في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث فيه عن قدوم شهر رمضان الكريم وإطلالته على المسلمين يقول:
“أيّها الناس اِنّه قد أقبل اِليكم شهر الله بالبركة والرّحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الاَيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه الى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله،…”
” هو شهر دعيتم إلى ضيافة الله” وضيافة الله سبحانه وتعالى لا تشبه ضيافة الناس، فلو دعاكم أحدهم الى منزله ،فإنه يسعى ليوفر لكم كل ما يلزم من الطعام والأجواء البهيجة بحسب امكاناته، ولكن في ضيافة الله فإن الصيام والإفطار على مائدة الله لها معنىً آخر ، إنها الضيافة التي لها خصوصياتها المميزة.
لقد دعينا إلى ضيافة الله في هذا الشهر فنحن ضيوف الله ،وقد طلب منّا صاحب الضيافة أن نصوم، دعانا الله الى أغلاق كل أبواب الدنيا والابتعاد عن الشهوات الدنيوية لنستعد خير استعداد لليلة القدر المباركة، فليلة القدرهي ليلة الضيافة الالهية, لذا ، على الانسان أن لا يخسرهذه الليلة التي يفوق فيها الثواب والاجر ثواب الف شهر .
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾
من الفضائل والكرامات ايضاً التي خصّ الله تعالى عباده بها أن جَعل لهم ليلة مباركة ، فيها الضيافة ضيافةً إستثنائية ،وهي ليلة القدر التي يكثرُ فيها الخير وتتفوق على غيرها من الليالي في الفضل والعمل الخيّر الذي هو خير من عمل ألف شهر.
ليلة القدر ليلة الرحمة والانوار الالهية ، وليلة نزول القرآن الكريم، وليلى البشارة بالسعادة لكل الانسانية ، ونزول البركات، وفي هذه الليلة تُقدّر كل مسارات حياتنا على مدار عام كامل .
وعن رسول الله محمد (صلّى الله عليه وآله) قال: “من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه”.
ولملاحظة قدر هذه الليلة المباركة ،ليلة القدر , من المفيد الاشارة الى أنها الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم عليه السلام ،واستشهد فيها الامام علي بن ابي طالب, فالمسلمون يؤمنون بأن الله رفع المسيح إليه في السماء وقد ورد ذلك صريحا في القرآن في قول الله: (بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (سورة النساء /الآية157 ـ 158).
واذا أردنا ان نستفيد من فضائل هذه الليلة علينا ان نتخفف من أثقالنا ، وليلة القدر هي الليلة التي يمكننا ان فيها ان نتخفف من اثقال الذنوب لنرتقي بارواحنا الى فضاء الله الارحب ، ففلسفة حياة الانسان هي أن يرتقي بحياته الى الدرجات العليا مهما كان سنوات عمره , فالحياة الحقيقية لا تُحصى بعدد السنيين بل بالثواب الذي يتجصّل بلحظة بل في ليلة او في ساعة , وليلة القدر وساعاته هي احدى فرصنا الذهبية التي لا يمكن ان تتكرر ، ومن يضمن منّا لنفسه ان يعيش للعام المقبل , فلنستفد من فضائل هذه الليالي المباركة .
المُستفاد من روايات و أحاديث المعصومين عليهم السلام أنّ ما يميّز شهر رمضان المبارك ويعطيه هذه الشأنية هو وجود ليلة القدر فيه، فهذه الليلة هي التي جعلت من شهر رمضان افضل الشهور أي فضَّلته على الشهور،على اعتبار ان شهر رمضان هو أحد أهمّ العطايا الإلهيّة التي منّ الله بها علينا في كل عام؛ فآثار الصيام وبركاته تزيد من الارتباط بالله، ولذا نجد أنّ العرفاء كانوا يقضون الأشهر الثلاثة ـ رجب و شعبان و رمضان ـ صائمين، كما يُنقل ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم أيضاً.
إذا أردنا معرفة فضائل وأهمية ليلة القدر وكيف أن الله يضاعف فيها الثواب والأجر على أي عمل خيّرٍ نقوم به ، فقد حدّث الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) عمّا جرى بين موسى(عليه السلام) وربّه عزّ وجلّ في مناجاة جليلة جاء فيها على لسان موسى(عليه السلام): “قال: إلهي أريد قربَك، فقال تعالى: يا موسى: قربي لمن استيقظ ليلة القدر، قال: أريد رحمتك، قال تعالى: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر، قال: إلهي أريد الجواز على الصراط، قال تعالى: ذلك لمن تصدّق ليلة القدر، قال: إلهي أريد من أشجار الجنّة، قال تعالى: ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر، قال: إلهي أريد رضاك، قال تعالى:رضاي لمن صلّى ركعتين في ليلة القدر”.
وفي هذه الليالي العظيمة وقع الحدث الذي تزلزلت معه أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى، حيث استشهد الإمام علي المرتضى (عليه السلام) أمير المؤمنين ومولى المتقين وسيد الموحدين، وفي دعوة للتأسي والإقتداء به يقول ولي أمر المسلمين سماحة الإمام القائد(حفظه المولى): ” ليكن أمير المؤمنين (عليه السلام) أسوتنا في جميع هذه، ونسعى لنكون مثل ذلك الإمام(ع).
يعودُ علينا شهر رمضان المبارك حاملًا الأمل في نفوس المؤمنين ومناجاتهم. هو شهر الرحمة والخير، حيث يمنّ الله على الصائمين بالطمأنينة والصحّة وتعزيز الإرادة وتقوية النفس وتزكيتها.
شهر رمضان فرصةٌ لكل سالكٍ لطريق الإيمان والعبادة، للتقرّب إلى الله بالصيام والأذكار والعبادات وإحياء ليالي القدر. إنّ الغرض من إحياء العبادات في شهر رمضان، هو تعزيز الإرادة الإنسانية وتزكية النفس البشرية إلى جانب الشعور بالآخرين، واختبار كل أنواع العطش والجوع والحاجة، حتى نبلغ مراتب التعاطف الإنساني العليا مع أخينا الإنسان، ونرقى إلى مستوى الأجر والثواب الذي يكلّلُ في عيد الفطر احتفالًا بعبادتنا طوال الشهر.
من هنا، كان هذا الشهرُ أكثر من شهرٍ للصيام، حيث إنّ الإنسان يعيد التفكير بأعماله وسلوكه، مجددًا العهدَ مع خالقه على السير في طريق الخير والرضى، مستحقًا بذلك المغفرة والرحمة. فهو شهر الرحمة التي تفيض على العباد، وما عليهم إلا أن يمتلكوا الوعاء الذي يجمعون به كل هذا الغيث والخير من الله عز وجلّ. هو شهر الكرم، كرم الرحمان وعنايته، شهر نزول القرآن ونزول الخير على المسلمين معه.
ونحن في هذه الأيام، نبارك للعالم والأمة الإسلامية خصوصًا حلول الشهر الفضيل، سائلين الله عز وجلّ أن يمنّ علينا بكل آيات الخير والبركة والوفرة والمحبة. وكل عام وأنتم بخير.
أخيراً اللهم اجعلنا ممن صام الشهر وأدرك ليلة القدر، وفاز بالأجر والثواب الجزيل والحمد لله.
بقلم السيد محمد رضا مرتضوي -الملحق الثقافي للجمهورية الاسلامية الايرانية في لبنان
المصدر: بريد الموقع