في الذكرى المئوية الأولى لإعلان فرنسا عن إنشاء “دولة لبنان الكبير” بعد ضم أقضية عديدة اليه، أصبح للبنان رئيس وزراء جديد بنكهة فرنسية مميزة.
ما كان لأطراف متباينة ان تجتمع على تسمية السفير مصطفى أديب لرئاسة الحكومة لو لم يكن الدور الفرنسي الذي ساهم في إيصاله عقلانياً وفاتحاً للخطوط مع الجميع، وبخاصة مع حزب الله (هنا ندرك مغزى ان فرنسا إمتنعت عن الإنجرار وراء بريطانيا وألمانيا في تصنيف الحزب وفاقاً لأهواء اسرائيل). وأيضاً، لم يكن لهذا التقاطع على تسمية أديب ان يتحقق من دون القبول بدور فرنسي من الأطراف الرئيسة، كل من منطلق مختلف. وبشكل أساسي، وافق الرئيس سعد الحريري على أديب، لأنه لا يستطيع أن يردّ طلباً للرئيس الفرنسي الذي كان له دور مباشر في إطلاقه من مكان احتجازه في السعودية عام 2017، كما ان باريس تُعتبر محطة استقرار لعائلة الحريري منذ سنوات طويلة. يضاف الى ذلك ان أديب لن يكون بعيداً عن فلك تيار “المستقبل” وآل الحريري، بخلاف حال حسان دياب.
ومن الطبيعي ان يُجاري وليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي ماكرون والحريري في هذه الخطوة لأسباب عدة، خاصة ان باريس محطة دائمة لأسفار جنبلاط ، وهو أيضا يحرص على عدم الإبتعاد كثيراً عن الحريري. في حين تبقى لسمير جعجع أسبابه للإمتناع عن السير في هذا الحراك الخارجي، ومنها رغبته في أخذ دور المعارض الرئيسي في فترة مشوبة بالغموض وانعدام اليقين من دون ان يبتعد عن التقديرات الأميركية حيال لبنان والتي تبقى ملتبسة، وسط اعتقاد بأن الأميركي منح الفرنسي فترة سماح لتدبّر الوضع اللبناني، من دون ان يقيّد نفسه بنتائجها. ويطيب لجعجع أن يبرر بهذا الدور الإعتراضي الجديد عدم مبادرة كتلته الى الاستقالة، كما فعل نواب الكتائب وغيرهم.
أما حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر فقد آثروا إعطاء فرصة جديدة لعمل حكومي منتج، في ظل تقلص مساحة المشتركات بين الأطراف اللبنانية، وتفاوت في مقاربة الوضع الحكومي، وسط توتر واضح بين “التيار” و”المستقبل”.
التدخل الفرنسي برضا الأطراف الرئيسة في لبنان او أغلبهم يعني شيئاً واحداً: ان القدرة على اجتراح حلول أصبحت خارج الملاك المحلي. في كل مرة، كان الإستعصاء الداخلي يشتد، كانت جهة خارجية تتولى تنظيم اجتماع للتقريب بين الأطراف. بعد العام 2000، شهدنا مثلاً مؤتمر الدوحة 2008 الذي أنتج تفاهماً أعاد رتق ما انفتق بين جناحَيْ الحكومة آنذاك، وقبلها حصلت اجتماعات “سان كلو” قرب باريس عام 2007 لكنها لم تنته الى شيء يذكر.
تجربة حكومة حسان دياب لم تنجح لأن الألغام السياسية التي وقفت في طريقها كانت كفيلة بشلّها وتجميدها في محلها. لكن حكومة مصطفى أديب يُنظر اليها على انها محاولة لترميم الوضع المتهالك وغير المسبوق في تاريخ لبنان. أهميتها انها تتم برعاية خارجية توفر بعض “المَوْنة” على بعض الأطراف، لكنها ككل المرات ستتمكن من كسح بعض الألغام وتعمل لبعض الوقت، قبل ان يدرك رُعاتها الإحساس أن أزمة لبنان أقوى حتى من القوى الكبرى. كل القوى الإقليمية والدولية التي وضعت ثقلها في لبنان على مدى عقود أدركت ان الإستثمار في أزمات هذا البلد مضيعة للوقت، ولابد من الخروج منه … بأقل الأضرار.
ربما تكون هذه نهاية المسعى الفرنسي، وربما لا، وهذا ما نتمناه إنْ حافظ هذا المسعى على توازنه واستقلاله عن الدور الأميركي. لكن العِبر التاريخية ماثلة! وهذا ما يستدعي من اللبنانيين العمل لحكّ جلدهم بأنفسهم عبر إنتاج نظام سياسي مستدام يوفر تمثيلاً عادلاً ولا يقصي أحداً.
المصدر: موقع المنار