في الوقت الذي يواجه فيه قطاع الاتصالات في لبنان تحديات متزايدة بسبب الأزمات الاقتصادية والأمنية المستمرة، يبرز مشروع “ستارلينك” كخيار يثير الكثير من الجدل، بعد إعلان رجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك عن نيته تقديم خدمات الإنترنت الفضائي عبر شركته في لبنان.
وفي اتصال مع رئيس الجمهورية، عبّر ماسك عن اهتمامه بالدخول إلى السوق اللبناني، بينما أبدى الرئيس عون استعدادًا لتقديم التسهيلات القانونية اللازمة.
”ستارلينك”
هي شركة أمريكية مملوكة لرجل الأعمال إيلون ماسك، تقدم خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، وهي واحدة من العديد من الشركات العالمية التي توفر هذه الخدمة. تكمن أهمية هذه التكنولوجيا في أنها توفر خدمة إنترنت حتى في حالة حدوث اضطرابات أرضية أو أزمات تقنية، مما يجعلها خيارًا أكثر استقراراً للعديد من الدول والشركات.
ففي 14 تشرين الثاني، وضع مجلس الوزراء ضمن جدول الأعمال “طلب وزارة الاتصالات الموافقة على تقديم خدمة الإنترنت بشكل مؤقت عبر شبكة الأقمار الاصطناعية، ستارلينك، وعلى قبول هبة من جمعية P-Foundation لتقديم الخدمة المذكورة”.
وأثار دخولها إلى لبنان جدلاً حول كيفية حصولها على الترخيص، حيث تُصر وزارة الاتصالات، ممثلةً بالوزير شربل الحاج، على منحها ترخيصًا استثنائيًا بموجب مرسوم، على الرغم من غياب المعايير القانونية المطلوبة.
كما بدا أن وزير الاتصالات يعوّل على تلهّي الوزراء بقضايا تتعلق بتداعيات العدوان الإسرائيلي الأخير، ليمرّر بند خرق السيادة الرقمية وكشف بيانات اللبنانيين أمام «ستارلينك» ومن يقف وراءها.
خلفية الأزمة
أثار التوسع في خدمة “ستارلينك” جدلاً واسعًا حول تأثيرها على السيادة اللبنانية والأمن الوطني.وقد قوبل هذا الإعلان بانتقادات حادة من العديد من الأطراف، وعلى رأسهم لجنة الإعلام والاتصالات النيابية التي اعتبرت المشروع مخالفًا للعديد من القوانين اللبنانية.
وبحسب رئيس لجنة الإعلام والاتصالات النائب إبراهيم الموسوي، الذي تحدث لموقع المنار، فإن هناك مخاوف بشأن تهديد السيادة الرقمية للبنان، خاصة أن البيانات الشخصية للمستخدمين قد تُخزن في خوادم خارجية، ما يعزز القلق بشأن الأمن السيبراني.
ويعتبر النائب إبراهيم الموسوي، رئيس لجنة الإعلام والاتصالات، أن دخول “ستارلينك” إلى السوق اللبناني يثير العديد من المخالفات القانونية. حيث أوضح في عدة تصريحات أن هذه الخدمة تخرق العديد من القوانين اللبنانية، أهمها:
مخالفة الدستور اللبناني: منح “ستارلينك” حق استغلال “الطيف الترددي” دون قانون يُجيز ذلك، ما يُعد تجاوزًا لصلاحيات مجلس النواب، الذي يحق له حصراً منح الامتيازات.
مخالفة قانون الشراء العام رقم 244/2021: من خلال التهرب من عرض المشروع عبر “بوابة الشراء العام”، وبالتالي الالتفاف على الإجراءات القانونية التي تضمن الشفافية.
مخالفة قانون المعاملات الإلكترونية رقم 81/2018: عبر إهمال مبدأ السيادة الرقمية، وعدم فرض شرط تخزين بيانات المستخدمين اللبنانيين داخل لبنان لحماية خصوصيتهم.
مخالفة قانون الاتصالات رقم 431/2002: من خلال تهميش هيئة تنظيم الاتصالات، وهي الجهة القانونية المختصة بإصدار التراخيص.
تجاوز المرسوم الاشتراعي رقم 126/1959: الذي يحصر حق تقديم خدمات الاتصالات الدولية بالدولة اللبنانية.
وبحسب الموسوي، فإن أجواء لجنة الإعلام والاتصالات النيابية أكدت أنه لا ينبغي السير في مشروع ترخيص “ستارلينك” بصيغته الحالية. حيث تم تسجيل العديد من المخالفات القانونية والدستورية، أبرزها مخالفة المادة 89 من الدستور اللبناني، التي تمنع منح حق استغلال الموارد الطبيعية، مثل الطيف الترددي، دون وجود قانون يجيز ذلك.
النائب الموسوي ذكر أنه يجب على الحكومة احترام المسار القانوني الكامل، من خلال إعداد دراسة جدوى شاملة تشمل الجوانب المالية والتقنية والقانونية قبل اتخاذ أي قرار نهائي.

التوصيات والإجراءات المستقبلية
في ضوء المخالفات القانونية التي تم تسجيلها، توصي لجنة الإعلام والاتصالات بما يلي:
إيقاف المشروع بصيغته الحالية: حتى يتم تصحيح المخالفات القانونية وإعداد دفتر شروط رسمي يتم عرضه على “هيئة الشراء العام”.
إعداد دراسة جدوى شاملة: تشمل الجوانب المالية والتقنية والقانونية، وتُعرض على الجهات الرقابية المختصة لضمان الشفافية وحماية المصلحة العامة.
الالتزام بالمسار القانوني الكامل: في جميع الإجراءات المتعلقة بتقديم خدمات الإنترنت، من أجل الحفاظ على الشفافية، وضمان حقوق المواطنين اللبنانيين، وحماية السيادة الوطنية.

وفي مقابلة لموقع المنار مع مقرر لجنة الاتصالات النائب ياسين ياسين، فقد أكد أن مسار متابعة الحكومة غير واضح حتى الآن، إذ تم تأجيل البت في جلستين مختلفتين. وهذا يوضح أن كل ما يتعلق بالمسار القانوني ما زال قيد المتابعة.
وأضاف أن الوضع واضح بالنسبة للمحاولات المختلفة والتحديات القائمة. هذه الجماعات عملت على ربط نسبة الشراء بالقوانين المعمول بها منذ عام. مثل أي إجراء آخر، يحتاج الموضوع إلى دراسة دقيقة حسب كل محافظة.
كما قال إن هناك بعض الإجراءات التي تمت في قطاع الخليوي، لكنها ليست دقيقة أو كافية. ويجب الأخذ بعين الاعتبار المسؤولية القانونية المرتبطة بهذه القرارات.
وفي الختام، اعتبر ياسين أنه فيما يتعلق بمقارنة الخدمات، فموضوع احتكار قطاع الاتصالات الخليوي هو قضية منفصلة، والقانون 431 ينظم تحديث القطاع وتطبيقه، والورقة القانونية التي قدمتها لرئيس هيئة الاتصالات تهدف إلى إنهاء الاحتكار. ومع ذلك، لا يمكن مقارنة خدمات مثل ستارلينك مع خدمات شركات الاتصالات الخليوية التقليدية، فكل منها يعمل في إطار مختلف.

المخاطر الأمنية
يتعلق الموضوع بارتباط هذه الخدمة ببوابات أرضية خارج لبنان، قال جمال مسلماني خبير في الأمن السيبراني في مقابلة مع المنار، وأضاف أن الأمر يثير تساؤلات حول السيادة الوطنية، خصوصًا فيما يخص البيانات المرسلة والمشفّرة. المسألة لا تقتصر فقط على الجانب التقني، بل تحمل أيضًا أبعادًا سياسية وسيادية.
إذا أردنا أن نوضح أكثر، فإن “ستارلينك” تعمل على منظومة تُشبه ما يُعرف بالـ LEO (الأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض). هذه الأقمار، وإن كانت تؤمّن اتصالًا سريعًا وتحديثات برمجية متكرّرة وتدّعي أنها تعتمد دفاعًا متعدد الطبقات، إلا أنها ليست محصّنة بالكامل ضد الحرب الإلكترونية أو محاولات التعطيل، بحسب الخبير جمال مسلماني.
وأكمل مسلماني أن الشركة تقول إن أقمارها لا ترى سوى حركة المستخدم المشفّرة، وهذا أمر إيجابي من الناحية الهندسية والأمنية. لكن لا يمكن إلغاء المخاطر المرتبطة بالتعطيل اللاسلكي أو الاستغلال من قبل جهات عسكرية أو مدنية. على سبيل المثال، في أيار/مايو 2024، أُثير تقرير أشار إلى تعطيلات واسعة في وحدات الاتصالات الأوكرانية بفعل تشويش روسي استهدف “ستارلينك”، ووصفت وقتها بأنها سابقة من نوعها مع اندلاع الحرب.
هذا يثبت أنّ الشبكة، رغم كفاءتها، تبقى عرضة للحرب الإلكترونية، سواء عبر استهداف محطاتها أو حتى محاولات اختراق “التيرمنالات” (المحطات الأرضية للمستخدمين) من خلال مواد أو تقنيات تمكّن المهاجم من تشغيل أوامر معينة أو تعطيل الخدمة.
بالتالي، نحن أمام قضية تتجاوز الجانب التقني لتطرح إشكاليات سيادية وأمنية تستوجب نقاشًا جديًا، خصوصًا إذا كانت هذه الخدمة ستُعتمد داخل لبنان.

يُعدّ موضوع خدمة “ستارلينك” تحديًا استراتيجيًا للبنان، ويستدعي التركيز على ثلاث نقاط رئيسية، وفق الخبير مسلماني:
أولًا – سيادة البيانات والسيادة الرقمية:
تُشكّل السيادة الرقمية أحد الركائز الأساسية للأمن الوطني، إلا أنّ بنية خدمة “ستارلينك”، بما في ذلك قنوات النقل أو الباندويث، تمرّ في غالبها عبر بوابات أرضية تقع خارج لبنان. ونتيجة لذلك، تُدار حركة البيانات والاتصالات من الخارج، مما يطرح مخاوف حقيقية تتعلق بخضوع هذه البيانات لأنظمة قضائية أجنبية، حتى في ظل اتفاقيات التعاون الدولي.
ثانيًا – خطر التعطيل المفاجئ للخدمة:
تعتمد الخدمة على برمجيات مركزية، ما قد يؤدي إلى انقطاع مفاجئ وغير متوقع للاتصالات. هذا الوضع يجعل المستخدم أو الجهة المستفيدة عاجزين عن معرفة سبب التوقف أو التحكم في استعادة الخدمة، وهو ما يثير التساؤلات حول مدى الاعتماد الكامل على هذه المنظومة، ويستدعي التفكير في بدائل أو تنويع مصادر الاتصال لضمان استمرارية البنية الاتصالية الوطنية.
ثالثًا – الاستخدام غير المشروع ومخاطر التهريب:
هناك احتمالية كبيرة لاستغلال هذه الخدمة في أنشطة غير قانونية، بما في ذلك تهريب الأجهزة أو استخدامها لأغراض مخالفة للقانون. وقد أظهرت بعض التجارب في دول أخرى، مثل السودان، أن هذه التكنولوجيا قد تُستغل خارج الأطر الرسمية، ما يؤدي إلى إشكالات أمنية. في لبنان، خصوصًا على الحدود الشرقية، فإن إدخال أو تهريب هذه المعدات قد يفتح الباب أمام مشاكل إضافية تتعلق بالأمن الوطني، سواء على مستوى الاتصالات أو على مستوى الاستخدامات غير المشروعة.
الإطار التشريعي والتنظيمي
فيما يتعلّق بالإطار التشريعي والتنظيمي للاتصالات، يجب التأكيد على أنّ أي استخدام لخدمات مثل “ستارلينك” لا يمكن أن يتم بمعزل عن القوانين والأنظمة الوطنية المنظمة للاتصالات. ويستلزم هذا وضع أحكام واضحة للبيانات، وعقود قانونية ملزمة تحدّد كيفية معالجة وتخزين البيانات والمعلومات، مع التأكد من اعتماد معايير التشفير المناسبة لحماية هذه المعلومات. كما يجب وجود آليات للرقابة والمتابعة لضمان التزام المزودين بالقوانين الوطنية.
الجانب الاقتصادي والتجاري
على المستوى الاقتصادي والتجاري، يشكّل موضوع السعر التنافسي عاملًا أساسيًا، ويجب أن تكون هناك سياسات واضحة لضمان حماية المواطنين والدولة في الوقت نفسه، دون الإضرار بالمنافسة أو استغلال الوضع من قبل مزودين معينين. ومن هذا المنطلق، يُنصح بأن تكون هذه الخدمة مزودًا احتياطيًا وليس المزود الرئيسي للبنية التحتية للاتصالات أو الإنترنت الأساسية، بحيث يمكن الاعتماد عليها كخيار بديل عند انقطاع الخدمات الأساسية.
فيما يخص الأمن، يجب أن يكون التشفير عالي المستوى للبيانات الصوتية والمرئية والنصية، مع اعتماد آليات تحليل لحركة المرور ورصد المستخدمين بشكل يضمن حماية المعلومات الحساسة. كما ينبغي دراسة تأثير الحرب الإلكترونية، بما يشمل إدارة الترددات وتقليل الانبعاثات الراديوية لتقليل البصمة الرقمية، ما يعزز قدرة الدولة على حماية بنيتها التحتية من أي تهديد إلكتروني محتمل.
ويجب بحسب الخبراء أن تكون آليات التوريد واضحة ورسمية، مع ضمان الامتثال لمعايير مكافحة التجسس والتخريب، ومنع الاعتراض على الشبكة أو تسريب البيانات، خصوصًا في المواقع الحيوية مثل المطارات والمراكز الحيوية الأخرى. وهذا يتطلب دراسة شاملة لجميع الأبعاد والزوايا الأمنية والتقنية المرتبطة باستخدام مثل هذه الخدمات.
الخاتمة
من الواضح أن دخول “ستارلينك” إلى لبنان يتطلب التوازن بين الحاجة إلى تحسين خدمات الإنترنت في ظل الأزمات الاقتصادية، وبين الحفاظ على السيادة الوطنية والأمن الرقمي. في الوقت الذي يتطلع فيه اللبنانيون إلى حلول مستدامة للمشكلات التقنية، يبقى الأمر متوقفًا على التزام الحكومة بالمسار القانوني السليم، وضمان الشفافية في جميع الإجراءات.
وبينما تحرص بعض الأطراف على استكشاف هذا المشروع كفرصة لتحسين الواقع الاتصالي في لبنان، يبقى السؤال الأبرز: هل يمكن السماح لشركة أجنبية بتقديم هذه الخدمة دون ضمانات قانونية واضحة تحمي حقوق المواطنين اللبنانيين وتضمن الحفاظ على السيادة الوطنية؟
المصدر: موقع المنار