتها بذور التمييز والعنصرية، وكأنّ المواطنة في عهده امتياز وراثي لا يُمنح إلا لـ”البيض الأصلاء”.

أحد أبرز تجليات التمييز العنصري في إدارة ترامب تكمن في ما يبدو من طردٍ أو استبعاد لمسؤولين من اصحاب البشرة الملونة، ليس بسبب تقصير مهني، بل لأن ولاءهم أو موقفهم لم يتماشى مع الرؤية الشخصية للرئيس. مثلاً تشارلز “سي كيو” براون جونيور (Charles “C.Q.” Brown Jr) — الذي كان ثاني ضابط يرأس هيئة رؤساء الأركان المشتركة الأميركية — أُقيل فجأة في شباط/فبراير 2025 ضمن عملية إعادة تشكيل واسعة في البنتاغون، ويُنظر إلى الأمر على أنه جزء من حملة استهداف لقادة دعموا سياسات التنوع والمساواة.

كما طُرِدت غوين ويلكوكس (Gwynne Wilcox)، وهي أول امرأة من اصحاب البشرة الداكنة تشغل منصباً في مجلس العلاقات العمالية الأميركية (NLRB)، في قرار وصفه بعض الحقوقيين بأنه “غير قانوني” ويهدف إلى ضرب استقلالية المؤسسات بدل التعامل معها كأفرادٍ يرفضون الانصياع.

في المقابل، يعكس فريق ترامب قلة الإحترام من خلال ردود افعاله، وهذا ما حدث عندما سأل مراسل صحيفة هافينغتون متحدثة البيت الأبيض كارولين ليفيت حول مكان اجتماع الرئيسين ترامب وبوتين : من اختار بودابست؟ وردت بالقول: “أمك”.

لم يعد مستغربًا في هذه المرحلة أن يحتقر ترامب نصف البلاد، أو أن يتعامل مع المدن الأمريكية كأنها مستعمرات متمرّدة يجب إخضاعها بالقوة. فهذا الرجل سبق أن قال للجيش إنه ينبغي استخدام مدننا “كمناطق تدريب” للعمليات العسكرية الخارجية، وأرسل قوات وجنودًا اتحاديين لبثّ الرعب في لوس أنجلوس وغيرها من المدن. لقد أصبحت محاولات ترامب لتحويل سكّان أمريكا الزرقاء من مواطنين إلى رعايا أمرًا اعتياديًا لدرجة أنها بالكاد تُثير العناوين الصحفية بعد الآن.

لم يكتفِ ترامب بخطاب الكراهية، بل حوّل مؤسسات الدولة إلى أدواتٍ في يده. أغلق الحكومة كما يُغلق متجرًا خاسرًا حين رفض الكونغرس تمويل جداره الحدودي، وترك عشرات الآلاف من الموظفين بلا رواتب. أما القضاء، فحاول تطويعه بالتهديد والتشكيك، حتى صار القانون في نظره ما يوافق هواه. هكذا اختُزلت الديمقراطية الأميركية في نزوات رجلٍ يرى نفسه القانون والتاريخ والقدر.

وكان ترامب قد وصف القضاة بأنهم “حمقى يسعون لتجريده من صلاحياته”، ودعا إلى عزل قاضٍ فيدرالي سعى إلى وقف ترحيل أكثر من 200 مهاجر إلى السلفادور تتهمهم إدارة ترامب بأنهم أعضاء في “عصابة فنزويلية”. بدأت الأزمة حين أصدر رئيس المحكمة العليا، جون روبرتس، بياناً علنياً نادراً، يعارض فيه نهج ترامب، ما يعكس حدة الأزمة بين البيت الأبيض والقضاء. ويخشى مراقبون من تحولها إلى أزمة دستورية كاملة، مع سعي إدارة ترامب لتجاوز القضاء لتنفيذ أجندتها السياسية. وحتى الآن، لا تزعم إدارة ترمب أن لديها السلطة لتجاهل قرارات القضاء بشكل مباشر، لكنها تبدو وكأنها “تقترب من تبني هذا الطرح”.

إريز ريفيفني: شهادة صادمة عن تجاوزات وزارة العدل في عهد ترامب

وأضاءت شهادة إريز ريفيفني، المحامي السابق بوزارة العدل، على ممارسات مثيرة للجدل خلال إدارة ترامب، تضمنت كذب محامين حكوميين، تجاهل أوامر القضاة، وترحيل محتجزين دون تمكينهم من حق الدفاع.

رفض ريفيفني توقيع موجز قانوني يصف أحد المرحلين زورًا بأنه إرهابي، معتبرًا ذلك انتهاكًا صارخًا للإجراءات القانونية. أدى موقفه هذا إلى فصله من الوزارة بعد 15 عامًا من الخدمة، لكنه اختار الإفصاح ليحمي سيادة القانون ويكشف للمجتمع مخاطر تجاوز السلطة داخل وزارة العدل.

ويشير خبراء القانون إلى أن هذه التجاوزات غير المعتادة أثرت على ثقة المحاكم بوزارة العدل، ما يفتح نقاشًا واسعًا حول حدود السلطة التنفيذية وحقوق الأفراد في مواجهة الحكومة.

ولأن المسرح لا يكتمل من دون مشهدٍ عبثي، نشر ترامب مؤخرًا مقطعًا مصوَّرًا يظهر فيه مرتديًا تاجًا يقود طائرة مقاتلة تحمل اسمه، ويرمي على المتظاهرين البراز، في مشهدٍ يجسّد تمامًا فلسفة حكمه: خليط من الابتذال والاستعراض والاحتقار للآخر. فالرئيس الذي يزعم الدفاع عن القيم الكلاسيكية لم يجد غضاضة في تلويث رمزية منصبه، وكأنّ الانحطاط أصبح وسامًا جديدًا على صدر السلطة.

وبعد خروج حوالي 7 ملايين اميركي في شوارع وساحات اميركا في احتجاج “لا ملوك” رد ترامب: “بالمناسبة، أنا لستُ ملكًا ،إنها تظاهرة صغيرة جدًا، وغير فعالة، والناس في حالة ذهول”.

لم تعد صدمته في احتقاره لنصف شعبه، بل في رغبته المَرَضية بإهانة ذاته ومنصبه. نزعة “التدنيس” هذه ليست طارئة، بل تعبّر عن جوهر حركةٍ سياسية تتغذّى من الانفعال والغضب وتعتبر السخرية من القيم بطولةً بحد ذاتها. وكما قالت حنّة آرندت، “كان من الثوري أن يعترف الناس بالقسوة وازدراء القيم الإنسانية”، وهو تمامًا ما فعله ترامب وأتباعه حين جعلوا الابتذال مشروعًا سياسيًا.

المصدر: موقع المنار