فكرة إقامة نظام سياسي فيدرالي ليست جديدة في لبنان، وهي كانت مطروحة كلامياً طيلة فترة المئوية الماضية، ويتجدد طرحها عند كل أزمة داخلية، بصرف النظر عن الفرقاء الذين يتناوبون على طرحها، لكن إعادة الحديث عنها في هذا التوقيت بالذات تحت ذريعة الواقع الإقتصادي المأزوم، كلام كبيرٌ وفضفاض ومجرَّد وَهم بعيدٍ عن واقع الخارطة اللبنانية، سواء على مستوى التوزيع الديموغرافي أو القدرة على الإكتفاء الذاتي ضمن كل منطقة هي بالإصطلاح السياسي مشروع كانتون ضمن الدولة الفيدرالية، سواء ذهب المُجتهدون الى تطبيق الفيدرالية السويسرية أو أوغلوا في تقديراتهم الى ما هو أبعد كما فيدرالية الولايات المتحدة الأميركية.
وبصرف النظر عن مقولة “أكبر من أن يُبلَع، وأصغر من أن يُقسَّم”، فإننا نتبنى استحالة البلع وبكل ثقة، ومَن حاولوا ذلك “ضرسوا”، وما زالت وستبقى أسنانهم تصطكّ من رُعب التجربة خاصة بعد العام 2000، لكننا لا نتبنى التقسيم على الطريقة الفيدرالية لأنه أقرب الى التمزيق، لا بل هو أشبه بالطروحات العدوانية لما ورد في “صفقة القرن” عن الدولة الفلسطينية “المُشلَّعة” والمتواصلة ببعضها عبر جسورٍ وأنفاق، وتفتقر لكل مقومات الدولة السيادية.
نُقارب مسألة طرح الفيدرالية في لبنان ونفترض النوايا الحسنة لدى أصحابها، ولا نرغب قراءة خبايا هذه النوايا ولكن، على أي مُستند علمي أو جيو – سياسي اعتمد الطارحون؟، وما هي معايير تقييم جدوى قيام كيانات فيدرالية لا تتمتَّع أي منها بالقوة الذاتية البديهية؟. ولو شئنا المقاربة والمقارنة، من حقنا قراءة خارطة الطريق التي وضعها المفكِّر أنطون سعادة يوم إعلانه عن سوريا الكبرى، وتشريحه للمقومات الجغرافية والموارد الطبيعية والحدود التي تصون الكيان المُتجانس إجتماعياً وتؤمن له ضمان السيادة، لنخلص الى السؤال المشروع: ما هي الأسس التي يُمكن أن تُبنى عليها فيدراليات هزيلة تحتاج الى تفاهمات طائفية وسياسية دائمة لضمان الإستمرار ضمن الحد الأدنى لكيانات كرتونية هشَّة؟
النقطة الإيجابية الكبيرة والمُستدامة في رفض فيدرالية غير قابلة للتطبيق حتى على الخارطة الورقية، هي في الرفض الشعبي الذي ينطلق من واقع التوزيع الديموغرافي، بحيث يتلاقى رأي المُقيمين في مركز الكانتون المُفترض مع رأي المقيمين في الأطراف البعيدة، وهذا التلاقي هو على القاسم المشترك في رفض “الضمّ والفرز” بطريقة إرتجالية تؤدي لا سمح الله الى نشوء نزاعات خلال القادم من الأيام، إضافة الى المساحات الضيقة الخاضعة للتضاريس الطبيعية التي لا تسمح بتأمين مقومات مُتشابهة للكانتونات الفيدرالية.
وكي لا نبقى في العموميات والنظريات الشمولية، فإن طرح الفيدرالية كما هو وارد في أذهان بعض الزعامات التي تسكن أعلى هرم قاعدتها الطائفية أو السياسية أو الحزبية، هو طرح غير عملي، وتصحُّ فيه مقولة “الكيانات الإفتراضية” القائمة على نظام المُقايضة: أعطني خدمات مطار، لأعطيك خدمات مرفأ، واستورد مني محاصيل سُهُولي لأشتري منك منتجات بساتينك، وخير لنا أن نُبسِّط التفسير كي لا نبقى من المُنظِّرين ونضيع كما غيرنا في الكلام الكبير عن فيدرالية وهمية..
المصدر: خاص