نص الخطبة
يقول الله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ).
نعزيكم ونعزي جميع المسلمين بذكرى رحيل النبي الأعظم محمد بن عبد الله(ص) التي تصادف بعد أيام في السابع والعشرين من شهر صفر.
لعل من اهم خصائص النبي هو ما تشيراليه هذه الآية من ان النبي أولى بالمؤمنين من انفسهم، فما هو المقصود من كون النّبي أولى بالمؤمنين من انفسهم؟
هناك عدة احتمالات أشار اليها المفسرون في تفسير هذه الآية:
الاول: وهو ما اشار اليه العلامة الطبطبائي في تفسير الميزان، من أن الأولوية هنا بمعنى رجحان الجانب، بحيث إذا دار الأمر بين النبي(ص) وبين نفس المؤمن في شيء كان النبي مقدما على المؤمن لانه اولى بنفسه منه، فمثلا المؤمن يحب نفسه ويعمل على حماية نفسه وحفظها ويرغب بان يكون مكرما وعزيزا وان يكون نافذ الارادة بحيث اذا امر بشيء ينفذ امره ويستجاب له فالنبي أولى بذلك من نفسه، ولو دار الأمر بين النبي وبين نفسه في شيء من هذه الامور، كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه وقدم النبي على نفسه.
فاذا مثلا تعرض النبي(ص) الى أخطار معينة فان على المؤمن أن يقِيه بنفسه ويفدِه نفسه، لان النبي أحبَّ إليه من نفسه وأكرم عنده من نفسه، ولو دعته نفسه إلى شيء ودعاه النبي إلى خلافه، أو أرادت منه نفسه شيئاً وأراد النبي خلافه، فان عليه ان يقدم النبي(ص) على نفسه، لان إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مؤمن ورأيه .
وهذا التفسير ينسجم مع سبب نزول الاية حيث روى: أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما أراد غزوة تبوك وأمر الناس بالخروج قال قوم: نستأذن آبائنا وأمهاتنا، فنزلت هذه الآية.أي لتقول لهم ان النبي اولى من الاباء والامهات وأمره مقدم على رايهم.
الثاني: أن المراد أنه أولى بهم من حيث الدعوة ووجوب الطاعة فهو اولى بطاعتهم له والاستجاب الى دعوته، فإذا دعاهم إلى شيءٍ ودعتهم أنفسهم إلى خلافه، كان عليهم أن يطيعوه ويعصوا أنفسهم، فتكون الآية في معنى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ } النساء: 59.
الثالث: أن المراد أن حكمه فيهم أنفذ من حكم بعضهم على بعض، لأن ولايته على المؤمنين اشد من ولاية بعضهم على بعض، المذكورة بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} التوبة:271
الرابع: ان بعض المفسرين يقول بان سياق الآية ليست في مجال الحديث عن جانب التعاطف الذي يكلِّف المسلمين بتقديم أنفسهم فداءً عن نفسه إذا دار الأمر بينهم وبينه، وليست في مقام الأمر بطاعتهم له، أو في مقام تفضيل حكمه على حكم بعضهم على بعض، بل هي في مقام إثبات الولاية له عليهم، بحيث يملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم،فهي في مجال تأكيد اولاية والحاكمية عليهم والسلطة عليهم ، فسلطته عليهم أكثر من سلطتهم على أنفسهم، فله ان يتصرف في أموالهم من دون اذنهم وله ان يزوج او يطلق الازواج من دون اذنهم وله الحق المطلق في التصرف بنفوس المؤمنيين في كل ما لهم صلاحية التصرف به اكثر من حقهم في التصرف بانفسهم.
هذه هي الاحتمالات التي ذكرت في تفسير الاية، لكن عندما ندقق في الاية سوف نجد أن الآية مطلقة وتشمل كل هذه الاحتمالات وأن النبي(ص) أولى بالمؤمنين بصورة مطلقة، ومعنى ذلك أنّ النّبي (ص) أولى بالإنسان من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه سواء في الامور الفردية او الإجتماعية وفي الأمور الدينية وفي الامور الدنيوية وفي الولاية والسلطة وحق التصرف في امواله وعلاقاته وأشياءه، وليس هناك دليل على حصر الآية بأحد المعاني والاحتمالات اتي ذكرناها بل ان كل واحد من الاحتمالات المذكورة هو أحد فروع ومصاديق هذه الأولوية.
لذلك عندما يقول الله: (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ) يعني: انّ النّبي (ص) أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الإجتماعية والفردية، وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه.
والسبب في ذلك كله: هو أنّ النّبي (ص) أعظم وأفضل مخلوق في هذا الوجود وهو في قمة الصمة والطهارة والنزاهة وهو رسول الله الذي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله وكل ما يفعله هو برضى الله ومن الله، وهو أحرص وأرحم بهذه الأمة من الأب على إبنه. وهو لا يفكّر بمصالحه ولا بينطلق من موقع الاهوائ ولا من موقع العاطفة بل من موقع المصلحة فهو لا يفكر الا بمصلحة الأمة ولا يقرّر إلاّ ما فيه منفعة الافراد والمجتمع د، ولا يتّبع الهوى أبداً، ولا يعتبر مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها، بل على العكس من ذلك، فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الاُمّة على مصالحه دائماً عند تعارض المصلحتين هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فانّ الإنسان لا يصل إلى قمة الإيمان إلاّ عندما يضحّي بحبه وعشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله ولرسول الله(ص) ففي الحديث عن النبي(ص): “لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعاً لما جئت به”.
وفي حديث آخر عنه (ص): “والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين”.
وعنه (ص): “ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة”.
ويقول تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
فليس أمام المؤمنينمن خيار عندما يحكم النبي(ص) عليهم بشيء سوى أن يسلموا ويطبقوا.
ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبي (ص) مسؤوليات ثقيلة ضخمة، ولذلك عن النّبي (ص) قال: “أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، ومن ترك مالا فللوارث، ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ”.
ان هذه الولاية التي منحها الله لنبيه لها الكثير من البركات والعطاءات ، ولكن لا بد من الالتزام بها والأخذ بما جاء به النبي(ص) والالتزام بكل امتدادات هذه الولاية ، فببركة هذه الولاية والالتزام بها والانضباط أمام أوامر النبي (ص) من قبل المسلمين الأوائل انتصرت هذه الأمة واستطاعت ان تحقق الكثير من الإنجازات أما عندما تتخلف الأمة عن ولاية رسول الله والمؤمنين وتوالي الكافرين والصهاينة وتطبع معهم فانها ستسقط ولن تنال حقوقها.
الإسبوع الماضي شهد محطات علنية متزامنة في مسيرة التطبيع الخليجي مع الكيان الصهيوني, من زيارة نتنياهو إلى مسقط، وزيارة وزيرة الثقافة والرياضية لدى كيان العدو إلى أبو ظبي مع وفد رياضي اسرائيلي، وصولا الى مشاركة وفد إسرائيلي في بطولة العالم للجمباز في قطر.
هذا المسار التطبيعي ليس منفصلاً عن صفقة القرن لأن صفقة القرن فيما يبدو ليست مشروعاً تفاوضياً وإنما هي مشروع تنفيذي يجري فرضه كوقائع سياسية وقانونية وميدانية بمعزل عن النقاش الدائر حوله.
وأصبح مؤكداً أن بعض الأنظمة العربية وخاصة الخليجية منخرطة في الصفقة بالكامل من دون إعلان رسمي ومن دون ضجيج.
وهذا يدل على المستوى الذي وصلت إليه بعض الدول العربية في التخلي عن الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية وعن المدى الذي يمكن أن يصلوا إليه في الحرص على المصالح الإسرائيلية.
ولأن هذا التطبيع يجري بالتزامن مع الإعتداءات والجرائم المتواصلة وشبه اليومية التي يرتكبها العدو الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني في القدس وفي الضفة وفي قطاع غزة فإن بعض العرب يوصلون رسالة واضحة من خلال ذلك إلى الإسرائيلي بأنهم غير مبالين بما بجري على الشعب الفلسطيني وأنهم يغضون النظر عن جرائمه بحق هذا الشعب، وبالأكيد فان هذا السلوك سيشجع العدو على المضي في إرتكاب المزيد من الجرائم والإعتداءات من دون أن يحسب حساباً للعواقب على الصعيد الرسمي العربي.
وكل ذلك يؤكد من جديد أن الرهان على الدول العربية في إستعادة الأرض والحقوق والمقدسات هو رهان على سراب، وأنه لم يعد هناك أمل في كل هذه الأنظمة.
الرهان هو على الشعوب وعلى المقاومة، وبالتالي ليس أمام الشعب الفلسطيني سوى مواصلة مسيرات العودة وكل أشكال المقاومة والمواجهة مع الكيان الصهيوني لأنها وحدها القادرة على ردع العدوان وإستعادة الأرض والحقوق والمقدسات وهذا ما أكدته كل التجارب الماضية، واذا تحلينا بالصبر وتحلت الشعوب بالإرادة والثبات والوعي والصدق والإخلاص والاعتماد على قدراتها وعلى الله سبحانه فان الله لن يتخلى عنها وسيكون النصر حليفها في نهاية المطاف.
المصدر: موقع المنار