يبدو ان المنطقة الممتدة من غرب اسيا حتى شمال افريقيا تمثل حقل تجارب تاريخي للكثير من المفكرين والباحثين وعلماء السياسة والاجتماع، والتاريخ، والاقتصاد، وغيرهم.
عادة إن حقل التجارب يجب ان تتوفر فيه الظروف الموضوعية لنجاح التجربة، هذه المنطقة هي أكثر المناطق في العالم كثافة من حيث الإرث التاريخي والحضاري، الأكثر كثافة من حيث الموارد الاقتصادية الأولية، الأكثر تأثراً وتأثيراً في الاحداث التاريخية عبر الزمن، الأكثر تأثيراً في الخريطة الجيوسياسية للعالم.
الحرب الحالية على فلسطين ولبنان منذ تشرين الأول ٢٠٢٣ تمثل أحد اهم تجارب مفكري وباحثي وعلماء هذا الغرب الجماعي. نقارب المسألة اليوم من زاوية عقيدتين غربيتين في النظر الى الصراعات وأهدافها والنتائج المتوخاة منها وهما عقيدة صدام الحضارات وعقيدة الصدمة.
الفيلسوف الأميركي ومنظر العلاقات الدولية البروفسور في جامعة هارفرد والصوت الحاسم في تشكيل السياسة الامريكية الخارجية لفترة طويلة من الزمن وفي كتابه “صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي” اعتبر ان العالم خلال الحرب الباردة كان مقسماً الى ثلاثة أجزاء بحسب تصنيفه، مجموعة من المجتمعات ” الاكثر ثروة وديمقراطية” بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ومجموعة افقر الى حد ما مرتبطة بالاتحاد السوفياتي وتحت قيادته بالإضافة الى مجموعة ثالثة مكونة من دول فقيرة تفتقد الى الاستقرار السياسي وتدعي انها غير منحازة.
ويقول ان عالم ما بعد الحرب الباردة أي ما بعد ١٩٩١ لم تعد الفروق المائزة بين شعوبه أيديولوجية او سياسية او اقتصادية وانما هي فروق ثقافية. وبناءاً على ذلك على الشعوب والأمم ان تجيب عن السؤال المهم: من نحن؟
فيعتبر ان الناس يجيبون ويعرِفون أنفسهم من خلال النسب والدين واللغة والتاريخ والقيم والعادات والمؤسسات الاجتماعية ويتطابقون مع التجمعات الثقافية (قبائل، جماعات اثنية، مجتمعات دينية، أمم) ومع الحضارات على المستوى الأكبر. كما يذهب الى انه ” نحن لا نعرف من نكون الاَّ عندما نعرف من ليس نحن” وذلك يتم غالباً عندما نعرف ” نحن ضد من ” وبالتالي انتقل الصراع من ثنائيته القديمة خلال الحرب الباردة الى صراع الحضارات السبع الأكثر تأثيراً في العالم.
اذاً هذا مفتاح الصراع او الصدام ” نحن ضد من” وفي سياق كتابه يعتبر ان الحضارتين الأكثر صراعاً هما الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية ممثلة بعدة دول وحركات غير دولتية في المجتمع الإسلامي.
أما الكاتبة والمفكرة الكندية نعومي كلاين فقد كشفت في كتابها “عقيدة الصدمة”عن استراتيجية التحكم بالانظمة والشعوب والمجتمعات في أوقات الازمات، او خلق أزمات مخططة ومعدة مسبقاً وذلك لفرض السياسات النيوليبرالية واضعاف دور القوى المسيطرة في هذه المجتمعات من خلال الدفع بالمجتمعات الى حد اليأس من الواقع الكارثي الذي اصابهم وبالتالي تكون الخطط الجاهزة مهيأة للتطبيق وفق النموذج الغربي. هذا ما يحصل تماماً للقضية الفلسطينية كأبرز حقل تجارب لهذه العقيدة من اجل إعادة بناء غزة حجراً وبشراً وفق النوذج الغربي الذي يولد ما بعد الصدمة واليأس، كما ان ذلك يُحضر للبنان عبر التدمير الممنهج للوصول باللبنانيين الى الاستسلام للواقع الصادم وبالتالي القبول بما يطرح الآن كأحد شروط وقف إطلاق النار وهو القبول بخطة صندوق النقد الدولي لاعادة بناء الاقتصاد اللبناني ومؤسسات الدولة وفق الوصفة الغربية الكاملة.
إذاً هذه الخلفية التي يقود فيها الغرب اليوم الصراع في كل من غزة ولبنان، واليمن، والعراق، وإيران. هذا هو الغرب الجماعي الذي حج الى الكيان منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ وفتح موانئه ومطاراته وتاريخه وجغرافيته في خط امداد لا حدود له في مواجهة هذا المبنى الثقافي الذي يعتبره “اشد خطوط التقسيم الحضاري عنفاً” كما يضعه في قالب عنصري آخر تحت عنوان ” الغرب والآخرون”.
هذا الغرب الجماعي لديه ثلاث قضايا او استراتيجيات تحكم سلوكه في العالم والمنطقة بشكل خاص:
• الحفاظ على تفوقه العسكري من خلال منع انتشار الأسلحة ووسائل استخدامها لضمان تفوقه وفق “شرعة صدام الحضارات”.
• تنمية القيم والمؤسسات السياسية الغربية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الحرية الفردية، الليبرالية،) بالضغط على المجتمعات الأخرى لضمان جريان مفهوم الصدمة في شرايين المجتمع المستهدف.
• حماية التماسك الثقافي والاجتماعي والاثني للمجتمعات الغربية بتقييد عدد المسموح بقبولهم من غير الغربيين كمهاجرين او لاجئين.
بالعودة الى واقعنا الحالي، ان المعركة الحالية في لبنان وفلسطين لا تنفك متلازمة مع الفوضى العالمية التي اتسمت فيها المرحلة الحالية والتي تستمر الى المستقبل الغير قريب وأبرز محطاتها حرب أوكرانيا، الازمة التايوانية، الحرب على اليمن، الحرب على سوريا وغيرها. فكان التدافع والصراع وعقيدة الصدمة أي عقيدة الإبادة الملطفة من سمات هذه المواجهات، لكن من سيحدد الحلول التي سيتم الوصول اليها هي موازين القوى في ميادين الصراع.
الثابت ايضاً في هذه المرحلة الغير مستقرة او الانتقالية هو ان الغرب يرى حروبه في الساحات المتعددة انها متعددة الأدوار لكنها تتمتع بوحدة الهدف. وعليه من الواجب والضروري والذي لا يحتمل الانتظار على خصوم هذا الغرب ان يعمل على تطوير وتعميق التعاون المشترك في مواجهته.
الآن التطور الأبرز للمواجهة معه هو ما أسس مدماكه الأول محور المقاومة او الممانعة في المنطقة حيث ضم هذا المبنى ما اسميه وحدة الساحات التحررية حيث ضم قوى دولتية كايران وسوريا وقوى غير دولتية كالمقاومة اللبنانية والفلسطينية واليمنية والعراقية، هذا في مقابل وحدة ساحات غربية أمريكية صهيونية.
ومن نتائج هذه المواجهة الأبرز في جولتها الأخيرة في المنطقة على لبنان وفلسطين هو الاتي:
• لم يعد الغرب ملاذاً للحرية والديمقراطية في العالم وقد تضرر هذا المبنى الغربي بشكل كبير في صورته داخل النظام العالمي جراء آلة الاجرام التي يديرها ويدعمها في غزة.
• اهتزاز صورة القبضة الحديدية للرأسمالية الاقتصادية في انحاء العالم خاصة بعد ان قام فريق صغير في محور وحدة ساحات التحرر بالاطباق على مضيق باب الرأسمالية أي مضيق باب المندب في حرب اسناد غزة.
• بدء اهتزاز أعمدة النظام العالمي الغربي “القائم على القواعد” لصالح مراكز قوى متعددة وذلك بعد تحطم أبرز اعمدته عندنا فشل في اتخاذ أي قرار او أي موقف بخصوص حرب الإبادة في غزة.
• الدعم اللامحدود السياسي والعسكري والاقتصادي الغربي الاميريكي لإسرائيل أجهض الدور الأساس للأمم المتحدة في حل النزاعات الدولية لأن الغرب هو المكون الأساسي لمجلس الامن وفي نفس الوقت هو المحرك الأساسي للصراع.
• تبلور مركز قوة عالمي جديد اسمه محور المقاومة كما ذكرنا حيث يضم اطرافاً دولتية وأخرى غير دولتية.
المصدر: بريد الموقع