إحتفلت دول الإتحاد الأوروبي يوم السبت الفائت 25 آذار/ مارس بالعيد الستين لولادة الإتحاد، وشاءت أن يكون هذا الإحتفال في العاصمة الإيطالية روما تقديراً للدور الإيطالي في تأسيس أول تكتل سياسي واقتصادي أوروبي بدأ مساره عام 1951، وضمّ عند تأسيسه ست دول، هي إيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ وألمانيا وفرنسا، ثم أُطلِق على التكتل إسم مجموعة روما عام 1957، ومرَّ بعدَّة مراحل، توسَّع خلالها ليشمل 28 دولة أوروبية، قبل خروج بريطانيا عام 2016، وتتلخَّص أهدافه الاستراتيجية في التأسيس لمواطَنة تضمن الحقوق الأساسية، وتدعم التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وتضمن تقوية دور أوروبا في العالم.
زعماء 27 دولة منضوية الآن تحت راية الإتحاد الأوروبي، وجدوا أنفسهم يضيئون الشمعة الستين لإتحادٍ كهلٍ متهالك، يحاولون إنعاشه لإطفاء شمعته كرمزٍ لإزالة الحدود وإنفتاح الأسواق المشتركة ومُقتضيات العولمة، في زمنٍ لم يعُد فيه مسموحاً أن يكون العالم قرية صغيرة نتيجة تحديات إقتصادية ذاتية، واستحقاقات مواجهة الإرهاب، ومسألة وقف تدفُّق اللاجئين من بؤر الصراعات الشرق – أوسطية والإفريقية، على دولٍ استفاقت فيها القوميات واتجهت نحو يمين شعبوي متطرِّف لتحافظ على مجتمعاتها الداخلية التي لا يحميها لا الإتحاد الأوروبي ولا “حلف الناتو”.
وإذا كان انسحاب بريطانيا من هذا الإتحاد في العام الماضي قد شكَّل صدمة للأنظمة الأوروبية، فإن ارتداداته على المستوى الشعبي جاءت أخطر، وهي التي استولدت “التطرَّف القومي” كما حصل في ألمانيا وفرنسا وهولندا، واستنهضت الإتنيات في النمسا وبلجيكا وسويسرا، التي طالبت ليس فقط بالإنسحاب من الإتحاد بل بالإنفصال عن دُوَلِها الحالية وإعلان الإستقلال إذا لم تنسحب هذه الدول من الإتحاد الأوروبي، إضافة الى النُزعة القديمة الجديدة لإنفصال إقليم الباسك عن إسبانيا التي هي مع اليونان وإيطاليا من أحوَج الدول لهذا الإتحاد، نتيجة حالة شبه الإفلاس التي تُعاني منها ويدعمها الإتحاد بقروض ومساعدات تسمح لها بالصمود نتيجة الأزمة المالية العالمية التي طاولت أوروبا.
ولعلّ تعويم اليونان مادياً عدة مرات لا يأتي ضمن إطار حماية إقتصاد دولة عضو في الإتحاد الأوروبي ومنع هذه الدولة من الإنهيار، بقدر ما أن اليونان ومعها بلغاريا ودول البلقان، قد أُعطيت وسوف تُعطى الأولوية المُطلقة في الدعم المالي لأنها البوابات الأمنية لأوروبا التي يتدفَّق منها الإرهاب القادم من الأراضي التركية، وإذا كان تسلُّل طالبي اللجوء الأفارقة من الشواطىء الليبية يُضبط جزئياً عبر خفر السواحل الإيطالية ومن المغرب عبر حرس الحدود الإسبانية، فإن الإرهاب القادم من تركيا يُهدِّد به رجب طيب أردوغان أوروبا علناً ويبتزُّها لأنه “الخنجر المسموم” في خاصرتها، وقد أرسل للإتحاد الأوروبي في عيد ميلاده “هدية” علنية خلال انعقاد مؤتمر روما منذ أيام: “أنتم إتحاد صليبي ترفضون انضمام تركيا إليكم لأنها دولة مُسلِمة، وما علاقة بابا الفاتيكان بالإتحاد الأوروبي لتجتمعوا معه لو لم تكونوا صليبيين؟ ، وسوف أسمح لثلاثة آلاف أفغاني لاجئين في تركيا بالعبور الى أوروبا ولن أضبط اللاجئين الآخرين الراغبين بالعبور”.
والآن، وبعد أن أطفأ الإتحاد الأوروبي شمعته الستين، فإن مؤتمر روما بهذه المناسبة لم يخرج عن النمَط الإحتفالي لأنه لا يستطيع الخروج بمقررات عملية تحمي “الكهل” من الإنهيار لأسباب خلافية ثلاثة:
– عدم توافق في العلاقات الدولية.
– خلافات إقليمية أوروبية في مسائل تطبيق “شنغن” وحرية التنقُّل عبر الحدود، وجدوى الأسواق المفتوحة، وفي كيفية مواجهة الإرهاب.
– إضطرابات داخلية نتيجة حالة شعبية مذعورة، أدَّت الى نمو اليمين الشعبوي المتطرّف المُطالب بالإنعزال داخل كل دولة.
1) عدم التوافق في العلاقات الدولية، ناتج عن قناعة بعض هذه الدول وفي طليعتها ألمانيا بوجوب التقارب مع روسيا لمكافحة الإرهاب، وحاجة دول أوروبا الغربية للغاز الروسي الذي يُشكِّل 50% من حاجة هذه الدول، إضافة الى التململ من براغماتية الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإزدرائه أحياناً للإتحاد الأوروبي وحلف الناتو على حدٍّ سواء، وتحميل أوروبا المُرهقة مادياً أعباء إضافية في مساهماتها ضمن موازنة الناتو تحت ذريعة عدم استعداد الولايات المتحدة الإستمرار في تحمُّل العبء الأكبر من موازنة هذا الإتحاد لحماية أوروبا طالما أن لا مواجهة أميركية – روسية في المدى المنظور تُلزِم أميركا بهدر أموال غير مجدية في تحالفات خارجية.
2) الخلافات الإقليمية بين الدول الأوروبية، ناتجة عن مُرابطة جنود بعض الدول على الحدود مع الأخرى عند حصول عمل إرهابي في دولة مجاورة، مما يُعِيق حريَّة انتقال المواطنين الأوروبيين التي نصَّت عليها اتفاقية “شنغن”، إضافة الى عدم ودّ أوروبي للمواطن البريطاني بعد انسحاب بلاده من الإتحاد، وعدم ودّ بريطاني للأوروبيين خاصة أولائك القادمين من أوروبا الشرقية للعمل في بريطانيا وتشكيل “لوبي عُمَّالي” زهيد الأجر ومُنافس للعمالة البريطانية، وقد انعكس الضمور الإقتصادي مقاطعةً للأسواق المفتوحة ورفضاً شعبياً للسلع المستوردة من دولة أوروبية الى أخرى.
وتأتي مسألة مواجهة الإرهاب، والحدّ من تدفُّق اللاجئين، نقطة خلافية أولى، نتيجة عدم التوافق على توزيعهم بالعدل على الدول الأوروبية، وعدم قُدرة دولة مثل ألمانيا على تحمُّل أعبائهم وحدها ورفض بعض الدول كهولندا والنمسا وسويسرا استقبال لاجىء إضافي واحد.
3) الإضطرابات الداخلية السائدة، أنتجها رُعب المجتمع الأوروبي الآمن من ارتدادات إرهابٍ ساهمت بتصديره بعض الأنظمة الأوروبية الى الشرق الأوسط وآن أوان إيابه، مما أنتج اليمين الشعبوي المتطرِّف الداعي الى إقفال حدود الدول، لا بل طرد المسلمين حاملي الجنسيات الأوروبية من فرنسا والنمسا وسويسرا وهدم المساجد كما يُطالب حزب الحريَّة الهولندي الذي حلَّ ثانياً في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة.
أمام هذا الواقع، يبدو الإتحاد الأوروبي وكأنه يُسارع بالإنتقال من مرحلة الكهولة الى الشيخوخة المُبكرة، ومعظم الإتفاقات التي يشملها نظام الإتحاد الأوروبي تبدو في التطبيق داخل بعض الدول الأعضاء وكأنها في موتٍ سريري، وأوروبا قادمة على مرحلة من القوقعة داخل حدود كل دولة، واليمين المُتطرِّف ولو لم يصِل الى السلطة في فرنسا وألمانيا قريباً وفشِل بالإستحقاقات الإنتخابية كما حصل في هولندا، فإن كابوس الخوف من كل ما هو خارج الحدود قد أيقظ القوميات الضيقة والإتنيات الهزيلة والعصبيات المحلِّية، وقنبلة مولوتوف مُصنَّعة في المنزل لو رماها أحدهم على رصيف، كافية لأن تستنهض الشارع الشعبي وتدعوه الى الكُفر بالإنفتاح على أي آخر خارج الحدود وتقضي مع تكرار الإضطرابات واهتزاز الأمن الداخلي على كل ما هو تحالف خارجي وعلى ماردٍ إسمه “الإتحاد الأوروبي” …
المصدر: موقع المنار