أكبر من حدثٍ تاريخيّ مفصلي ومهم، كانت معركة طوفان الأقصى، وليست أهميتها في جوهر روافع نوعيّة واستراتيجيّة مقوّماتها فحسب، بل أنها في سياق القضيّة الفلسطينيّة التي تتجاوز بعمق تاريخيّتها مجرد الحديث عنها كهمّ شاغل أو كقضيّة سياسيّة بانتظار الحل والفكفكة.
جاءت المعركة نوعية الفعل والأداء، عكست بحق جوهر الصراع مع العدو. وفيها، يمكن أن نقول أنها دمجت بين قوة الحق مع حق القوة بوجه من يملك القوة. فمع الساعات الأولى تبددت صورة “إسرائيل” ومُنيت بهزيمةٍ كبيرة عكست حجم قوة المقاومة في تطوير القدرة مقابل ضعف العدو الاستخباري والأمني وحتى على مستوى تعامله مع حجم العملية واستراتيجيات نتائجها.
لم يكن التوحّش الصهيونيّ على غزة ردّ فعلٍ على المعركة، نخطأ التقدير والقراءة فيما لو قلنا ذلك. كما نغالط أيضًا، لو رأينا أن كلّ مجريات المعركة منذ 7 أكتوبر/2023 هي في إطار الفعل ورد الفعل. هذه مقاربة عليها الكثير من المآخذ، وما يؤكد رؤيتنا اعتبار العدو أن المعركة “وجودية” بالنسبة له، مقابل ما رافقها من دعم أمريكي غير محدود للأخير، بالتالي يمكن القول أنها حرب مع المشروع الغربي الإمبريالي بكل معنى الكلمة والتفسير.
على الجهة المُناقضة، هي مصيرية بالنسبة لنا كمقاومة لها مشروع تحرير، صحيح أنها على أرض فلسطين لكنها في عمقها حرب بين قطبين، قطب حاكم مهيمن، في مواجهة قطب يملك مقومات النهوض من عصر الهيمنة الإمبريالية، يهدد الأداة (إسرائيل) الأكثر فاعلية في تحقيق أهداف القطب الأول – كشرط استمراري ارتكازي – كعنصر حاسم في تقرير مجرى الصراع.
تكمن أهمية معركة “طوفان الأقصى” بأنها خلَّقت كل عوامل ضرب مرتكزات المشروع الصهيونيّ، فالمشروع في جوهره يقوم على وجود القاعدة الثكنة (إسرائيل) التي تقوم بوظيفتها العدوانية بشكل ناجح ضد الدول المحيطة فيها، أو لنقل ما تراه باعتقادها “حلقة نار مهددة” من أجل توفير الهدوء للمستوطنين داخل الثكنة بما يساعدهم على القيام بتلك الوظيفة بشكل أكبر، بما يستتبع ذلك من دور سياسي يرسم مسارات العواصم العربية والتحكم فيها – إذا ما افترضنا أن للشعوب العربية اليوم حركة نهضة – أو على الأقل تلك التي تواجه المركز الإقليمي المضاد لها كتطورات نهاية القرن التاسع عشر، وبالتالي فإن التصدي للعدوان لا يتم داخل تلك الرقعة الاستيطانية وإنما يتعدى حدودها لتلك العواصم.
نجح الطوفان وبناءً على عوامل القوة المتراكمة لمحور المقاومة – فلسطينياً خاصة – في استهداف المرتكزات الثلاث للمشروع الصهيونيّ (فلسطيني وعربي ودولي) والتي ظهرت جلياً على ثلاثة مستويات من حيث النتائج والتداعيات إقليمياً ودولياً وقبل كل شيء داخلياً أي في الأرض المحتلة. وهي:
أ – إفشال جعل فلسطين قاعدة آمنة للمشروع الصهيوني. وهو ليس إنجازاً جديداً، أو فارقاً في المواجهة لجهة ديمومة الصراع، وإنما أخذ شكلًا نوعياً من حيث المبادرة بالمواجهة ومن فصيل فلسطيني مقاوم ضمن قطاع غزة المحاصر والمخنوق؛ لذا كانت ضربة استراتيجيةً نوعيّة الفعل والأثر ودهاء التخطيط في العلوم العسكريّة، فالمطلوب وفق هذا المرتكز تحقيق الاستقرار للمستوطنين وتنفيذ العدوان بشكل مستمر خارج الرقعة الاستيطانية.
لكن الطُوْفان شتت هذا المرتكز من خلال المفاجئة في المبادرة، ولاحقاً الدور التصاعدي لجبهات الإسناد كقوة إقليميّة ولا سيما اللبنانيّة. وكسرّ للتوحُّش الصهيونيّ في قتل كل شيء في غزة لاقتلاع الشعب الفلسطيني واستبداله بسكان جدد (يهود) على قاعدة (القومية اليهودية). التي تنقصها أهم مقومات القومية – الشعب المحدد والأرض المحددة.
ب – البعد العربي، لست هنا بصدد قياس ارتفاع مؤشر الإجماع على أن قضية فلسطين هي “قضية جميع العرب وليس الفلسطينين فقط”، بنسبة 92 ٪، وإن كان مهماً. بل أيضًا دور طوفان الأقصى التكشيفيّ في “أن برنامج المشروع الصهيوني لم يكن يوماً الدولة اليهودية.” بل الهيمنة والسيطرة حتى على تلك الدول التي تعِش حالة “مساكنة” مع الاحتلال. ولعل رسم المسار المُشار له آنفاً يقع ضمن ذلك؛ أي أن استجابة “إسرائيل” المجنونة ليست إلّا سعياً لتحقيق مكاسب سياسيّة بالنار على حساب دور العرب المفترض، بما يحمله ذلك من “رغبويّة إسرائيليّة” في تحقيق الذات ضمن مسار استكمال “المشروع الإبراهيميّ – الأمريكيّ.”
ج – البعد الدولي، الذي يتعلق بالصلة التاريخيّة بين الصهيونية العالمية والاستعمار الدوليّ والذي بطبيعة الحال انتقل مركزه لأمريكا بعد بريطانيا. اليوم أشد تكريس لهذا البُعد هو الدعم الغربي الفيّاض “لإسرائيل” خلال الحرب على غزة والمنطقة، إذ لولا هذا الدعم لما استمرّت المعركة التي تخدم في الجوهر والمضمون طبيعة العلاقة بين الطرفين من خلال الدور الوظيفي و تقديم الخدمات.
أيًضا كان للطوفان الدور الأبرز في كشف عورة هذا المرتكز، وكيف أنه أسس لمشهدٍ مختلف في التعاطي مع القضية الفلسطينية ببعدها الدوليّ على صعيدي الرأي العام العالمي، أو القانوني الدوليّ من خلال تكشيف حجم ونوع الدعم للعدو، أغلب شعوب المنطقة اليوم تُقتل بأسلحة أميركية وغربية بل ويصدر قرار قتلها وإبادتها الجماعية بتوقيع من الأميركي؛ هذا دعّم من انهيار السرديّة الصهيونيّة “سردية الدولة النموذج الشاعّة بالديمقراطيّة في محيطٍ مستبدّ.” وبيّن لشعوب العالم أنّ “إسرائيل” ليست إلا ثكنة عسكرية وظيفية تقوم على القتل والسلب والدماء وأنّ بعض دول شعوب الغرب لا تستطع أن تقول مجرد “لا” لها لارتباط مصالحها العميقة معها في الدور والوظيفة.
ولا ينفكّ قول وزير الخارجية الأمريكي عن ذلك البُعد، إذ قال: “منذ اليوم الأول، اتخذ الرئيس بايدن ونائبة الرئيس هاريس خيارًا أساسيًا مفاده أنه في عالم أكثر تنافسية وقابلية للاشتعال، لا يمكن للولايات المتحدة أن تسير بمفردها. إذاً ستُحدد الاختيارات التي تتخذها الولايات المتحدة في النصف الثاني من هذا العقد الحاسم ما إذا كانت لحظة الاختبار هذه ستظل وقتًا للتجديد أو تعود إلى وقت التراجع.”
وبناءً على ما تقدّم، تكون هذه المرتكزات المرتبطة بعلاقة جدليّة (لا يقوم بعضها دون الآخر) قد أصبحت أكثر وضوحاً بعد طوفان الأقصى بما أحدثه من هزّة غير مسبوقة في الوعي العالمي الجمعيّ. والأهم أنه قد ثبّت منهاجاً أساسياً وضرورياً بل ومفصلياً مسلّماً به أن الأرض لا ولا يمكن أن تُستعاد غير بمقاومة العدو الغاصب للأرض والتاريخ والجغرافيا.
ما يجب أن نفهَمَهُ اليوم في ذكرى طوفان الأقصى، أننا الأقوياء رغم التضحيات الجِسام في كل ساحات المقاومة، وأنّ مصير هذه المنطقة لعقودٍ قادمات، نحن من نقرره بل يُقرر بما نملك من قوة أشغلت العالم وأوقفته على قدمٍ وساق يعجّل لاستبقاء ما يتبدد من قوة ودور. نفهَمْ: أنّ مصير ما يتجه له العالم بإيدينا كمقاومين!
المصدر: موقع المنار