بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم ان موكب السبايا ضم الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) وزينب(ع) ومجموعة كبيرة من النساء فيهنّ بنات وأحفاد رسول الله محمد (ص) ونساء من زوجات أولئك الشهداء الشجعان الأوفياء الذين قتلوا في كربلاء وجمع من الأطفال الأيتام، وهؤلاء جميعا يساقون كما يساق الأسارى من بلد الى بلد مكبلين بالسلاسل والقيود، والسياط تلهب ظهورهم وصدورهم، وكلمات السب والشتم تنهال عليهم، اضافة الى اظهار الشماتة والإهانة والإذلال لهم، وكان مع الموكب أيضاً رأس أبي عبدالله الحسين (ع) ورأس أبي الفضل العباس(ع) ورؤوس الشهداء من أهل البيت وبني هاشم وصحابة الحسين الذين بَقُوا وَوَفُوا وقَضَوا وَمَضَوا مع الحسين (ع) شهداء أعزاء.
ومن المعروف تاريخيا ان هذا الموكب انتقل من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام عبر الأراضي اللبنانية حيث عبر هذا الموكب عبر القاع واللبوة ومقنة وصولاً إلى مدينة بعلبك، ومن بعلبك إلى دمشق التي كانت في ذلك الحين عاصمة الدولة الاموية وفيها يزيد بن معاوية، ثم عاد الى المدينة ومر في طريق العودة على كربلاء لزيارة الامام الحسين(ع) حيث وصلها في العشرين من صفر .
هذا الموكب أرادت له السلطة الاموية أن يقطع كلّ هذه المسافات الطويلة ويعبر كل هذه البلدان، بهدف: اظهار قدرتها على قمع اي تحرك ضدها، وإبراز الشماتة بأهل بيت النبي، والثأر من محمد وآل محمد الذين انتصروا على أبي سفيان وآل ابي سفيان ومن كان معهم في بدر وفي غيرها، وإذلال آل رسول الله (ص)، وإحباط هذه الأمّة، وترهيب وتهديد وقمع كل من يفكر بالتمرد على سلطة بني امية والوقوف بوجه الطاغية يزيد بن معاوية، والقول لكل من يفكر بذلك بانه سيلقى نفس المصير، ولذلك أريد للموكب أن يجول في العراق وفي بلاد الشام حتى لا يفكر احد بالثورة والانتفاضة على الحكم الاموي في هذه المناطق الهامة من الخلافة الاسلامية آنذاك.
ولكن السلطة الظالمة والقاتلة أرادت شيئاً وأراد الله شيئا آخر، فالله الذي يرعى هذه المسيرة يرعى دينه ويكفل أنبياءه ويدافع عن أوليائه ويحفظ رسالته قلب السحر على الساحر ورد مكر يزيد الى نحره: “ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين”.
فهذا الموكب، موكب السبايا الذي أريد له أن يحقق تلك الأهداف.. أتى بنتائج معاكسة لما كان يريده يزيد، فقد شكل موكب السبايا بادارة الامام زين العابدين وعمته زينب (عليهما السلام) أكبر فضيحة للسلطة الاموية، وكشف زيفها وجرائمها بعدما عرف الناس حقيقة ما جرى في كربلاء وهوية هؤلاء الذين يساقون كالاسارى، وانهم ال بيت النبي، فكان موكب السبايا الجزء المكمل الذي يحقق أهداف شهادة الحسين وصرخة الحسين يوم العاشر من محرم في كربلاء.
ولو أن يزيداً وعبيد الله ابن زياد حملوا الإمام زين العابدين وزينب والنساء والأيتام والرؤوس وذهبوا بهم سرّاً إلى المدينة وتركوهم في المدينة ومنعوهم من الخروج منها؛ لما كان وصل صوت الحسين ورسالة الحسين ومظلومية الحسين(ع) وكل هذه القيم والمفاهيم والوقائع والعظمة والمبادئ التي كرّستها كربلاء الى الأمّة والى الاجيال المتتالية التي جاءت بعد عاشوراء.
صحيح كان هناك معاناة وآلام وأحزان للامام زين العابدين والنساء والسبايا، ولكن هذا طريق الله وطريق التحدي والتضحيات وبذل الدماء، وطريق الانبياء والأولياء على مر التاريخز هؤلاء تحملوا الصعاب والمشاق وأذيوا، وضحوا بكل ما يملكون في سبيل الحفاظ على دين الله والقيم والمبادىء الالهية.
ولذلك فان موكب السبايا حقق الكثير من الأهداف والانجازات:
اولا: خلد قضية الحسين في وجدان وضمير الأمة، وجعل هذه القضية بكل ما تحمل من مفاهيم وقيم تصل الى عقول وقلوب الاجيال على مر التاريخ، ودفع باتجاه استحضار وقائعها ودلالاتها وقيمها في كثير من المناسبات وعلى مدار الاعوام.
ثانيا: كشف كذب وتضليل ونفاق إعلام السلطة الأموية: التي كانت تضلل الناس وتشيع بان السبايا هم من الخوارج او من الديلم! حيث وقف الامام زين العابدين(ع) ووقفت زينب(ع) وسُكَيْنَة وفاطمة وبينوا للناس الحقيقة، ففي الشام خطب الامام زين العابدين(ع) في المسجد الكبير أمام يزيد ووجهاء الدولة وحشود الناس خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب، بعدما بين فيها هوية هؤلاءالسبايا وأنهم ابناء وأحفاد رسول الله محمد بن عبدالله(ص)، وكذلك فعلت زينب التي خطبت خطبتها المشهورة في قصر زيد موبخة اياه بأشد العبارات ومبينة حجم الجريمة التي ارتكبها بحق الحسين وآل بيت رسول الله(ص)، وعندما عرف أهل دمشق الحقيقة غضبوا وحزنوا وثاروا حتى خاف يزيد من الفتنة.
وعلى طول الطريق من الكوفة إلى نصيبين إلى حلب إلى حمص إلى بعلبك وصولا الى دمشق كانوا يخطبون ويتحدثون يوضحون للناس حقيقة الذي جرى وهوية هؤلاء السبايا وانتسابهم وقربهم من رسول الله(ص)، واساسا نفس هذا المشهد المأساوي وهذه الرؤوس وهذه الأيتام وهذه النساء الثكالى وهذا الإمام المقيد بالسلاسل،عندما كان يقترب الناس منهم ويسألون: من أنتم ومن اي البلاد انتم، فيجابون: بأنهم بنات محمد نبي هذه الأمة، وأيتام محمد نبي هذه الأمة، كان هذا الواقع كافياً ليقلب الأمور رأساً على عقب، ويحدث تغييرا وتبديلا في نظر الناس، وكثير من المدن والقرى والبلدات التي استقبلت موكب السبايا بالأفراح قلبت أفراحها إلى أحزان، عندما علمت أن هؤلاء ليسوا خوارج ولا من الديلم وأن هؤلاء هم أحفاد محمد وأيتام محمد. اذن: موكب السبايا كشف كذب السلطة واظهر الحقائق التي كان يجهلها الناس.
ثالثا: كسر حاجز الخوف واستنهاض الأمة: فموكب السبايا اضافة الى انه استطاع أن يبيّن حقيقة الأمور وما جرى في كربلاء على آل الرسول، استطاع أيضا أن يستنهض الأمة، أن يكسر حواجز الخوف، أن يحمل معه دم الحسين إلى كل ارض وبلد، وإلى كل قلب وعقل، وان يحمل معه شجاعة الثورة ومنطق القيام ورفض الذل والظلم. وهذا الموكب هو الذي حمل إلينا بعد مئات السنين وعلمنا شعار “هيهات منا الذلة”؛ الذي نردده ونواجه به كل الطواغيت الذين يريدون إذلالنا .
ولذلك نجد سرعان ما تحركت الثورات في العراق، في أكثر من بلد إسلامي، ضد الاموييين، وصولا الى ثورة بني العباس الذين رفعوا شعار يا لثارات الحسين في البداية، والتي اطاحت بملك بني أمية خلال سنوات قليلة .
كان مقدراً أن يحكم بنو امية مئات السنين، ولكن دماء كربلاء وصرخة السبايا من بلد إلى بلد أيقظت الأمة، وصنعت الثورات، وما كانت لتكون هذه الثورات لولا كربلاء والموكب التاريخي للسبايا.
استطاع هذا الموكب استنهاض الأمة كلها بمسلميها ومسيحييها، والتاريخ يذكر لنا كيف تعاطت الكنائس المسيحية في بلاد الشام مع موكب السبايا ومع رأس أبي عبد الله الحسين (ع) ومستوى التأثر الكبير والعظيم والحزن الذي أظهرته والتنديد الذي قالته في أكثر من مجلس حتى في مجلس يزيد نفسه؛ عندما وقف مسيحي في مجلس يزيد وقال ليزيد ” أنا من نسل فلان من حواري السيد المسيح(ع) وبيني وبين أبي ـ يعني جده الأكبر الذي هو من الحواريين ـ مئات السنين، ومع ذلك ما زال الناس يتبركون بي. وهذا ابن بنت نبيكم وما زال عهدكم بنبيكم طرياً تقتلونه وتقطعون رأسه وتسبون نسائه”؟ فأخذ وقتل.
المصدر: موقع المنار