نص الخطبة
الدور الذي قام به الامام زين العابدين(ع) بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) وأهل بيته و أصحابه كان دورا عظيما استطاع من خلاله إحياء الاسلام من جديد بعد ان حاول الامويون بقتلهم للحسين(ع) القضاء على الاسلام وعلى نهج اهل البيت (ع) والعودة الى الجاهلية، لكي يستفردوا بالسلطة ويكرسوا هيمنتهم وسيطرتهم على الواقع الاسلامي وعلى الامة ويحتفظوا بوجدهم وتفوقهم، ولذلك ومن اجل تحقيق هذه الاهداف وصولا الى استباب السلطة لهم وحصرها فيهم بشكل نهائي، اتبعوا السياسات التالية :
1- القيام بحملة اعلامية واسعة ضد أهل البيت ( عليهم السلام ) وتشويه صورتهم من خلال بث الدعايات الكذبة بحقهم والافتراء عليهم، وتوجيه التهم الباطلة إليهم، وتصويرهم على أنهم هم المعتدون والظالمون ، وان قتل الحسين (عليه السلام) لم يكن إلا لأنه كان هو الجاني والمعتدي بتمرده وخروجه على السلطة الشرعية، أما هم فانهم كانوا الضحية والمظلومين في هذه القضية والظالم هو الحسين(ع)!!. ومن ذا الذي يجرؤ أن يرد على الأمويين او يشكك في دعاياتهم وافتراءاتهم وأكاذيبهم او يظهر الحقيقة ؟!.
2 ـ سياسة التجويع و الحرمان لأهل البيت ( عليهم السلام ) وشيعتهم، وحرمانهم من كل الامتيازات و مصادرة أموالهم ، و حتى هدم بيوتهم ، حتى لا يجدوا لقمة العيش إلا على موائد الأمويين، ومن لف لفهم ، وإجبارهم على التعامل مع النظام لكي يحفظوا حياتهم ودمائهم ، وحتى لا يصنفوا في خانة المعارضة فيقضى عليهم ،
3- ـ اتباع سياسة الاضطهاد والملاحقة والتصفية الجسدية والنفسية لكل من يتصل بأهل البيت ( عليهم السلام ) ، أو يظهر الميل والتعاطف معهم . . حتى لا يفكر احد بالوقوف موقف المعارضة للنظام الحاكم من جهة، ومن جهة اخرى حتى يمنعوا الناس من الاقتراب من اهل البيت ، و الاستفادة من تعاليمهم ، و التحلي بأخلاقهم ، و التعرف على الإسلام الصحيح الذي عندهم
فإن الناس إذا علموا أن الاقتراب من آل علي(ع) لا يعني إلا الاضطهاد والقتل او الشقاء، فإنهم سوف يخافون ويتجنبون ذلك .
4ـ سياسة التجهيل بالاسلام التي كانت تتعرض لها الأمة بأسرها ، و يكفي أن نذكر : أن الناس والهاشميين بالذات كانوا في زمن الامام السجاد عليه السلام، لا يعرفون كيف يصلون ، و لا كيف يحجون ، وإذا كانت الصلاة، التي هي الركن الأعظم في الإسلام ، و يؤديها كل مكلف خمس مرات يومياً كان لا يعرف حدودها و أحكامها من هم أقرب الناس إلى مهبط الوحي والتنزيل ، و الذين يفترض فيهم أن يكونوا أعرف من كل أحد بالشريعة ، و أحكام الدين ، فكيف تكون حالة غيرهم من أبناء الأمة .
يقول أنس بن مالك عن تلك المرحلة ـ على ما رواه البخاري و الترمذي ـ :ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . قيل : الصلاة ؟قال : أليس صنعتم ما صنعتم فيها. يعني حتى الصلاة قد حرفتموها.
ويقول الزهري : دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو وحده، يبكي، فقلت له: ما يبكيك ؟ قال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وقد ضيعت.
و بعد عصر أنس بقليل نجد الحسن البصري يقول : لو خرج عليكم أصحاب رسول الله( صلى الله عليه و آله ) ما عرفوا منكم إلا قبلتكم.
وهذا كله بسبب منع اهل البيت من نشر علومهم ومعارفهم وابعادهم عن الساحة وافساح المجال امام الكذابين والوضّاعين واصحاب المصالح ليكونوا هم مصدر العلم والمعرفة والثقافة للأمة، حتى لنجد أن الامام السجاد عليه السلام يقول في دعائه الخاص بيوم الجمعة وعرفه : اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها .. حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدلاً وكتابك منبوذاً و فرائضك محرفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة الخ” .
نعم، لقد صار أولئك الوضاعون والكذابون وأصحاب المصالح ، هم مصدر الثقافة و المعرفة ، وهم معلمو الأمة ، وهداتها، وقد ساعدهم النظام الاموي على ذلك، ووفر لهم المال والرعاية والحماية ، لانهم كانوا يخدمون النظام الأموي ويبررون له سياساته الظالمة بحق الامة ويضفون على هذه السياسات صفة القداسة من خلال نسبتها الى رسول الله (ص)
وايضا لانهم كانوا الاقدر من خلال وضع الاحاديث الكاذبة والمحرفة ان يشوه صورة الاسلام ونبي الاسلام بما يؤدي الى تحقيق هدف الامويين الاساسي وهو إبعاد الناس عن الإسلام الصحيح .
هذه لمحة عن السياسة الاموية وعن الوضع الذي كانت تعيش فيه الأمة في زمن الامام السجاد عليه السلام . .
وفي هذا الجو بالذات كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم بمهمة إمامة الأمة وهدايتها إلى الإسلام ، هدايتها الى الإسلام الصحيح ، إسلام محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه و آله ) واسلام علي ( عليه السلام ) . . وإسلام القرآن . . وقد كانت مهمته هذه في غاية الصعوبة و الخطورة نظرا لموقف النظام الأموي السلبي منه ، ومن أهل البيت عموما وشيعتهم ، وكل من يرتبط بهم بسبب او نسب ونظرا ايضا لان الإمام السجاد عليه السلام لم تكن له المكانة التي كانت لأبيه الحسين ( عليه السلام ) ، ولا كان معروفاً لدى الأمة على نطاق واسع ، وكانت الامة قد ابتعدت عنهم نتيجة الخوف من الاتصال بهم حتى ان الامام الصادق عليهم السلام : ارتد الناس بعد قتل الحسين إلا ثلاثة : أبو خالد الكابلي و يحيى بن أم الطويل و جبير بن مطعم (لعل الصحيح : حكيم بن جبير) ثم إن الناس لحقوا و كثروا .
وإذن . . فلابد للسجاد عليه السلام أن يبدأ العمل من نقطة الصفر تقريباً، ويعيد الإسلام من جديد و يوجه الناس نحو تعاليمه و أحكامه ، ويعيد للناس عقيدتهم التي كانت قد تعرضت للكثير من التحريف ، وأن يعيد لهم ثقتهم بأهل البيت (ع).
والخلاصة : كان لا بد للامام السجاد من أن يبدأ من نقطة الصفر تماماً كما بدأ النبي ( صلى الله عليه و آله ) فيما سبق من نقطة الصفر، ولابد له أيضاً . من الحفاظ على اتباعه وشيعته وكسر الطوق الذي ضربه الحكم حولهم لاحتوائهم ، وكذلك إعادة ثقة الأمة بأهل البيت ( عليهم السلام ) وتوجيهها نحوهم واعتبارهم المصدر الأساسي لتعاليم الإسلام ومعارفه وأخلاقه.
وقد نجح الامام عليه السلام في كل ذلك، رغم كل الظروف القاسية والأخطار الجسيمة التي كان يواجهها، بدليل انه عندما خرجت الثورات الشعبية ضد الأمويين كثورة زيد وثورة المختار وغيرها انخرط فيها وايدها الالاف من الناس مع انها كانت بدوافع مذهبية وللثأر للحسين(ع) .
وطبعا نحن لا نستطيع في هذه الخطبة أن نلم بكل اساليب عمل الامام وجهاده ونضاله والادوار التي قام بها، لان ذلك يتاج الى خطب وليس خطبة واحدة، ولذلك سأكتفي بالإشارة إلى ثلاثة أمور قام بها الامام:
الامر الأول : إنه بالإضافة إلى أنه كان يوجه الأمة من خلال سلوكه واخلاقه وتصرفاته ومواقفه، فإنه كان أيضاً يوجه الأمة من خلال أدعيته ، التي كان يشير فيها الى مسائل عقائدية وسياسية وأخلاقية هامة وحساسة، ولم يكن بإمكان أحد أن يمنعه و يقول له : لا تدع ربك، لانه بحسب الظاهر انما كان يتعبد لله ولا يتعرض لفساد الطبقة الحاكمة، ولذلك نجد ان اتباع السلطة كانوا يحترمونه ويقدرونه ويثنون عليه لانهم اطمأنوا إلى أنه عليه السلام ليس في صدد التخطيط و العمل ضدهم وضد السلطة الحاكمة ، وفاتهم : أنه كان في الظاهر يدعو الله، و لكنه كان في واقع الأمر يدعو إلى الله ، وينشر العلوم والمعارف الاسلامية الصحيحة، ويعرّض بفساد السلطة وممارساتها الظالمة الامر الثاني : اهتمامه عليه السلام المتميز بشراء العبيد و عتقهم وتحريرهم من اجل كسب تاييدهم لنهج اهل البيت ، حتى يقال انه صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار، والجواري الحرائر، قدر بخمسين ألفاً أو اكثر وكلهم يوالون الامام زين العابدين، بل البعض قال : إنه اعتق مئة ألف شخص.
وقد كان من نتائج هذه السياسة أن الموالي صاروا يعتبرون أهل البيت عليهم السلام هم المثل الأعلى للإنسان وللإسلام، وكانوا مستعدين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف، ولذلك نجد أن الموالي كانوا ينتصرون للعلويين عندما كانوا يتعرضون للاضطهاد والظلم من قبل السلطات .
الامر الثالث: مواجهة سياسة التجويع التي اتبعتها السلطة الاموية ضد اتباع اهل البيت من خلال رعايته المستمرة في السر والعلن للفقراء والمساكين والمحتاجين والمتعثرين، واحتضانهم وقضاء حاجاتهم،وايصال المساعدات والمعونات اليهم.
وقد نقلت لنا كتب السير والتاريخ عنه مواقف جليلة في الجود والكرم والانفاق والتصدق على المحتاجين
فقد كان(ع) يحمل جرابه ملثّماً في جوف الليل يوزّع المال والطعام على المساكين وذوي الحاجة والفاقة
وعن الامام الباقر (عليه السلام): أنّه كان يعول مائة بيت في المدينة .
وفي واقعة الحرة التي كانت تستهدف احتلال المدينة من قبل يزيد، تكفل الإمام زين العابدين(ع) أربعمائة عائلة من اهل المدينة.
ويروي الزهري: ( لما مات زين العابدين فغسّلوه وجدوا على ظهره علامة وأثرا من كثرة ما كان يحمل »
ويقول أبو نعيم في حلية الاولياء : ( كانت بيوتٌ في المدينة تعيش من صدقات علي بن الحسين ، وبعضها لا تدري من أين تعيش ، فلمّا مات علي بن الحسين فقدوا ما كان يأتيهم ، فعلموا بأنّه هو الذي كان يعيلهم.
وقال بعضهم : ما فقدنا صدقة السرّ حتى فقدنا علي بن الحسين .
وهكذا فإن الامام السجاد(ع) قام بمهمة عظيمة، مهمة احياء الإسلام في الأمة من جديد، وأعاد وصل الامة بأهل البيت ( عليهم السلام ) بعدما كانت السلطة تعمل باستمرار على قطع هذه الصلة بشكل كامل، وعمل على ترسيخ قيم التكافل والتعاون والتآزر بين ابناء المجتمع في الظروف الصعبة والقاسية.
حزب الله على طريق هذا الامام العظيم يعمل على ارساء ثقافة العطاء والتكافل والتعاون داخل المجتمع اللبناني، ويقوم بالعديد من المبادرات الاجتماعية، للتخفيف من معاناة الناس، وسيبقى حاضرا بقوة في خدمة الناس من خلال المشاريع والتقديمات التي يقوم بها للحد من تداعيات الازمة الحياتية والمعيشية ، ونقول لكل اهلنا كانت أولويتنا الوقوف مع الناس والى جانبهم وستبقى اولويتنا الوقوف الى جانب الناس والتخفيف من معاناتهم والقيام بكل ما يمكننا القيام به ضمن امكاناتنا المتاحة، وهذا واجبنا بل اقل الواجب تجاه أهلنا الأوفياء وليس منّة او تفضلا .
سنستمر في تحمل هذه المسؤولية ولن نبخل على الذين لم يبخلوا يوما باي شيء في طريق المقاومة من اجل عزة وحرية وسيادة بلدنا.
اليوم الغدة السرطانية التي تفتك باللبنانيين هي الادراة الامريكية التي تحاصرهم وتفاقم أزماتهم وتمنع من مساعدتهم، وأبلغ رد على الحصار الامريكي وسياسة التضييق والتجويع التي يفرضها على الشعب اللبناني هو تعزيز روح التكافل والتعاون والتعايش الواحد بين اللبنانيين، وتشكيل حكومة تملك ارادتها وقرارها بعيدا عن الضغوط الامريكية، لتكون قادرة على اخراج لبنان من ازماته .
الولايات المتحدة الامريكية تعمل على اضعاف لبنان وابتزازه من اجل اخضاعه للشروط الاسرائيلية، بينما المقاومة تعمل على فرض معادلات القوة التي يملكها لبنان لتحقيق مطالبه وانتزاع حقوقه .
المقاومة في لبنان لم تعد مجرد خيار للتحرير والدفاع فقط، وانما باتت بالمعادلات التي تفرضها على العدو خيارا لاستعادة الثروات والحقوق وانقاذ لبنان من ازماته الاقتصادية والمعيشية.