رئيس المحكمة العسكرية وهيئة المحكمة هما الحلقة الأضعف في القرار الذي اتُخذ بإطلاق العميل عامر الفاخوري.. لا أعتقد أن أحداً يجادل في هذه النقطة. مع ذلك لا يبرر ذلك للمحكمة أن تتخذ القرار.
لنُعِدْ صياغة الأمور وفق المنطق الآتي:
ماذا لو امتنع رئيس المحكمة وفريقه عن التجاوب مع من يضغطون عليه “من فوق” لاتخاذ القرار؟ ما هي المخاطر عليهم؟ الإقالة؟ الغضب؟ تحويل القضية الى هيئة محكمة أخرى؟ كل هذه المخاطر المحتملة لا تساوي الغضب الذي نزل عليهم من أهالي الأسرى المحررين والرأي العام الذي يساندهم. بالعكس، أي قرار جريء يتخذونه في المحكمة مخالف لما يُملى عليهم سيزيد من قدرهم واحترامهم وسيحفظ شرفهم العسكري الذي تلوث للأسف بـ إفلات عميل”، كما اعترف رئيس المحكمة في بيان تنحيه اليوم.
تنحّيه جاء في ذروة الإحساس بالإهانة من التعليقات واللعنات التي انهالت على كل من اتخذ القرار وسهّله، ولم يأتِ عن قناعة بأن ما ارتكبه خاطئ ، وإلا لرأينا ربما أن الأمور كانت ستمضي كما لو ان شيئاً لم يحصل.
لو جاء التنحي في وقته قبل صدور الحكم لكان إحترامه لقسمه وشرفه العسكري قد تحقق قولاً وفعلاً ، وما كان ليحتاج الى تبرير والى شعور بالمقت والإنفصال عن واقع شعبه الذي عانى ما عانى من الإضطهاد والإحتلال، والآن من الغبن وعدم الإنصاف.
هذا الأمر يضعنا أمام تحدٍ أخلاقي يُطرح بين وقت وآخر: هل يبرَّر لشخص أن يرتكب خطيئة في قضية أخلاقية ووجدانية لمجرد أنه يتبع الأوامر؟ الجواب قطعاً: لا.
تطهير القضاء
خيار مقاومة الضغوط هو الخيار الطبيعي الذي يجب أن يتحرك القاضي على أساسه، فهو قاضٍ وليس موظفاً، والقاضي يمثل سلطة مستقلة يُفترض أن تنصف المظلومين وتستعيد الحق من الظالمين. واذا كان القاضي تربّى على أنه موظف فتلك خطيئة يجب على السلطة القضائية أن تتطهر منها بإبعاد كل من يُظهر أي ضعف أمام السلطة السياسية.
إعادة تشكيل المفاهيم الأخلاقية التي تحكم عمل القاضي وعلاقته بالسلطة السياسية هما من أبرز التحديات أمام السلطة القضائية، والمفتاح الذي يستعيد به القضاء ثقة الشعب، لا سيما في مرحلة مكافحة الفساد. ولا يمكن الحديث عن إعادة بناء مؤسسات الدولة واحترام القانون من دون قضاء مستقل ونزيه. نقطة على السطر.
الى المسؤولين عن القرار
وبعد، ماذا عن الجهات التي اتخذت القرار “من فوق”، لماذا اختفت من الواجهة وغابت عن توضيح ما حصل واختُتم بأسوأ إخراج وهو ترك العميل يخرج من الشُباك على متن مروحية عسكرية أميركية ضخمة في وضح النهار، بعدما دخل من باب مطار بيروت الدولي؟
سيقول الجميع إن القضاء اتخذ القرار، وهو مستقل. والآن تـُعْلمنا وزيرة الدفاع بأنها ستعمل على “إعداد وإقرار تعديل قانون العقوبات بما يحول دون تطبيق مرور الزمن على أعمال العدوان على لبنان (المواد 273- 274- 275)، وأيضا إدخال الجرائم ضد الإنسانية ضمن أحكامه وهي بالمفهوم القانوني العام غير مشمولة بمرور الزمن”. لماذا الآن، وليس قبل ذلك، وقد بُحّت أصوات الأسرى المحررين طوال أشهر احتجاز الفاخوري وهي تنادي بتعديل القانون وعدم الأخذ بحجة مرور الزمن العشري. هل استفقنا بعد المصيبة؟ ألم يكن هناك متسع من الوقت؟ أم أن الإعتبارات الأميركية داهمتنا على حين غَرّة ولم نكن نملك شيئاً من أمرنا؟
سيمضي صاحب الحلقة الأضعف الى العار الذي لحقه في هذه القضية، ويبقى ذوو الرقاب القاسية لكي يواصلوا دورهم في مسلسل أميركي يرتقي بهم – كما يأملون – الى مواقع أعلى وأعلى. لكنهم يخطئون. فهذه النتيجة فضحت استعجالهم لمراضاة جهة أجنبية على حساب مُواطنيهم في قضية هي من أوضح الواضحات. والقانون الرثّ لم يكن سوى شمّاعة يعلقون عليها تبعيتهم والإحساس بالدونية أمام الكاوبوي الأميركي الذي يلوّح لهم بتعليقهم بحبال العقوبات، وهي لا تساوي مقدار عقوبة السخط العارم التي أنزلها الناس فوراً بالدولة وقضائها الضعيف دفعة واحدة.
آخر الكلام: قد يكون من محاسن الصدف أو مساوئها أن القاضي المغضوب عليه من الطائفة الشيعية، وإلا لقال بعضهم إن النقمة عليه جاءت لأنه من طائفة أخرى. موقف الغاضبين ورد فعلهم يثبت أنهم يتحركون من قضية مبدأ، وهم من ضحّوا بأغلى ما يملكون من أنفس وحريات شخصية وممتلكات من أجل أن يتحقق لهم الإنتصار على الإحتلال. وكان لهم ما أرادوا، وسيكون لهم ما يريدون بإذن الله.
المصدر: موقع المنار