نشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي النص الكامل لكلمة الإمام الخامنئي بتاريخ 25/06/2024 خلال لقاء مع مختلف فئات الشعب بمناسبة عيد الغدير الأغر وعلى أعتاب الانتخابات الرئاسية الرابعة عشرة في حسينيّة الإمام الخميني (قده). وقال قائد الثورة الإسلاميّة أنّ شموخ الجمهوريّة الإسلاميّة يتحقق عبر المشاركة الأوسع في الانتخابات وانتخاب الأصلح، وشدّد سماحته على أنّ الشعب الإيراني لن يسمح أن يُكتَبَ مصيره بأيدي الآخرين.
والنص الكامل لكلمته كما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيّما بقية الله في الأرضين.
الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية عليّ بن أبي طالب، أمير المؤمنين، والأئمّة المعصومين (عليهم السلام).
أُباركُ لكم جميعًا أيّها الحضور الكرام، وللشعب الإيرانيّ أجمع، ولكلّ مسلمي العالم، حلولَ عيد الغدير السعيد. وحيث إنّ عيد الغدير – وفق المعنى الصحيح والمعروف الذي يمكن استخلاصه منه – عيدٌ يرتبط بجميع المسلمين؛ وَجَبَ على العالم الإسلاميّ بأسره تكريمه، فهو «عيد الله الأكبر» بالمعنى الحقيقيّ للكلمة.
أقدّم خالص الشكر لشعبنا العزيز؛ لإحيائه هذا العيد المبارك بطريقة شعبيّة، حيث يقيمون الاحتفالات في الشوارع، ومن خلال المسيرات الطويلة. إنّها مبادرة شعبيّة طيّبة للغاية. في هذه الأيّام، من ناحية؛ نحن على مقربة من أربعين شهداء الخدمة التي تُجدّد ذكرى هؤلاء الشهداء في الشعب الإيرانيّ، ومن ناحية أخرى، يعيش الناس في هذه الأيّام الأجواءَ الحماسيّة للانتخابات، وهي أيّام حساسة تزامنت مع هذا العيد السعيد، عيد الغدير الأغرّ، وعلينا جميعًا أن نسأل الله المتعالي التوفيق للعمل بوظيفتنا وتكليفنا.
سأتحدّث اليوم بكلمة مختصرة حول حادثة الغدير، وبكلمة مختصرة حول مولى المتّقين، أمير المؤمنين (عليه الصلاة السلام) – محبّة وتقديرًا -، ثمّ سأتحدّث ببضع كلمات حول الانتخابات، هذه هي النقاط التي سأتناولها في حديثي معكم اليوم أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء المجتمعون هنا.
في موضوع عيد الغدير، وهو يوم إعلان خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، يوجد تعبير قرآنيّ لافت وحساس للغاية في [خصوص] هذا اليوم، حيث جاء في أوائل سورة المائدة: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}؛ أي إنّ يوم الثامن عشر من ذي الحجّة من العام الهجريّ [القمريّ] العاشر، يوم إعلان خلافة أمير المؤمنين؛ هو اليوم الذي يئس فيه الكفّار من القضاء على دين الإسلام المبين. فحتّى ذلك اليوم، كانوا لا يزالون يأملون في أن يتمكّنوا من القضاء عليه، لكنّهم في ذلك اليوم يئسوا من ذلك. {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة، 3). [يقول] لا تأخذكم الرهبة من الكفّار بعد الآن؛ لا تكترثوا لممارساتهم واستعلائهم، التفتوا إلى أعمالكم في محضر الله، هذا هو [مفهوم] الآية. ما الذي جعل الكفّار ييأسون؟ إنّه استمرار وديمومة «الحاكميّة السياسيّة للإسلام».
أحيانًا، يكون هناك عقيدة إسلاميّة وعمل إسلاميّ، لكنّ السياسة الإسلاميّة تكون غائبة، الحاكميّة الإسلاميّة غائبة. إن التحقّق الواقعيّ لروح الإسلام هو في ظلّ حاكميّة الإسلام – كما سأبيّن -، «الإمامة» هي روح الإسلام. الإمامة هي إحدى المراتب المهمة لشؤون رسل الله؛ ومعنى ذلك أنّ كلّ الرسل هم أئمّة، ويتمتّعون بمقام الإمامة. ومقام الإمامة هو أعلى من مقام الرسالة. فمعنى رسالة الرسول هو تبليغ الناس الرسالة الإلهيّة، أمّا معنى إمامة الرسول فهو إيصال هذه الرسالة إلى قلوب الناس وأفكارهم وأفعالهم وسلوكهم. هذا هو معنى الإمامة. ولذلك تلاحظون أنّ الله المتعالي قال لإبراهيم (عليه السلام) بعد كلّ تلك الاختبارات الصعبة التي تعرّض لها ذلك العظيم في أواخر عمره: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}. بعد كلّ هذه الأحداث، وبعد كلّ هذه الاختبارات الصعبة، يقول الله المتعالي لإبراهيم في آخر عمره: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}؛ الآن وصلت إلى مقام الإمامة. لماذا في آخر عمره؟ لأنّه يقول بعد ذلك: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (البقرة، 124)؟ أي «هل هذه الإمامة ستكون في ذرّيتي أيضًا؟»، وهو ما أجابه الله المتعالي عليه. وكما هو معروف، فإنّ إبراهيم لم يرزق بالذريّة إلّا في شيخوخته. فقد رُزقَ إبراهيم (عليه السلام) بولدين في سنّ الشيخوخة – ربما كان في التسعين من عمره أو أكبر -، جاء في القرآن: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (إبراهيم، 39)؛ هذا معنى الإمامة. وقد جعل النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) هذه الإمامة دائمة ومستمرّة بأمر إلهيّ، لكنّ استمرار هذه الإمامة يجب أن يقترن بالحاكميّة السياسيّة؛ ولذلك يعلن الخلافة، ويعلن الولاية: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه»[1]. [وتجدر الإشارة هنا] إلى أنّ حديث الغدير لم يَرْوِه الشيعة فقط، بل هو متواتر عند الشيعة والسنّة؛ وقد روى جميع رواة الشيعة والسنّة، أو أكثرهم، هذا الحديث، بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه». طبعًا، عندما تستمرّ الإمامة، يستمرّ أيضًا نموذج الحياة الإسلاميّة. وعندما تكون للإمامة حاكميّة على المجتمع، يكتسب المجتمع نموذج حياة إسلاميًّا، ويتحقّق النموذج الإسلاميّ في المجتمع. [أمّا] إذا زالت حاكميّة الإسلام السياسيّة، فإنّ الخسارة الكبيرة حينئذ في تضييع العيش الإسلاميّ والحياة الاجتماعيّة الإسلاميّة؛ هذه هي الخسارة الأكبر.
هذا هو الجهد الذي كان يبذله أئمتنا (عليهم السلام) من أجل حاكمية الإسلام على مدى مئتين وخمسين عامًا من حياتهم، هذا هو جهادهم [في هذا السبيل]، وذلك هو العمل الذي كان يقوم به بعض أعلام الشيعة فيما بعد، وذلك هو العمل الذي قام به الإمام [الخميني] الراحل والشعب الإيراني في هذه الفترة من أجل الثورة الإسلامية. كل ذلك إنّما كان من أجل إرساء الحاكمية السياسية للإمامة، مما يؤدي إلى رواج «الحياة الإسلامية» في المجتمع.
ما معنى «الحياة الإسلاميّة»؟ ماهي طريقة الحياة الاجتماعيّة الإسلاميّة؟ يمكن العثور [على الإجابة] في «القرآن»، وفي «نهج البلاغة»، وفي الروايات.
تجد نموذجًا لهذا النمط في [قوله تعالى:] {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد، 25)، أي «العدالة». [وفي قوله تعالى:] {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (الفتح، 29)، أي «ترسيم الحدود مع العدو». [وفي قوله تعالى:] {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح، 29)، أي «عطف المؤمنين بعضهم على بعض». هذه هي الخطوط الرئيسيّة، فإذا أهملنا أيًّا منها، ولم نتدارك ذلك وبقيت مهملة، حدث خلل في نموذج الحياة الإسلاميّة.
تجد نموذجًا لهذا النمط [في قوله تعالى]: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة، 128)؛ ويعني أنّ حاكم المجتمع يدرك معاناة الناس، ويشعر بها بكلّ كيانه ومن أعماق قلبه. يقول القرآن: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}؛ فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) يتألّم لما تقاسونه من مشقّات، هذا من جانب الحاكم تجاه الناس. ومن جانب الناس أيضًا: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء، 59)؛ فالناس يؤيّدون ويطيعون ويساعدون ويتبعون.
هناك ألف مورد من أمثال هذه الخطوط الواضحة لتبيين الحياة الإسلاميّة، بل ربما آلاف الموارد، في «القرآن الكريم»، وفي «نهج البلاغة»، وفي «الصحيفة السجاديّة»، وفي الكثير من الروايات، ويمكن العثور عليها. هذا هو معنى الغدير. في الواقع لقد قدّم الغدير [نمط] الحياة الإسلاميّة هديّة وتذكارًا من أجل ديمومة التاريخ الإسلاميّ. أمّا ما جرى بعد ذلك في [ما يرتبط] بقضيّة الغدير، فنقاشات أخرى. معنى الغدير هو استمرار الحاكميّة الإلهيّة والإسلاميّة؛ حتّى تتمكّن هذه الحاكميّة من الاستمرار في إقامة هذا النموذج المتميّز والمتقدّم للحياة الإسلاميّة من خلال الإمامة. هذا معنى الغدير؛ ولا فرق في هذا بين الشيعة والسنّة؛ وتنتفع به جميع المذاهب الإسلاميّة. فلننظر إلى الغدير من حيث هو مصدر «للوحدة»؛ لا نجعلنّ الغدير ذريعة للصراع بين الشيعة والسنّة. كان هذا فيما يتعلّق بالغدير.
أمّا فيما يرتبط بأمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فما عسانا أن نقول في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)! وهل يمكن للإنسان العاديّ أن يدرك تلك الشمس أو يبصرها بعين عقله؟ وينظر إليها؟ ويحدّق بها؟ أممكن هذا؟! لا. لا يمكن إدراك الجمال المعنويّ لأمير المؤمنين؛ أمثالنا لا يدركونه. نحن لا نعرف المقام العرشيّ لأمير المؤمنين؛ قد تقال بعض الكلمات، وقد تتبادر إلى أذهاننا صورة ما، ولكنّنا لا نستطيع حقًا أن نفهم جيّدًا مضمون تلك الحقيقة البيّنة التي تتجلّى في أمير المؤمنين ومعناها. الناس العاديّون لا يستطيعون أن يدركوا ذلك. الأئمّة هم مَن يدركون ذلك، والنبيّ [صلّى الله عليه وآله] هو مَن يدرك ذلك. إذًا، كيف يمكن لنا أن ننهل الدروس من أمير المؤمنين؟ من كلام أمير المؤمنين نفسه، الموجود في «نهج البلاغة»، وهو مدوّن ومتوفّر، بحمد الله. «نهج البلاغة» هذا من النعم الإلهيّة العظيمة على المجتمعات الإسلاميّة، وهو ليس حكرًا على الشيعة؛ فأعظم شرح لـ«نهج البلاغة» ألّفه ابن أبي الحديد السنّيّ. وفي هذا القرن الماضي، ألّف العالم المصريّ الشهير، محمّد عبده شرحًا لـ«نهج البلاغة»؛ أي إنّ «نهج البلاغة» ليس ملكًا للشيعة فقط، بل هو ملك للمسلمين جميعًا؛ فهو درس، وهو سبيل، وعرضٌ للطريق، وبيان للمعايير، وبيان للمبادئ. إنّه شيء عظيم. وعندما ننظر في «نهج البلاغة» هذا، وفي آيات القرآن أيضًا، يمكننا أن نتعرّف على أبعاد شخصيّة أمير المؤمنين لنستقي منها الدروس. سأستعرض ها هنا نقاطًا موجزة، ففي الحقيقة، إذا أراد المرء التحدّث حول فضائل أمير المؤمنين؛ قد يستغرق الأمر سنوات طوال، فنصف الساعة والساعة والعشر ساعات لا تفي بالغرض، لكنّنا سنتحدّث هنا بضع كلمات.
إنّ فضائل ذاك العظيم كثيرة، لدرجة أنّ الخليل بن أحمد، العالم المعروف في القرن الثاني، يقول إنّ فضائل عليّ بن أبي طالب قد أخفاها محبّوه كما أخفاها أعداؤه، أخفاها أعداؤه [حسدًا] وعداوة، وأخفاها محبّوه رهبة وخوفًا وتقية، كتموها ولم يبدوها. وعلى الرغم من إخفاء أعدائه ومحبّيه لفضائله؛ فإنّها قد ملأت العالم بأسره. وهذا تعبيره: «[ما] مَلَأ الخافِقَيْن» أيّ شخصيّة عظيمة تلك التي يؤلّف عنها مَن لا يدين بدينها مجلّدات عديدة؟ هذا أمر تفرّد به أمير المؤمنين، أمر تفرّد به عليّ بن أبي طالب فحسب. يتحدّث عنه المسيحيّ، ويتحدّث عنه الهندوسيّ، ويتحدّث عنه البوذيّ. الإخوة من المسلمون السنّة – وهم ليسوا من الشيعة؛ لكنّهم يقرّون بفضل أمير المؤمنين تمامًا – يؤلّفون حوله الكتب، ويتحدّثون عنه. هذه هي فضائل هذا العظيم.
حسنًا، سأتحدّث ببضع كلمات عن بعض سمات حياة أمير المؤمنين وشخصيّته، وقد تسنّم عليه السلام الذروة في جميعها. أولًا: اليقين؛ فما الذي يُبقي الإنسان سائرًا على الطريق، وماضيًا في إثر هدف معيّن؟ إنّه «اليقين»، أن يمتلك اليقين، ألا يصاب باليأس، ألا يصاب بالخيبة، ألا يعتريه الشكّ. أمير المؤمنين في الذروة على مستوى اليقين. وكما يعبّر الإمام نفسه: «إنّي… لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربّي»[2]، وهناك جملة مشهورة أيضًا: «لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينًا»[3]، مع الإشارة إلى أنّني لم أجد هذه الجملة في نهج البلاغة، [لكنّها] منقولة عنه على كلّ حال. هذا اليقين عند أمير المؤمنين يشكّل الذروة في درجات اليقين.
[ثانيًا] من جهة العطف على الناس. فإنّ إحساس الإمام بالناس وعطفه عليهم [كان] على أشدّه، ليس تجاه المسلمين فحسب، وليس تجاه أتباعه فحسب، بل تجاه [جميع] الناس. هناك عدّة موارد في نهج البلاغة [في هذا الخصوص]، سأذكر واحدة منها هنا. أخبَروا الإمام أنّ زُمْرَةً من الأشرار والأوباش في الشام قد دخلوا مسلّحين إلى [منطقة] الأنبار، وهاجموا بيوت الناس، ونزعوا الذهب من أيدي النساء وأرجلهنّ، وضايقوهن وآذوهنّ. [عندما] وصل هذا الخبر إلى الإمام، هذا ما قاله: «وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المُعاهدة، فينتزع حجلها»، ثم بعد ذلك يقول: «فلو أنّ امرأً مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا ما كان به ملومًا»، تلاحظون المشاعر! إنّ اللامبالاة تجاه أفراد المجتمع هي على النقيض من هذا الشعور تجاه كلّ فرد من أفراد المجتمع، حتّى تجاه المرأة غير المسلمة؛ يقول لو أنّ امرأً مسلمًا مات من بعد هذا غيرةً وأسفًا بأن دخل أوباش الشام وأشرارها البيوت، وهاجموا المرأة المسلمة [والأخرى المُعاهدة]، «ما كان به ملومًا بل كان عندي به جديرًا»[4]. انظروا إلى قمّة المشاعر! هذا المستوى من الشعور بالشفقة والرحمة تجاه كلّ فرد من الناس. هذا أيضًا جانب آخر من شخصيّة أمير المؤمنين.
فيما يتربط بالعدالة؛ أساسًا لا يتيسّر للإنسان الحديث عن عدالة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأساسًا هي غير قابلة للتوصيف. لقد [دوّنت هنا] جملة عن الإمام: «وَاللهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّدًا أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّدًا»، أي لو مارسوا بحقّي أشدّ أنواع التعذيب، وجرّوني على الأشواك بجسدٍ عارٍ وكذا وكذا، «أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِمًا لِبَعْضِ الْعِبَادِ»[5]. كلّ هذه الأمور أفضل بالنسبة إليّ من أن ألقى الله يوم القيامة وقد ظلمتُ أحدهم! لو مارسوا بحقّي أشدّ ألوان العذاب، أهون عليَّ من أن أظلم أحدًا. التفتوا إلى من يقول هذا، إنه شخص يحكم بلادًا؛ المساحة بين شرقها وغربها أضعاف حجم إيران الحاليّة. أي إنّ الدولة التي كان يحكمها أمير المؤمنين تمتد من نهر جيحون إلى نهر النيل، أيّ إنّها تشمل إيران وأفغانستان والعراق ومصر، فقط الشام كانت منفصلة، إذ فَصَلَها معاوية، والباقي كانوا تحت حكم أمير المؤمنين، وهو يقول: لو أنّ شخصًا واحدًا تعرّض للظلم من هذا العدد الهائل من سكّان هذه البلاد الواسعة كان أثقل عليَّ من أن أتذوّق ألوان العذاب كلّ حياتي! هذا هو عدل أمير المؤمنين. قلت إنّه لا يمكن للمرء أبدًا وصف عدالة أمير المؤمنين، لقدر ما هي عظيمة، ولما يوجد من شواهد غريبة وعجيبة على عدالة هذا العظيم. هنا أيضًا في الذروة.
فيما يرتبط باليقظة في مقابل العدو، هو أيضًا في الذروة. أذكر مجدّدًا جملةً من نهج البلاغة، إذ يقول: «وَاللهِ لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ»، أي لستُ شخصًا ينام على هدهدة العدو. كثر هم من يطمئنّون لابتسامة العدو، ويشعرون أنّه لم يعد هناك أيّ خطر منه. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن نَامَ لَم يُنَم عَنه»، أي إنّ ملاطفة العدوّ وهدهدته لا تجعلني أخلد للنّوم. ممّا يعني أنّ يقظته هذه – في مقابل العدوّ – في الذروة.
هناك نقطة أخرى بشأن شعبيّة الحكومة، والحقّ المتبادل بين النّاس والحاكم: «وَلَکُم عَلَيَّ مِنَ الحَقِّ مِثلُ الَّذي لي عَلَيکُم»؛[6] يقول: بنفس المقدار الذي لي من حقّ عليكم – ولتنظروا أنتم أيّ حقّ عظيم لأمير المؤمنين على الناس، لمظهر قوّة الله، مظهر رحمة الله، مظهر علم الله؟ – بقدر ما لديّ من حقٍّ عليكم، لديكم أنتم [أيضًا] حقٌّ عليّ. هكذا هي شعبيّة النظام الإسلامي. حسنًا، أن يجلس بعض الأشخاص ويقولوا إنّ جمهوريّة إيران الإسلاميّة تعلّمت الانتخابات والديمقراطيّة والسيادة الشعبيّة وأمثال هذه الأمور من الغربيّين! فهل نهج البلاغة للغربيّين؟ [هذه هي] الحكومة الشعبيّة على لسان أمير المؤمنين؛ وهناك في القرآن الكريم آيات عديدة يمكن استقاء هذا المعنى منها. وهذا أيضًا كلام أمير المؤمنين.
هناك جملة أخرى أيضًا في مقام احترام آراء النّاس، وهذه أيضًا في الذّروة: «فَلا تَکُفّوا عَن مَقالَةٍ بِحَقٍّ اَو مَشوِرَةٍ بِعَدل»؛[7] أمير المؤمنين الذي هو معدن الحكمة والعلم، وعلمه مُتَّصلٌ بعلم الله، إذ لم يُكتسب بالوسائل العاديّة؛ إنسانٌ بهذه العظمة العلميّة يقول: «فلا تَكُفُّوا عَن مَقالَةٍ بِحَقٍّ». إذا بدا لكم كلام حقّ، وارتأيتم إخباري به، فلتقولوه. لا تلتزموا الصّمت. «أو مَشورَةٍ بِعَدلٍ»، أي قد ترغبون أحيانًا في تقديم مشورة إليّ، أو يخطر في بالكم شيءٌ، فلتقدّموا المشورة. كلّ شيء في الذروة، وهو في الذروة في الجوانب كلّها.
هناك نقطة أخرى أيضًا ترتبط بقضيّة مشاركة الناس وتأثيرهم في مصير البلاد. يقول عليه السلام: «وَلَا امرُؤٌ وَإن صَغَّرَتهُ النُّفوسُ وَاقتَحَمَتهُ العُيونُ بِدونِ أن يُعينَ عَلَى ذلك»؛[8] ليس هناك من شخص ليس له أيّ تأثير في مصير البلاد، مهما بدا لكم أنه صغير، أو أردتم أو استطعتم تجاهله. أي إنّ أصغر أفراد المجتمع، وأفقرهم، وأكثرهم فقدانًا للكفاءة، يمكن لهم أن يكونوا مؤثّرين في مصير البلاد. على كلّ حال، هذه بعض الأبعاد من شخصيّة أمير المؤمنين، ولو أردنا التحدّث بعبارة أوضح، علينا القول إنّ شخصيّة أمير المؤمنين تحتوي على مئة بُعدٍ مثلًا، وقد ذكرنا هذه الأبعاد القليلة مستفيدين من كلماته هو، سلام الله عليه، ورأينا كيف أنّ أمير المؤمنين في الذروة في هذه الأبعاد كافّة. ليس الأمر مقتصرًا على امتلاكه هذه الأبعاد، [بل] إنّه في الذروة ضمن هذه الأبعاد. حسنًا، فيما يرتبط بزهد ذاك العظيم، وعبادته، وإخلاصه، وإنفاقه، وسخائه، بل وكلّ الكلام الذي ذكرته، [لو] أراد المرء التحدّث بشأن هذه الأمور، فإنّ الأمر لن يستغرق ساعة أو بضع ساعات، بل ينبغي أن يجلس ويتحدّث لأيّام وشهورٍ وسنين. إذًا، من خلال كلمات هذا العظيم نفسه؛ يمكن الوقوف على أبعادٍ أخرى وبيانها.
فلتأنسوا بنهج البلاغة، وأنا أخصّ الشباب بهذا التأكيد، فلتتعلّموا نهج البلاغة. لحُسن الحظ هناك ترجمات جيّدة لنهج البلاغة، وهي متاحةٌ للجميع. اقرؤوا نهج البلاغة، اقرؤوه. انظروا ما الذي يريد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يعلّمنا إياه؟ وما هي الدروس التي يقدّمها لنا؟ ما الذي يحدّثنا به عن نفسه؟ إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو التجسيد الأسمى لكلّ القيم التي يحدّثنا عنها. الأمر عينه نجده في كلمات غيره من الأئمّة عليهم السلام.
في هذه الزيارة في يوم عيد الغدير – اليوم – هناك زيارة كبيرة معروفة ومشروحة عن الإمام الهادي (عليه السلام)، وقد نُقلت بسندٍ معتبر، وهي موجودة في مفاتيح الجنان. ولدى هذا الفقير تحليلٌ حول ما دعا الإمام الهادي (عليه السلام) إلى الحديث بهذا التفصيل عن أمير المؤمنين، ولكنّي لن أتطرق إليه كثيرًا. يستند الإمام في هذه الزيارة إلى عشرات الآيات، ويطبّقها على أمير المؤمنين (عليه السلام). بعد أن يذكر الإمام الهادي جميع هذه المسائل حول أمير المؤمنين – لعلّها جاءت في عشرة أو اثنتي عشرة صفحة في مفاتيح الجنان – يخاطب جدّه الأعظم، فيقول:
«فَما يُحيطُ المادِحُ وَصفَك». ذاك الذي يمدحك لا يستطيع أن يبلغ وصفك، يستحيل ذلك! بعد كلّ هذا الكلام – إذ تحدّث عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) في عشر صفحات – وعلى الرغم من أنّه [أي الإمام الهادي (عليه السلام)] هو في نفسه إمامٌ ربّانيّ عظيم، يقول: «فمَا يُحيطُ المادحُ وَصفَك، ولا يُحيطُ الطّاعنُ فضلَكَ». يستحيل أن يتمكّن ذاك الذي يعارضكَ ويعاديك أيضًا من إخفاء هذه الأوصاف العجيبة. هذا هو وصفُ أمير المؤمنين (عليه السلام).
لنستلهم الدروس، علينا أن نتعلّم. إنّ اسم أمير المؤمنين (عليه الصّلاة والسّلام) المبارك، والمدائح التي ذُكرت حول هذا العظيم، متاحةٌ لنا جميعًا، ونحن نكرّرها، لكنّ ذلك لا يكفي. أمير المؤمنين معلّم، ويجب أن نجلس بأدب في محضره، ونتعلّم منه. على الجميع أن يتعلّموا [منه]. على الرئيس أن يتعلّم، وعلى المرؤوس أن يتعلّم، وينبغي للمدير في المستويات العُليا أن يتعلّم، وأمثالي أنا العبد الحقير – طالب العلم – يجب أن يتعلّموا، ولابدّ لسائر النّاس أن يتعلّموا. علينا جميعًا أن نتعلّم. قلتُ إنّ أمير المؤمنين المظهر الأسمى للإمامة، والإمامة تتولّى تبيين الحياة الإسلاميّة، والتأكيد عليها في المجتمع. يجب أن نتعلّم نمط الحياة هذا. طبعًا، الثورة الإسلاميّة ساعدت وأحدثت تحوّلًا. كان الشعب الإيرانيّ غافلًا كلّيًّا في السّابق، كما كنا نحن [كذلك أيضًا] جميعنا. رحم الله الإمام [الخمينيّ] الجليل، رحمة الله على روّاد هذه الثورة وقد استُشهد عددٌ كبيرٌ منهم. لقد بذلوا الجهود، وعملوا، وسعوا، وانتصرت الثورة الإسلاميّة، وبفضل الله استطاعوا [توعيتنا] إلى حدّ ما. إنّ الرحمة الإلهيّة تظلّل هذا الشعب، هذا غير مغفول عنه، لكنّنا لا نزال في الخطوات الأولى، أمامنا مسير طويل يجب أن نطويه، وعلينا بذل الكثير من الجهود. حسنًا، هذا بخصوص الغدير وأمير المؤمنين (عليه السّلام).
لأتحدّث ببضع كلمات عن الانتخابات. الإخوة الأعزّاء، الأخوات العزيزات! إنّ للانتخابات أهمّيّة كبيرة. سوف يواجه الشعب الإيرانيّ بعد ثلاثة أيّام اختبارًا. دائمًا ما تكون الانتخابات اختبارًا، وأهمّيّتها الآن – بمعنى من المعاني – أكبر من أيّ زمن مضى. لقد مضى أربعون يومًا تقريبًا على فقدان رئيسٍ صالح، رئيس جمهوريّة محبوب، شعبي، محبّ، قام بأعمال جعلت الناس يحبونه، وقد تمّ تشييع جثمانه بمشاركة مليونيّة في مختلف أنحاء البلاد – وهذه جميعها مزايا –، وفي الوقت عينه يشارك الناس في الانتخابات التي تجري في أجواء أربعينه، وهذا أمرٌ في غاية الأهمّيّة. قلّما تحدث أمورٌ من هذا القبيل في أنحاء العالم. لدى الشّعب الإيرانيّ هذه الهمّة.
حسنًا، آمل أن يخرج الشعب الإيرانيّ شامخًا من هذه الانتخابات، إن شاء الله. ما هو شرط الشموخ؟ الشموخ منوط بأمرين: المشاركة الأوسع في الدرجة الأولى، وانتخاب الأصلح في الدرجة التالية. كلاهما مهمّ. ونحن إذ نصرّ على المشاركة الواسعة؛ فإنّ سبب ذلك هو أنّ أهمّ أثر للمشاركة الواسعة يتجلّى في شموخ الجمهوريّة الإسلاميّة. لقد واجه نظام الجمهوريّة الإسلاميّة مُذ تأسّس أعداءَ ألدّاء فعلوا كلّ ما بوسعهم ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة، ولا يزالون يدأبون على ذلك، فهُم يخطّطون باستمرار، وقد تحدّثتُ في خطابات مختلفة عن مخطّطات هؤلاء، واستطعنا الكشف عن بعضها، بحمد الله، [وكشفنا] مخطّطات هؤلاء ليُعرف ما يرومون فعله. إنّهم الآن يدأبون على ذلك أيضًا. لدى الجمهوريّة الإسلاميّة أعداء، والانتخابات من الأمور التي تجعل الجمهوريّة الإسلاميّة تتفوّق على أعدائها. إن حصلت مشاركة جيّدة للناس في هذه الانتخابات، فإنّ هذا مدعاة لشموخٍ الجمهوريّة الإسلاميّة.
مشاركة النّاس هي من جوهر الجمهوريّة الإسلاميّة. الجمهوريّة الإسلاميّة – «الجمهوريّة» تعني الناس بطبيعة الحال – [أي] أن يخوض عامّة الناس غمار الميدان بالمنهج والأسلوب الإسلاميّ. لهذا الميدان تجلّيات عدّة، أهمّها هذه الانتخابات وانتخاب مسؤولي البلاد. «خوض الناس الميدان» يعني أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة جمهوريّةٌ بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، [لذلك] تقصر ألسنة العدوّ. في أيّ انتخابات كانت المشاركة [فيها] قليلة، طالت ألسنة أعداء الجمهوريّة الإسلاميّة والحُسّاد لها، وراحوا يشمتون. وعندما تكون نسبة المشاركة مرتفعة، تقصر ألسن الشامتين، ولا يمكنهم الشماتة والفرح، ولن نجعل العدوّ يفرح. هذا هو سبب إصراري – أنا العبد – على النسبة العالية للمشاركة. لذلك، إنّ العنصر الأوّل هو مشاركة عامّة الناس. فليجتنبوا الكسل وعدم الاكتراث والاستخفاف، وليشاركوا في جميع أنحاء البلاد. لا تقتصر المشاركة على المدن، وهي ليست محصورة بالمدن الكُبرى. ينبغي للناس أن يشاركوا في الانتخابات في مختلف المراكز السكّانيّة، القرى والقطاعات، حتّى تشمخ الجمهوريّة الإسلاميّة في العالم.
وأمّا بخصوص النقطة الثانية: انتخاب الأصلح؛ فما الذي يعنيه انتخاب الأصلح؟ من هو «الأصلح»؟ الأصلح هو – في الدّرجة الأولى – ذاك الذي يمتلك اعتقادًا قلبيًّا وحقيقيًّا بمبادئ هذه الثورة وهذا النظام. «عَلى بَصيرَةٍ» و«عَلی يَقينٍ»؛ كما ذكرنا واستفدنا من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن يكون مؤمنًا بهذا المسار. هذا أوّلًا. رئيس جمهوريّتنا الفقيد، شهيد الخدمة، رئيسي العزيز، كان مؤمنًا [بذلك] بالمعنى الحقيقي للكلمة. حسنًا، لقد كنت أعرف سماحته سابقًا، وخلال فترة رئاسته للجمهوريّة هذه على مدى ثلاثة أعوام؛ كان يلتقينا ويجتمع بنا باستمرار، وكان ملموسًا بالكامل أنّه يتحرّك من أعماق قلبه وروحه، وعن قناعة واعتقاد. بدايةً، يجب أن يكون معتقدًا، وثانيًا يجب أن يكون كفوءًا، وألّا يعرف الليل من النهار، وأن يدأب على العمل، وأن تكون لديه القدرة على العمل، وأن يستفيد من العناصر والزملاء الجيّدين، وسوف أتطرّق بكلمة مقتضبة لهذا الأمر في آخر الخطاب. الأهليّة تُكتسب من خلال القدرة على العمل، والنشاط في العمل الذي يترافق مع الاعتقاد الراسخ بمبادئ الثورة الإسلاميّة. عندما تتوفّر هذه الأهليّة، يكون هذا الشخص بهذه الخصائص قادرًا على استثمار إمكانات البلاد كافّة. لقد دوّنتُ هنا فهرسًا يتضمّن إمكانات البلاد، وسوف يطول الأمر لو أردتُ شرحها. لدينا في هذه البلاد إمكانات عديدة، طبعًا بعضها طبيعيّة، وبعضها نشأت طوال هذه الأعوام التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة بشكل تدريجي، وتمّ إنتاجها [خلالها]، لكنّ الحكومات لم تكن على نسقٍ واحد في استثمار هذه الإمكانات. بعض الحكومات لم تستفد حقًّا من كلّ هذه الإمكانات، وبعضها استفادت، وبعضها أجادت الاستفادة أيضًا. لقد كانت هذه الحكومة الثالثة عشرة من الحكومات التي استفادت من هذه الإمكانات على نحوٍ جيّد. ولو أنّ هذه الحكومة استمرّت، فإنّني – أنا العبد – أعتقد أنّ كثيرًا من مشكلات البلاد، وخاصّة الاقتصاديّة منها، كان سيُحلّ. سوف أتطرّق الآن إلى بعضها بنحوٍ مُفهرس، ومن دون شرح.
إنّ أكثر الإمكانات قيمة تتجلى في جموع الشباب المتعلّمين. وأنا لستُ مطّلعًا كثيرًا على الأحوال في جميع أنحاء العالم، لكن بين دول المنطقة؛ لا يوجد أيّ بلد آخر فيه جموع شابّة متعلّمة كما هو الحال لدينا. الذكاء والموهبة الذاتيّة الإيرانيّة من هذه الإمكانات أيضًا.
قطاع المناجم والمعادن العظيم في البلاد، ولا يقتصر الأمر على النفط والغاز. وأنا قلتُ ذات مرّة[9] إنّ تعدادنا السكّانيّ يبلغ قرابة الواحد بالمئة على مستوى العالم، لكنّ المناجم والمعادن الأساسيّة والمهمّة لدينا تبلغ أربعة أو خمسة بالمئة على مستوى العالم، أي عدّة أضعاف العدد السكّانيّ. [هذه المناجم والمعادن] من الإمكانات بطبيعة الحال، وينبغي الاستفادة منها.
الموقع الجغرافيّ، بمقدورنا أن نقول إنّه صلة الوصل بين شمال العالم وجنوبه وشرقه وغربه، وطبعًا، مهّد المرحوم السيّد رئيسي لهذا العمل، ولا زالوا يواصلون بعض أعماله أيضًا، ونسأل الله أن تتمكّن الحكومة التالية من إنجاز هذا العمل على النحو الصحيح. هذا الأمر مهمٌّ جدًّا للبلاد. الحدود المائيّة الطويلة مع المياه الدوليّة، بحار الجنوب والشمال، عدد الجيران، السوق الكبرى في المنطقة، سوق البلاد نفسها الذي يحتوي ثمانين مليونًا، التنوّع الإقليميّ للبلاد، شبكة سكك الحديد والطرق في أنحاء البلاد التي تُعدّ من الميزات الكبرى لبلادنا، وقد أُنجز هذا العمل، بفضل الله، على مرّ الزمان وخلال [فترات عمل] مختلف الحكومات. القدرات التقنيّة لرجالنا وشبابنا في موضوع المسكن، الطرق، السدود وفي شتّى المناطق. القدرات الصناعيّة للبلاد في تصنيع مختلف أنواع التجهيزات. هذه كلّها بنى تحتيّة وإمكانات مهمّة، هذه هي البنى التحتيّة لتقدّم البلاد.
المناطق الحرّة التجاريّة إن جرت الاستفادة منها بالنّحو الصحيح، لا على ما جرت عليه العادة على مرّ الزمن من الاستفادة منها بطريقة خاطئة. إذا جرت الاستفادة [منها] بالنحو الصحيح، كانت هذه المناطق الحرّة أو المناطق الاقتصاديّة الخاصّة في عداد الفرص للبلاد.
المواريث الثقافيّة والحضاريّة للبلاد، هذه كلّها ضمن إمكاناتنا المهمّة. إمكانات تنمية السياحة. الإيمان الديني عند الأغلبيّة العظمى من الناس في البلاد، هذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا. شعبنا شعبٌ مؤمنٌ حقًّا، وربّما يكون هذا أيضًا من الأمور النادرة في البلدان الإسلاميّة. قد لا يعبّر بعض الناس بسلوكهم وظاهرهم وما شابه ذلك عن تمسّكٍ صحيح بالشرع والشريعة وأمثال هذه الأمور، لكنّ الإيمان الدينيّ والإسلامي مشهودٌ لدى الأكثريّة العظمى من عموم الناس في البلاد. حسنًا، يمكن الاستفادة من هذه الإمكانات من أجل تحقيق التقدّم للبلاد. ذاك الذي يكون قادرًا [على الاستفادة منها]، هو الأصلح. إن شاء الله، تتمكّن حكوماتنا من الاستفادة من هذه الإمكانات. ذاك الذي يملك القدرة على استثمار هذه الفرص والإمكانات، هو الأصلح، هو ذاك الشخص الأصلح.
بعض السياسيّين يتصوّرون أن عليهم ربط أنفسهم بهذه القوة أو تلك، وأنّه لا يمكن التقدّم في البلاد بدون التعلّق بالقوة العظمى الفلانيّة المعروفة. بعض الأشخاص يفكّرون على هذا النحو، أو يتوهّمون بأنّ كلّ سبل التقدّم تمرّ من أمريكا. لا، هؤلاء ليسوا قادرين. هؤلاء الذين يتطلّعون إلى خارج حدود البلاد؛ لا يرون هذه الإمكانات. وعندما لا يرونها ولا يعرفون قيمتها، فمن الطبيعيّ ألّا يخطّطوا أيضًا للاستفادة منها. هذا أحد أسباب تأكيدنا على ألّا تتطلّعوا إلى الخارج، فعندما لا يعقد المرء آماله على الخارج؛ يتمكّن من رؤية هذه الإمكانات الداخليّة، وإدراكها، والتعرّف إليها. لقد أثبتت الجمهوريّة الإسلاميّة حتّى الآن، بفضل الله وتوفيق منه، أنّها قادرةٌ، ومن دون الاعتماد على الأجانب – بل حتّى مع إيذائهم واختلاقهم التحدّيات -؛ على التقدّم والمضيّ قُدمًا، وقد تقدّمتْ بالفعل. هذا ما أثبتته الجمهوريّة الإسلاميّة. وفي المستقبل أيضًا، وبحول من الله وقوّة؛ لن يسمح الشعب الإيرانيّ للآخرين أن يكتبوا له مصيرَه بأيديهم.
نحن عندما نتحدّث أحيانًا حول هذه الأمور في الكلمات والخطابات، يتوهّم بعض الأشخاص أو يكتبون أنّ هذا يعني بناء الأسوار حول البلاد، وقطع العلاقات مع العالم. لا، أبدًا. أنا العبد [لم أقل شيئًا من هذا القبيل] يومًا من الأيّام. نحن كنّا في عالم السياسة، وخضنا في قضايا الثورة الإسلاميّة وشؤون البلاد، بقدْر أعمار بعض هؤلاء الأشخاص. منذ البداية اعتقدتُ [بأهميّة] إقامة العلاقات مع العالم كلّه، عدا استثناء أو اثنين. في يوم من الأيّام – في بدايات الثورة – كانت جنوب أفريقيا بلدًا يسوده التمييز العرقيّ، فقمنا بقطع علاقاتنا معها. ثمّ بعد انتهاء التمييز العرقي، أعدنا العلاقات، وغدت علاقاتنا علاقات جيّدة أيضًا. فلا بدّ من زوال السبب الذي يؤدّي إلى قطع العلاقات، وإلّا فإنّنا نؤمن بالتواصل مع العالم كلّه، ولدينا تواصلٌ معه أيضًا، بفضل الله. وفي بعض الحكومات التي تمسّكت بمبادئ [الثورة] بقوّة، مثل حكومة الشهيد رئيسي، تعزّزت علاقاتنا العالميّة أيضًا، وتعزّزت علاقاتنا الدوليّة.
وعليه، إنّ تأكيدنا على وجوب عدم التطلّع إلى الأجانب لا يعني قطع العلاقات، بل يعني الشجاعة الوطنيّة والاستقلال الوطنيّ. وأنتم لو تحلّيتم بالشجاعة الوطنيّة والاستقلال الوطنيّ، ولو أظهر الشعب الإيرانيّ للعالم شخصيّته، وقدراته، واستقلاله، وقدرته على التقدّم، فإنّه سيحظى بمستوى أكبر وأكثر بكثير من الاحترام حول العالم. كما هو الأمر على هذا النحو الآن، بفضل الله. [بل] سيحقّق [بذلك] نجاحات أكثر أيضًا.
حسنًا، لقد أنهينا كلامنا. وأودّ تقديم توصيتين: توصية للنّاس، وتوصية للمرشّحين الموقّرين لرئاسة الجمهوريّة. في خصوص وصيّتي لأهلنا الأعزاء: لقد ذكرنا «إيران القويّة والشامخة»، وغدا هذا شعارًا. إيران القويّة لها الكثير من المؤيّدين، ولا تقتصر قوّة إيران على أن نمتلك أنواع الصواريخ وأصنافها، ونحن نملكها بفضل الله، لدينا شتّى الأنواع والأصناف من الصواريخ، ونملك المؤثّر والفعّال منها، لكن الأمر لا يقتصر على ذلك. فلبلوغ القوّة جوانب مختلفة، له جوانب علميّة، وثقافيّة، واقتصاديّة. وأحد جوانبه هو جانب الحضور في ميدان السياسة، وميدان الانتخابات هذا. هذا أيضًا مؤشّرٌ على القوّة. إذًا، يجب على كلّ مَن يرغب في أن تكون إيران قويّة؛ أن يشارك في هذه الانتخابات. ويجب على كلّ من يعتقد وجوب دعم نظام الجمهوريّة الإسلاميّة؛ أن يهتمّ بهذا الأمر بنحوٍ مضاعف. هذه توصيتي وكلامي للنّاس.
وأمّا توصيتي وكلامي الموجّه للمرشّحين للانتخابات، فأنا أقول لهؤلاء السادة الأفاضل: عاهدوا إلهكم بأن لو نجحتم واستطعتم تولّي مسؤوليّة معيّنة، ألّا تجعلوا الأفراد والقيّمين لديكم مِن الذين يختلفون مع الثورة الإسلاميّة قيد أنملة. لن يكون زميلًا جيّدًا لكم في العمل ذاك الذي يختلف مقدار ذرّة مع الثورة الإسلاميّة، ومع الإمام [الخمينيّ] الراحل، ومع النظام الإسلاميّ. لن يكون زميلًا جيّدًا لكم في العمل ذاك المنبهر بأمريكا، والذي يتصوّر أنّه لا يمكن التقدّم خطوة في هذه البلاد من دون تفضّل أمريكا [علينا]، [فهو] لن يستثمر قدرات البلاد وإمكاناتها، ولن يُدير [الأمور] بنحوٍ جيّد. ذاك الذي لا يكترث لاستراتيجيّة الدين والشريعة، لن يكون زميلًا جيّدًا لكم في العمل. انتخبوا مَن يكون صاحب دِين، ومتشرّع، وثوريّ، ولديه إيمان تامٍّ بالنظام. إذا عاهدتم أنتم – أيها المرشّحون الموقّرون – إلهكم مثل هذا العهد، فلتعلموا أنّ كلّ الأعمال التي تؤدّونها من أجل الانتخابات ستكون من حسناتكم، شرط أن تكون لديكم مثل هذه النيّة. إذا عاهدتم الله مثل هذا العهد، فإنّ الأعمال الانتخابيّة ستكون من العمل الصالح، وسيكون لها ثوابٌ عند الله المتعالي. نسأل الله المتعالي أن يوفّقنا وإيّاهم جميعًا. وليحفظكم الله جميعًا، إن شاء الله.
________________________________________
[1] الأمالي، الشيخ الصدوق، ص. 122.
[2] نهج البلاغة، الرسالة 62.
[3] غرر الحكم، ص. 566.
[4] نهج البلاغة، الخطبة 27، (مع اختلاف طفيف).
[5] نهج البلاغة، الخطبة 224.
[6] نهج البلاغة، الخطبة 216.
[7] نهج البلاغة، الخطبة 216.
[8] نهج البلاغة، الخطبة 216.
[9] مثال على ذلك، كلمة الإمام الخامنئي خلال لقاء مع مسؤولي البلاد، 4/4/2023.
2024/06/25
المصدر: khamenei.ir