الأربعاء   
   08 10 2025   
   15 ربيع الثاني 1447   
   بيروت 22:48

67 يومًا من المقاومة.. “مدرسة عسكرية جديدة” وإفشال أهداف العدوان

لم يكن العدوان الصهيوني عام 2024 على لبنان مجرد فصل دموي من فصول الصراع مع العدو الإسرائيلي، بل كان محطة مفصلية كشفت عن تحولات استراتيجية كبيرة في معادلات القوة والصمود، ففي الوقت الذي سعى فيه العدو لفرض مشهد “نصر حاسم” على المقاومة عبر آلة التدمير الهائلة، جاءت النتائج على الأرض لتكذّب الادعاءات، وتكرّس إنجازات نوعية يمكن البناء عليها سياسيًا وميدانيًا.

والمقاومة في لبنان، رغم القصف الجوي المكثف والضربات المؤلمة التي تلقّتها، استطاعت أن تُثبت مرة جديدة أنها عصيّة على الكسر، فخلال 67 يومًا من العدوان الإسرائيلي، الذي امتد من الجنوب إلى البقاع وصولا الى بيروت وضاحيتها الجنوبية، لم ينجح العدو في تحقيق أي تقدم ميداني ملموس ولا في فرض وقائع جديدة على الأرض.

ولعل أخطر ما في الرواية الإسرائيلية الرسمية هو محاولات تصوير ما جرى على أنه انتصار ساحق، بينما الحقيقة الميدانية كانت عكس ذلك تمامًا، فعجز القوات البرية الإسرائيلية عن التوغل في القرى الأمامية على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، رغم التفوق الجوي والتكنولوجي، يطرح تساؤلات جدية حول فعالية الآلة العسكرية الإسرائيلية وقدرتها على الحسم.

والعدوان الذي استخدم فيه العدو كل ما يملك من سلاح جو حربي ومسيَّر، بالإضافة إلى التفوّق الاستخباراتي والدعم الأميركي الغربي الكبير، اصطدم بجدار صلب من الصمود الشعبي والميداني، بل إن المقاومة، ورغم استهداف أبرز قادتها وعلى رأسهم سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله، واصلت إطلاق صواريخها واستهدفت مواقع عسكرية وأمنية في العمق الإسرائيلي، بما في ذلك تل أبيب ومحيطها، وصولًا إلى قيسارية واستهداف منزل رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو.

هذا الاستهداف لم يكن مجرد رد فعل، بل جزء من استراتيجية متكاملة أظهرت أن المقاومة تمتلك زمام المبادرة، وتملك قدرة ردع جعلت العدو يُعيد حساباته مرارًا، قبل أن يرضخ ويوقف عدوانه دون تحقيق أهدافه المعلنة.

وما جرى في عدوان أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر من العام 2024 يستحق أن يُروى كما هو، بعيدًا عن التحريف والتزييف الإعلامي والسياسي الذي تمارسه جهات محلية ودولية تحاول فرض سردية “الانتصار” الإسرائيلي، فالحقيقة أن ما حققته المقاومة في لبنان يُعد إنجازًا تاريخيًا، لا سيما في ظل الظروف الضاغطة والتوازنات الإقليمية والدولية المعقّدة، والدعم الأميركي المفتوح للعدو.

بل يمكن القول إن هذا الصمود أعاد تثبيت معادلة الردع، وأثبت أن المقاومة في لبنان لم تُهزم، بل عززت شرعيتها وقدرتها، في وقت كانت فيه تُستهدف عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا، وإلا كيف يمكن تصور أن العدو يوقف العدوان طالما إنّه يمتلك “اليد الطولى” في الحرب، فهذا العدو المتوحش لو كان بإمكانه مواصلة العمليات لما توقف وصولًا لاجتياح شمال نهر الليطاني وصولًا الى نهر الأولي شمال مدينة صيدا وربما أبعد من ذلك.

والمتابع لتفاصيل العدوان لا يمكنه إلا أن يتساءل: كيف استطاعت المقاومة أن تصمد وترد وتُحافظ على زخم عملياتها طيلة 67 يومًا؟ وكيف استمرت في العمل رغم استشهاد قيادات بارزة فيها وبظل ظروف الحصار والتفوق الجوي الصهيوني؟ وماذا يعني فشل العدو في تحقيق أي إنجاز ميداني؟ وأي مستقبل ينتظر هذا الكيان إذا ما تكرّر هذا العجز في مواجهات مقبلة؟ أليس في كل ذلك دليل على ثبات جبهة المقاومة في مواجهة أحد أعتى الجيوش في العالم واكثرها غطرسة؟

حول كل ذلك، قال الباحث في الشؤون السياسية والعسكرية عمر معربوني “أكثر من ستين يومًا كانت، بمثابة مدرسة عسكرية جديدة”، وتابع “يجب أن تنطلق المقاربة العسكرية لهذا الأمر من مفهوم جديد للقتال وللحرب اللامتماثلة، فالعدوُّ الإسرائيلي يمتلك، في الحقيقة، إمكاناتٍ عسكرية وتقنية هائلة، ومع ذلك لم يستطع أن يحقق إنجازًا ولو بسيطًا عبر التوغّل في الجنوب اللبناني، وتحديدًا على الحافة الأمامية”.

وأوضح معربوني في حديث لموقع المنار أن “ما هو معروف عسكريًا أن القتال على الحافة الأمامية يكون على أعماق تتراوح بين صفر — أي مسافة صفر — وثلاثة إلى أربعة كيلومترات تقريبًا”، وأضاف أن “المجاهدين في هذه المرحلة، وخلال الاشتباك مع وحدات الجيش الإسرائيلي والقوات المتقدمة التي حاولت التوغّل، منعوا الجيشَ الإسرائيلي من التقدّم لمسافات يمكن اعتبارها ضمن مفهوم الحافة الأمامية عسكريًا، بل إنَّ أعظم عمقٍ وصل إليه الإسرائيلي لم يتجاوز كيلومترًا ونصفًا تقريبًا داخل الأعماق اللبنانية”، ولفت إلى أن “هذا التوغّل لم يكن متوازيًا، بل حدث في نقاط محددة وليس على طول خط القتال”، وتابع “صحيح أن سلاح الجو الإسرائيلي عمل ليلًا ونهارًا وقصف مناطق تموضع مجاهدي المقاومة، ومع ذلك لم ينجح في تحقيق أيِّ إنجازٍ ملحوظ”، وأشار إلى أن “هذا الأمر يحتاج إلى تقييمٍ ودراسةٍ معمّقة للغاية”.

وقال معربوني “في تقديري إن المعركة اللامتماثلة تُخاض بمنطق الروح القتالية العالية، ولا ينبغي أن ننسى أن القتال خلال نحو الستين يومًا أو أكثر قليلًا، جاء بعد استشهاد سماحة السيد حسن نصر الله، وهو ما شكّل دافعًا كبيرًا في تغذية الروح القتالية لدى المجاهدين”، وأضاف “من المسائل الأخرى أنَّه لم يُطلب من هؤلاء الشباب الصمود طوال هذه الفترة على الحدّ الأمامي أو الحافة الأمامية بصورة دائمة، لذلك يمكن تصنيف ما حدث على أنه قتال بقعةٍ، ولكن بمفاهيم جديدة تختلف عن مفاهيم عام 2006 عندما واجهت المقاومة الجيش الإسرائيلي في أكثر من مكان، والاعتماد هذه المرة كان على مفارز صغيرة”، وتابع “كنا أمام قتال ملحمي على الحدّ الأمامي، أي قتالًا جبهويًا. المجاهدون لم يجروا عمليات مناورة كبيرة في هذا الجانب، وبذلك استطاعوا تحقيق هذه الإنجازات”.

ورأى معربوني أن “هذه المسألة يمكن إدراجها ضمن مدرسةٍ عسكرية جديدة، وبالتالي فهي بحاجة إلى تقييم وإلى معلومات تُحيط بكل جوانب المعركة وظروفها وإمكاناتها”، وشدّد على أن “المسألة الأساسية الحاضرة والواضحة أن خمس فرقٍ عسكرية إسرائيلية عجزت عمليًا أو فشلت في خطِّ الجبهة والتقدّم والتوغّل، إضافةً إلى ذلك، لم يستطع العدوُّ الإسرائيلي أن يستخدم مدرعاته بشكلٍ كثيف لإحداث الصدمة”، وأضاف “كانت النتيجة أن نحو 65 دبابة حاولت التقدّم فُدِّرت بالكامل على مراحل مختلفة وخلال تلك الستين يومًا، وهذا أمر أعاق حركة الجيش الإسرائيلي ومنعَه من التقدّم”، لفت إلى أنه “في حالات أخرى، فكانت المواجهات أحيانًا تتم بين مجاهدٍ واحد ومجموعةٍ إسرائيلية كبيرة تصل إلى مستوى سرية أحيانًا، وهذه من البصمات التي تُشير إلى الروح القتالية العالية المنبثقة من العقيدة”.

والحقيقة أن ما بعد العدوان الصهيوني على لبنان في العام 2024، كما قبله، رسّخت المقاومة، مرة جديدة، حقيقة أن النصر لا يُقاس فقط بما تدمّره الطائرات، بل بقدرة الشعوب والمقاتلين على الصمود في أصعب الظروف، وبقوة الإرادة والثبات وعدم المساومة على الكرامة والحقوق والمبادئ، وإذا كان العدو قد فشل في فرض مشهده الحاسم بتحقيق “النصر”، فإن المقاومة نجحت في تثبيت معادلة أن أي عدوان ستتم مواجهته أيا كانت النتائج، من خلال معارك كربلائية استشهادية…

المصدر: موقع المنار