خليل موسى – دمشق
بتركيز شديد تتجول عيناه على اماكن يحتمل أن تكون موردا يروي عطشه. يحمل قارورتي ماء على أمل العثور على ما قد يكون له موعدا مع ابتسامة ظافرة بجرعة صالحة للشرب له ولمن ينتظره في منزلٍ لم يعد فيه حتى ما يمكنه من غسل وجهه البريء صباحا. انه سامي ابن العشرة أعوام. ارسلته والدته للبحث والتقصي عن مكان يكون للعطش استراحة مؤقتة.
نعم هذا هو الحال في كثير من مناطق وأحياء دمشقية منذ استذئاب المسلحين التكفيريين في وادي بردى على نبع عين الفيجة، نبع عاش تاريخاً مرتبط بالعاصمة الأعرق في العالم، ويجري من مكان ولادته إلى بيوت المدينة مرافقا اهل الشام في حياتهم اليومية. فما من منطقة في دمشق إلا و تعج بالباحثين عن الماء. طوابير بالعشرات من جميع الأعمار والأواني تتنقل معهم من شارع لآخر بغية ملئ ما بحوزتهم. كما صهاريج الماء الخاصة بالبلديات تتنقل بدورها فاتحة ما يتيسر من صنابيرها العريضة على ما أمكن من أحياء.
فبعد تعطيل كافة مصادر المياه الوارد من عين الفيجة منذ حوالي الأسبوعين، وهو المصدر الأهم والوحيد لمياه شرب دمشق أُعلنت حالة الطوارئ، ليصل الماء كل ثلاثة أيام مرة واحدة ولعدة ساعات لا تتجاوز الأربعة. ولأن مياه الآبار التي حفرتها المحافظة لا تتمتع بخاصية الضخ القوي، فإن العنفات بدورها لا تتمكن من إيصال الماء إلى كافة الأحياء، وهنا كان البحث عن حلول. الحدائق والبساتين والأحياء المنخفضة، كلهم تعاضدوا واستجمعوا قواهم، ووحدوها لتأمين المياه، كل من لديه سيارة “بيك أب” وضع عليها خزانا وراح يقودها في حييه، ليملأ لجيرانه، ومنهم من ذهب لأبعد من ذلك بأن راح يوزع المياه في أحياء بعيدة عنه في حال كان حيه تصله الحصة الكافية من الماء.
البيوت وحسب ما شهده المواطنون، ورصده موقع المنار خلال جولة واسعة على المياه المقطوعة، فإنها تفتح بدورها الأبواب لمن أراد ملئ الماء من الناس، فحالة التماسك المجتمعي الإنساني في دمشق لم يشهد لها قرين في أي مكان آخر، وذلك بفضل ما يتعلق بأهم مقوِّمٍ للحياة. حالة صمود هستري ومقاومة شعبية حقيقية للتمسك بالحياة، فاقت كل التوقعات، رغم كل التهديدات التي شهدتها العاصمة إثر قطع الماء من قبل الفصائل المتشددة في وادي بردى. إضافة إلى من لديه في منزله خزان يستوعب بضع مئات من لترات الماء، ينتظر الماء عند صنبور خط التغذية الرئيسي للفيجة في منزله، ليملأ من خلال الدلو خزانه.
اللافت لدى كل من التقاهم موقع المنار وحادثهم في دمشق، أنهم كانوا يلقون اللوم على دول مجاورة، أو غير مجاورة منها تركيا والسعودية وقطر، بحجة أنه لو لم تقم تلك الدول بدعم الإرهابيين ومدهم بكل مقومات القتل، لما كان لهم قدرة وجرأة للإقدام على محاولة ارتكاب مجزرة بحق الإنسانية من خلال جريمة التعطيش هذه، ويتساءل المواطنون إن كانت هذه المحاولات للي ذراع الدولة من خلال مواطنيها، أو أنهم يريدون من المواطنين القيام على الدولة التي لم تقصر في دعمهم لمواجهة أزمة انقطاع الماء من خال ما أمنته من مياه في دمشق.
ومن خلال ما يصل من أنباء عن الجبهة العسكرية التي يعمل الجيش السوري فيها للوصول إلى النبع واسترجاعه فإن أمل المواطنين أكبر في عودة المياه إلى مجاريها من خلال مصالحة أو انتصار عسكري. وفي حديث سريع مع مدير عام مؤسسة الموارد المائية لموقع المنار، فقد اكد “ما أن تصل ورش الصيانة إلى النبع مجددا وتعيد تأهيل مجرى النبع ليعود ضخ المياه إلى المنازل في العاصمة كما سابق عهده”. وتزامنا مع هذه المظاهر في دمشق، فإن التوصل إلى وقف إطلاق النار عبر وساطة روسية في قرى وادي بردى صباح اليوم، مكن ورش الصيانة التابعة لمؤسسة الموارد المائية من التوجه إلى بلدة عين الفيجة للبدء بعملها المنتظر.
إذا ستبقى سواعد المواطن متشابكة بسواعد الدولة لتجاوز هذه الأزمة المرعبة، وستبقى سيارات الدولة تتنقل قدر المستطاع في أحياء دمشق، لتروي عطش المواطنين بما هو مُيَسَّر من مياه المخزون الاحتياطي والارتوازي، إلى حين نهود النبع مجددا ولتكون رسالة هي الأقوى منذ بداية الأزمة السورية على مناعة الحصن السوري من الانهيار أمام هجمات التكفيريين الذين انطبق عليهم المثل القائل “لا يخافون الله ولا يرحمون عباده”.