لا يوفر النظام البحريني فرصة إلا ويستغلها للتصوير وكأن الأمور في البحرين مغايرة لما تفضحه تقارير المنظمات الحقوقية. “فورمولا1” هي إحدى هذه الفرص التي يصر النظام على توظيفها لتلميع صورته الملطخة بدم الأبرياء.
على موقعها أعلنت “حلبة البحرين الدولية” عن فعالياتها المقدمة لجماهير سباق الفورمولا، جاء في الإعلان: “ستمتلئ أجواء الحلبة بالمتعة والإثارة للحضور من خلال الفعاليات العديدة التي ستقام على هامش منافسات السباق حيث الإثارة لا تقتصر على سباق الجائزة الكبرى للفورمولا وإن بل من خلال العديد من السباقات المساندة والفعاليات الترفيهية والحفلات الغنائية. “
بعبارات مسبوكة، ومحددة الأهداف يضع النظام الرسمي كل إعلاناته على سكة محددة الهدف، وهي تلميع الصورة وتحسين السمعة. في العام 2013 وفي مقابلة مع صحيفة “ذي غارديان”، يقول اللورد تيم بيل مؤسس الشركة البريطانية “بيل بوتنغر”، وهو مدير
حملة رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة مارغريت تاتشر في الثمانينيات: “إيماني العميق بأن عدداً قليلاً من الكلمات، وصورة بصرية قوية، بإمكانها تغيير طريقة تفكير الناس”.
وحتى العام 2013، أحصى الباحث البريطاني جون لوبوك 32 مليون دولار على الأقل انفقهم النظام البحريني على إدارة سمعته منذ بداية الربيع العربي. وكتب يومها: ” قد تكون هناك وسيلة واحدة لحل مشكلة سمعتك وهو الترحيب بالإصلاح والتوقف عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، هاها، مجرد مزحة! من الواضح أن ذلك ليس على الطاولة، لذا فأنت تحتاج إلى إنفاق الملايين على العلاقات العامة ودعوة الصحفيين إلى حلبة سباق الفورمولا 1″.
هكذا إذاً يوظف النظام البحريني الحدث الرياضي الكبير. وعلى على وقع صوت رصاص الشوزن الذي سيطلق بعيداً عن الحلبة، لاصطياد التظاهرات المطلبية. سيحتفي البحرين الرسمي باستضافته للسباق الدولي للقول إن الأوضاع في البحرين لاتزال على ما يُرام. وبالتزامن مع صرخات المطالبة بالحقوق، سيرقص بحرينيون منتفعون من السلطة، وأجانب استجلبوا وتنعموا بخيرات البحرين فرحاً بالحدث.
باكستانيون، أفغان، هنود بلوش، أردنيون وعراقيون وسوريون… وقلة من المنتفعين سيكونون على مدارج الحفلات الغنائية، فيما البحرينيون أباً عن جد سيقمعون في قراهم وشوارعهم طبقاً لما يجري يومياً في البلدات البحرينية، خصوصاً بعد التصعيد الأمني في الأشهر الأخيرة.
المشهد الذي يُراد أن يُعكس عن البحرين، لا يشابه حقيقة الأوضاع هناك: حيث التهميش والاقصاء والاستهداف في الدين والأعراف، وحيث السجون التي تعج بمعتقلين من مختلف الأعمار، والمؤسسات التي فصلت موظفين فيها نتيحة سياسة الفصل التعسفي، والقرى التي بات تعرف بأسماء شهدائها.
في مقاله عام 2013، عاد لوبوك إلى فترة الخمسينيات التي شهدت أحداثاً سياسية مهمة في البحرين. قال الباحث البريطاني: “كانت البحرين قد قامت بمحاولات سابقة لتعزيز سمعتها من خلال خطط رفيعة المستوى وفاشلة، مثل كونها مقصدًا لطائرات الكونكورد، وتحاول مرة أخرى مع سباقات الفورمولا 1”.
السباق الذي يتسمر لمشاهدته الملايين حول العالم، لا تنظر إليه السلطة في البحرين إلا كورقة من شأنها أن تحسن سمعة وصورة قبحها سفك دم الأبرياء. ولم تكن البحرين البلد الوحيد الذي وظف هذا السباق، إذ أن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا استخدم الفورمولا 1 لأغراض مماثلة في الثمانينيات.
الاحتفاء الرسمي بالحدث، لا يتلاقى مع موقف الشارع في الداخل. الكتابات والتغريدات البحرينية تبيّن أن الفعاليات التي يستضيفها النظام لا تأتي إلا للتغطية عن الأوضاع الصعبة في الداخل. لا مشكلة مع السباق نفسه، مشكلة هذا الشارع مع التوظيف السيء لمن أجرم في حقهم.
جدران البحرين تنطقت بلسان الشارع، على تلك الجدران تُرفع صور آية الله الشيخ عيسى قاسم، أكبر علماء البحرين الذي يلتف حوله البحرينيون رفضاً لاستهدافه. وإلى جانب صور الشيخ قاسم، تحضر صور المعتقلين والشهداء… توثق صورهم الجدران واحداً واحداً. كما تحضر الشعارات المحظورة ضد الملك، وضد ما باتوا يطلقون عليه “سباق الدم”، الذي طغت أخبار استضافته في العام 2012 على أخبار سقوط شهيدين عام 2012 و2016 هما: صلاح عباس وعلي عبد الغني (17 عاماً).
اليوم تُنقل الصور من داخل البحرين، وعليها سجل البحرينيون مواقفهم: أوقفوا “سباق الدم”.
لماذا “سباق الدم”؟ يجيب الناشط الإعلامي البحريني المقيم في لندن “موسى عبدعلي” أن البحرينيين ينظرون إلى أن هذا السباق يُقام على دمائهم وهذا منطلق رفضه لها، ومن هنا انطلقت التسمية.
وبحسب الناشط عبدعلي فإن هذه الفعاليات يقف وراءها ولي العهد البحريني سلمان بن حمد، الذي يحاول إدارة البحرين بشكل ينعشها اقتصادياً، ويظهّرها كبلد بلا أزمة.
وفي تواصله مع إدارة السباق الدولي، تعهد النظام البحريني بالقيام بإصلاحات بما يخص وضع حقوق الانسان في البحرين، ولكن كل ذلك كان كلام على الورق، كما مختلف التعهدات التي قدمها أو وقّع عليها النظام.
تندرج كل هذه السياسات في إطار التوظيف السياسي الذي يمارسه النظام لتحسين الصورة والسمعة. الرسالة الأهم من “فورمولا1” موجهة للخارج، بأنه “لا تحركات تطالب بسقاط النظام ولا حتى بإصلاحه”، يقول موسى عبدعلي. يريد النظام سُمعة حسنة يوظفها في معاملاتها السياسية والأهم منها المعاملات الاقتصادية التي قد تسعفه في أزمته الحالية.
وإن كانت استضافة السباق الدولي تعتبر رسالة للخارج بشكل أساسي، إلا أنها لا تخلو من رسالة للداخل. الناشط الإعلامي البحريني يقرأ في الحدث رسالة يصيغها ديوان السلطة أن “النظام لا يزال قوياً يمضي قدماً ويتخطى الأحداث، دون أن يُقدم على إصلاح الوضع الفاسد ودون أي تراجع عن التصعيد والاعتقالات والقمع المستمر”.
وهي رسالة متكررة يؤكد عليها النظام البحريني يومياً من خلال المداهمات والاعتقالات، وإصدار أحكام إعدام وتنفيذها، ولن يكون آخرها ترهيب المدنيين بالمحاكم العسكرية.
مع كل استضافة للحدث الرياضي الضخم، يخرج البحرينيون في تظاهرات ضد استغلال الحدث اعلامياً، وضد التجاهل التام لما يجري داخل القرى البحرينية، الحدث هذا العام لن يكون هادئاً، الصخب الذي يعيشه البحرينيون يومياً سيصل إلى الإعلام المدعو لنقل أجواء “المتعة والإثارة” على حلبة السابق، سيجد الإعلام ما يثيرهم في الخارج، صور لأطفال شهداء وآخرين معتقلين، وصور لقيادات زُجت في السجون يعكر صفو ألوانها ضباب الغازات السامة التي تغرق قرى تحلم بأن تكون آمنة.
المصدر: موقع المنار