بقلم الشيخ علي حمادة
عبارةٌ نسمعها كلّما اصطدم الجديد بالقديم؛ فتظهر غلاظة الجديد ورشح الشوقُ إلى الماضي القديم. زمن العائلة المجتمعة، زمن الحبّ الممتزج بالعفّة، زمن الجار الملهوف على جاره، زمن التلميذ الموقّر لأستاذه… وتطول اللائحة ليضاف إليها، اليوم، زمن الإنشاد الجميل.
يومًا ما؛ عندما كان الّلحن يتغلغل في شرايين الأرواح، والكلّمات تنساب على كلّ شفةٍ، فتتحوّل إلى لغةٍ خاصّة أبدعها وأتقنها المثقفون والمقاومون والمزارعون والأمّيون والكبار والصغار. فلم يعد النشيد مجرّد موسيقى وأصوات، ولم تعد الإنشودة قطعة شعريّة خرجت من قريحة شاعر إلى أوتار ملحّن وصولًا إلى حنجرة صادح؛ بل أصبح النشيد علَمًا للبيعة وقسمًا للوفاء وعهدًا من الشّعب وتحريضًا للمقاتل. أصبح النشيد باختصار، جزءًا من ثقافةٍ ممهورة بالعزّ.. هي ثقافة المقاومة.
استيقظ الشعب يومًا على وقع الإنشاد الثوري الذي ولد مع تفجّر الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران. فتحرّكت عواطفه المكنونة في وجدانه. وكأنّ شريط “الكاسيت” أشبه ببطاقة هويّة تعرّف شخصيتنا. هذا نحن.. أبناء الثورة.. استيقظنا على نفير وعد الله بنصر المستضعفين، وأذان الصبح القريب، فصدَحَ صوتنا بإعلان الاستعداد : “الشعب استيقظ يا عباس”.
خطأ تقني قد يحصل في أي احتفال، ولكن الذي حصل باحتفال النصر خلال معالجة الخلل من عرض الأناشيد القديمة على قناة المنار، كان له وقعٌ ربما يضاهي ما عُرض من مشهدية، وربّما أكثر جمالًا وأكبر تأثيرًا. حملنا ذلك مع الشوق إلى الجيل القديم.. هناك حيث تجلّت الروح الثوريّة العابقة بالقيم. ذلك زمنٌ لا يُنسى. ولا يقارن طبعًا بإمكانات اليوم، ولكن لا شيء يُقارن بروحانيّة الأمس. إن قيمة الكلّمات الشعريّة إنّما عندما تكون محفوفةً بورد دهان الشّهداء. بل كأنّهم هم الذين يلهموننا؛ والشّعراء فقط كانوا يخطُّون الحروف فوق السّطور. كنا نعيش انطلاقة الثورة والمقاومة، ولا نملك الكثير من الإمكانات إلا يد الغيب والتسديد. وكذلك كانت فرقنا وأناشيدنا التي انطلقت من لا شيء سوى إيمان بأهمية الفنّ الملتزم في ترسيخ القيم، وأنّ هناك رسالةً ربما تصل على سلّمٍ موسيقي، وفي صوت عذبٍ، وقافيةٍ ورُويّ.
قلّبت المنار، في الأمس، في إرشيف الأناشيد المكنون في تاريخ العزّ. بدا بالنسبة إلينا متحفًا بحدّ ذاته. كثيرٌ ممّا نحفظه من الأناشيد الأولى للمقاومة جعلنا نستحضر مشهديّة الدم القاني في وجداننا، ونسبح مع الكلّمات في أثير يشبه الصّلاة. بداية سطر الشّاعر هي نقطة الانطلاق إلى ميدانٍ امتلأ لاحقًا بالمنشدين من ذوي الأصوات الفخمة ورنينها الجميل، وولدت الفرق الأولى لتكون سيفًا في ترسانة المقاومة، له وقعه في السّاحات؛ فتشكّل بذلك مقاومة بالكلمة والنشيد وتعكس واحدة من الصور الحضاريّة الفنيّة عن المقاومة ورقيها. وزادها رونقًا أنّ أمين عام المقاومة نفسه كان يشرف على بعض القصائد، ويعطي ملاحظاته الدقيقة والبليغة.
الشعبُ استيقظ يا عباس من شفتيك الناطقتين
قصيدةٌ تكاد حروفها تنطق من توهّجها. بعض الكلّمات في ذلك الزمن كُتبت بقلم رصاص؛ لكنّها كانت كأزيز الرصاص مدويّة في ساحات الثورة والمقاومة. في كلّ بيت وسيارة، وحتى في العمل، وفي تشييع الشّهداء. فعندما تحمل القصيدة قيم النّاس ومشاعرهم سيحملونها في كلّ مكان، وستدخل إلى قلوبهم قبل آذانهم. كانت المقاومة تمدّ مجتمعها بزخم تضحيات رجالها وشجاعتهم، وكانت الأناشيد تبثّ الحماسة في المجتمع المقاوم. كانوا ينشدون ما يحتاجه المجتمع، ويرسّخون القيم التي يريدها النّاس، فيصبّوها مع خلجات الإحساس. ودائمًا كان هناك فنانون ملتزمون مستعدّون للعطاء، حملوا القضية ورسّخوها في عالم الفن والجمال فكان الشعرُ يهمو، والصوت يسمو، وما كان لله ينمو. فدور الشعر هو استنهاض الهمم والأخلاق وخدمة النّاس والإسلام والثورة وقيمها. فالحبّ والانتماء للإسلام والمقاومة يتجلّى في قوالب شعريّة يبثها الشّاعر من حناياه، والمادح من ثناياه، فتولد بذلك إنشودةٌ لها قداسة الحبّ وجمال الفنّ ونبض الأرض ومطر السماء.
لكنّ الشّعر والانشاد تراجعا كثيرًا، وغلب على الفنّ التقليد، أو خرج أحيانًا من إطاره الملتزم، وحتى الكلّمات لم تعد بأغلبها تحمل أي معنى يعكس ثقافتنا وتراثنا؛ فضلًا عن أن بعض ما يسمّى إنشادًا هو أقرب إلى مجالس الّلهو والطّرب.
وإن يكن هذا الزمان زمن الضجيج والهرج وكثرة لغو الكلام، فلعلّ الذي حصل بالأمس يزيح الغبار عن الفطرة الذوّاقة إلى الجمال. ولعلّه يكبر جيلٌ يعيد لنا شيئًا تركناه في حضن القرن الماضي، في دفاتر الشّعر القديم، وفي صدى أصوات منشدين التزموا سنّة الإبداع وتركوا البدع والإتّباع، وخرجت أنفاسهم من ركام الحرب لا من تقليد الغرب؛ فننام على هدير “الشعب استيقظ يا عباس” ، ونستفيق على نفير “امضِ ودمّر عروش الطغاة”.
المصدر: موقع المنار