نص الخطبة
يقول الله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ).
من المسائل المطروحة اليوم على المستوى الثقافي وغير الثقافي والتي طرحها الامام القائد (دام ظله) قبل اكثر من سنة هي مسألة جهاد التبيين.
وجهاد التبيين معناه ان الاستراتيجية التي يجب ان نتبعها في المواجهات الدائرة بيننا وبين اعدائنا سواء كانت في المجال الثقافي او السياسي او الاعلامي او غيره هي استراتيجية تبيين الحقائق والوقائع وتوضيح الالتباسات للناس وللرأي العام حتى يثبتوا ويصمدوا ولا يقعوا تحت تأثير دعايات العدو والاكاذيب والشبهات والخداع والتضليل الذي يمارسه.
وهذه المواجهة هي ليست مجرد تبيين وانما هي جهاد ومصداق من مصاديق الجهاد، لان الجهاد هو بذل الجهد في مواجهة العدو في اي ميدان من الميادين وليس في ميدان القتال فقط ، فقد يكون ميدان الجهاد والصراع فكريا وثقافيا، وقد يكون سياسيا او اعلاميا او اقتصاديا ، والتصدي لكشف الحقائق والثبات والصمود في مثل هذه المواجهات يسمى جهادا.
فالجهاد ليس القتال فقط، بل هناك جهاد وهناك قتال، القتال هو اشتباك مسلح مع العدو وهو واحد من مصاديق الجهاد، اما الجهاد فمعناه اوسع من القتال.
الجهاد مواجهة بين طرفين بين فريقين كل واحد يريد تحقيق اهدافه، وهذه المواجهة قد تكون عسكرية وقتال، وقد تكون حربا دينية وفكرية وثقافية او حربا سياسية واعلامية واقتصادية، والمواجهة في كل هذه الميادين تسمى ايضا جهادا، وهذا هو الجهاد بعنوانه الواسع والعام
ولذلك الإمام علي (عليه السلام): الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ).
فهناك جهاد بالمال وجهاد بالنفس وجهاد باللسان، والجهاد باللسان هو اهم مصداق للتبيين والبيان والشرح والتوضيح سواء كان بالكلام او الكتابة او اي شكل من اشكال التعبير.
اليوم هناك جبهات وحروب متنوعة تشن علينا، ثقافية واخلاقية واقتصادية ومعيشية وسياسية واعلامية وغير ذلك، والمواجهة في كل هذه الحروب تندرج في سياق جهاد التبيين، ويجب ان نتصدى لها من خلال جهاد التبيين.
النبي الاعظم(ص) في المرحلة المكية واجه كل هذه الانواع من الحروب بالتبيين والصمود والثبات وليس بالقتال.
في الموضوع الديني والعقائدي والثقافي، فإن أصل الدعوة في صدر الإسلام كانت تقوم على التبيين، وكان الجهاد في كل المرحلة المكية جهاد تبيين ولم يكن جهادا عسكريا وفي ميادين القتال.
والتبيين والتوضيح هو من أهم مهام الأنبياء. بينما أعداء الأنبياء كانوا يستخدمون الجهل وطمس الحقائق والوقائع».
الانبياء والرسل من ادم الى نبينا محمد(ص) كان دورهم تبيين الحقائق وشرح معالم الدين والتصدي للضلال والكفر والشرك ولشبهات المشركين والمنافقين ، وهذا ما اشار اليه قوله تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) الانبياء كانت وظيفتهم تبيين الحقائق والدعوة الى الحق والى عبادة الله والى الالتزام بالقيم الالهية، كانوا يبينون الرؤية الصحيحة للحياة، الرؤية الصحيحة عن القيم الانسانية والاخلاقية، كانوا يدعون الناس الى ان يلتزموا بكل ما يؤدي الى سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والاخرة، وقد تعرضوا وتعرض اتباعهم على هذا الطريق الى الكثير من الالالم والعذابات والاساءات والاهانات والافتراءات والاتهامات والحصار والعزل والطرد والقتل ولكنهم لم يتراجعوا بل صمدوا وثبتوا وحققوا اهدافهم .
وسأركز في حديثي اليوم على هذا النوع من المواجهة وهي المواجهة الثقافية التي هي من ابرز مصاديق جهاد التبيين، حيث ان المواجهة الدائرة اليوم ليست مواجهة سياسية واعلامية واقتصادية فقط بل ايضا مواجهة دينية وعقائدية وفكرية وثقافية واخلاقية وسلوكية ، فهناك اليوم محاولات من قبل الاعداء لتشويه ديننا وعقيدتنا وثقافتنا ، وتضليل شبابنا وفتياتنا وابعادهم عن قيم دينهم من خلال ادخال بعض الشبهات والمفاهيم المخالفة لديننا في المناهج التعليمية الجامعية وغيرها لا سيما المفاهيم المتعلقة بحقوق الانسان وتمكين المرأة والمساواة والعدالة والحرية الشخصية وغير ذلك مما يحتاج الى تبيين وتوضيح واجابة عن الشبهات المطروحة، بل ان هناك اليوم دعوات الى الالحاد وانكار وجود الله ومن يتابع يرى كيف انهم يرمون ببعض الشبهات العقائدية عبر وسائل التواصل وغيرها من اجل زعزعة ايمان الناس ودين الناس لا سيما الشباب والناشئة.
هناك من يدير حروبا عقائدية وثقافية واخلاقية، ويعمل على افساد الناس اخلاقيا وسلوكيا، وفي مقدمهم الولايات المتحدة الامريكية.
الولايات المتحدة الامريكية تدير منذ زمن طويل عملية افساد الشباب والشابات والاجيال والبشرية، افسادهم اخلاقيا وسلوكيا من خلال اغراقهم بالشهوات والملذات وتوريطهم بآفة المخدرات ومن خلال ضرب العفة والحياء لدى المرأة والتشجيع على الانحلال الاخلاقي، وضرب مفهوم الزواج والعائلة، والترويج للمثلية والشذوذ الجنسي.
ففي السابق كان القانون يعاقب ويسجن المثليين والشاذين بينما اليوم بعض الدول لا تعاقب بل تدعو الى المثلية وتشجع على المثلية.
اليوم سفارات اميركا ترفع علم المثليين، هناك زعماء ورؤساء دول ورؤساء حكومات في الغرب يشجعون على المثلية ويحتفلون بمناسبات ترتبط بالمثليين.
اميركا تضغط حتى على بعض الدول العربية والاسلامية لادخال موضوع المثلية في المناهج التعليمية وكتب الاطفال.
اليوم هناك مخاوف حقيقية في بعض بلدان الغرب من ان انتشار ثقافة المثلية في المجتمع ستؤدي الى انقطاع النسل البشري، وبالتالي الى تدمير العائلة والاسرة وانقراض المجتمعات.
في هذه المواجهة لا يجوز ان نترك اجيالنا واولادنا لتضيع ولتقع تحت تاثير هذه الحرب سواء سميت حربا ناعمة او حربا ثقافية او غزوا ثقافيا.
هنا يجب ان نبين الحقائق وان نشرح ونوضح معارف ومفاهيم الدين، ان ندعو الناس الى الالتزام الحقيقي والتدين الحقيقي، ان نعلم اولادنا وجيراننا واصدقائنا وزملائنا وابناء مجتمعنا قيم الايمان ومعارف الاسلام، وان نتابعهم على هذا الصعيد، ان ندعو الناس الى الخير والمعروف والاحسان والثبات على الايمان في مواجهة من يدعوهم الى التفلت والانحراف والضلال، ان نتصدى للشبهات وللافكار التي تشكك الناس بدينهم وقيم دينهم وان نقدم الاجابات الصحية عنها وان كنا لا نعرف كيف نتصدى او نجيب عن الاشكالات علينا ان نسأل ونتعلم ونتسلح بالوعي والمعرفة والثقافة لكي نقدم اجابات صحيحة ونبين الحقائق.
نحن معنيون ان نوجد عبر جهاد التبيين الحصانة اللازمة لاجيالنا حتى لا يقعوا فريسة هذه الموجة الضالة التي يراد منها ابعادهم عن دينهم والهائهم عن القضايا الكبرى التي تعني وطنهم وامتهم .
اذا انحرف الشباب عن الدين وابتعدوا عن قيم الايمان وانحرفوا واستغرقوا بالشهوات والملذات والاهواء وانجرفوا مع التيارات المنحرفة فان من الصعب ان يعودوا للالتزام .
اذا استحكمت الشبهات العقائدية والافكار غير الصحيحة في عقولهم فان من الصعب ازالتها وبالتالي قد يؤدي ذلك الى الالحاد.
اذا تورط الشاب او الشابة بالمخدرات فان استنقاذه من هذه الورطة يصبح امرا صعبا مما يؤدي الى معاناة الشخص نفسه ومعاناة اهله وعائلته.
ايضا اذا ابتلى الانسان بالشذوذ الجنسي فان من الصعب اعادته الى الحالة الطبيعية، لذلك قبل ان يبتلي الشخص بالمخدرات او الشذوذ او الالحاد او الافات الاخرى يجب ان نمنعه من ذلك لانه لا يوجد حل فيما بعد.
هناك العديد مممن تورطو بمثل هذه الافات يعانون ولا يستطيعون تركها بالرغم من انهم يريدون ذلك، لكنهم لا يستطيعون، ويتعذبون بسبب ذلك، والبعض وصل به الامر الى التفكير بالانتحار.
عندما نتحمل هذه المسؤولية ونبين للناس وللاجيال المعارف والحقائق ونرشدهم الى طريق الهداية والاستقامة والتدين، ونعلمهم اخلاق دينهم والسلوك الصحيح ونهتم بهذا الجانب من حياتهم ليكونوا محصنين حتى لا يقعوا تحت تاثير الحرب الناعمة والشبهات والاضاليل، فنحن بذلك نقوم بدورنا في هذه المواجهة الثقافية وهذا هو جهاد التبيين.
جهاد التبيين هو امر واجب ووجوبه عيني على الجميع وليس كفائيا، فهو مسؤولية الجميع، العلماء والخطباء والاساتذة والنخب والمثقفون والشعراء والادباء وغيرهم .
هو مسؤولية الرجال والنساء، الزوج والزوجة، الاب الام، الابن والبنت، الجار، الاصدقاء، الزملاء، وكل ابناء المجتمع.
في داخل الاسرة الزوج يجب ان يبين لزوجته والعكس صحيح، الاب والام يبينون لاولادهما، الجار لجاره، الاصدقاء في السهرات يبينون لبعضهم، الزملاء في العمل ايضا وهكذا..
القرآن لم يحمل مسؤولية التبيين لفئة خاصة للعلماء او النخب فقط وانما يخاطب الجميع ويدعوهم الى تحمل هذه مسؤولية، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ).
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
كل من لديه فرصة التبيين وقدرة التبيين من واجبه التبيين والتوضيح والشرح واظهار الحقائق ايا تكن النسبة التي يستطيع القيام بها . ان نقوم بحركةٍ شاملةٍ، للتأثير على العقول والقلوب، والضمائر، والعواطف، والأحاسيس، والأعراف، والعادات الفرديّة والاجتماعيّة، بهدف تصحيحها وتغييرها لكن بالمنطق والحكمة والموعظة الحسنة.
اليوم ساحة الفضاء المجازي ووسائل التواصل ووسائل الاعلام هي من اهم ساحات جهاد التبيين ويمكننا من خلال هذه الوسائل نشر الأفكار والمفاهيم الصحيحة، والإجابة عن الإشكالات والشبهات والإبهامات المختَلَقة ، يمكننا الجهاد في هذا المجال بالمعنى الحقيقي للكلمة على حد تعبير الامام القائد(دام ظله) لمواجهة كل اشكال الحروب التي يشنها الاعداء علينا ومنها الحرب الثقافية والاخلاقية التي يسميها سماحة القائد(دام ظله)الحرب الناعمة.
اليوم الحرب الناعمة التي يريد الأميركي من خلالها ابعاد شبابنا واجيالنا عن دينهم وقيمهم واخلاقهم والمقاومة، واجهناها ولا زلنا نواجهها بالوعي والمعرفة وجهاد التبيين وبثباتنا على ديننا واخلاقنا وتمسكنا اكثر من اي وقت مضى بمقاومتنا وحقنا في الدفاع عن بلدنا وعن ثرواته وحقوقه.
رغم كل المليارات التي أنفقها الامريكي وحلفاؤه لاخضاع شبابنا واجيالنا وإبعادهم عن هويتهم وعن المقاومة، ورغم التحريض والحصار والتجويع، لم يستسلموا ولم يتراجعوا ولن يتراجعوا، وها هي اجيالنا تعبر عن تمسكها بمبادئها وبهويتها وبالمقاومة من خلال الحشود الهائلة التي اجتمعت في نشيد سلام يا مهدي في كل المناطق اللبنانية.
لقد أُحبط الامريكي وأدواته في الداخل من مشاهد نشيد سلام يا مهدي، ومن اقبال الناس الكثيف على الانتخابات والنتائج التي حصلت عليها المقاومة ، خصوصًا أنها أتت بعد سنواتٍ من الحصار والتجويع والضغوط والعمل الدؤوب لحرف جيل الشباب والناشئة اللبنانيين عن المقاومة .
واحبط مرة جديدة عندما استطاعت المقاومة ان تفرض معادلتها في مفاوضات الترسيم وحقوق لبنان النفطية.
واذا كان الامريكي يراهن من خلال استمراره بسياسة الضغوط والتباطوء والمماطلة في ملف استخراج النفط على تراجع المقاومة عن معادلتها وخياراتها فهو واهم، لان المقاومة ماضية في المسارات التي حددتها لانتزاع حقوق لبنان، ولن تتراجع عنها الا في حالة واحدة، هي تمكين لبنان من التنقيب عن النفط واستخراجه واستثماره بلا قيد ولا شرط.