بات واضحاً بأن حزب الله، وبناءً لواجبه الشرعي والأخلاقي كما اعلن سماحة السيد الشهيد، دخل معركة اسناد غزة بتاريخ 08/10/2023 ولم يخفِ ذلك وبدأ العمليات على الحافة الامامية باستهداف وسائل التنصت والتجسس أولاً وصولا الى استهداف الجنود والتجمعات العسكرية.
هنا لا بد من التذكير بأن مقتضى الحكمة، حين يختار عدوك أن يكون وحشاً بدلاً من أن يكون ميتاً، تشتيت جهده في أكثر من اتجاه لمنعه من تجيير كامل جهده في اتجاه واحد، ثم يبدأ بسحق أعدائه (وأنت منهم) الواحد تلو والآخر، وهكذا لم تكن جبهة الإسناد لبنانية فقط في تلك الفترة.
حزب الله حين دخوله المعركة كان يدرك جميع التبعات التي قد تصيبه وتصيب بيئته نتيجة هذه المعركة، وكان يتدرج في مستوى العمليات، متمكناً على مدى عام من رسم حدود دقيقة لقواعد الاشتباك وجغرافيتها في جنوب لبنان، الى ان اقدم العدو على اغتيال السيد محسن شكر، وفي فجر تلك الليلة اقدم على اغتيال الشهيد هنية في طهران في سابقة خطيرة، حيث كان واضحاً ان العدو اتخذ منحى عدوانيا مباشراً تجاه حزب الله وايران.
كان العدو الإسرائيلي بارعاً في الخداع الاستراتيجي وقد ساعده الأمريكي عبر ارسال رسائل خادعة الى الدولة اللبنانية بعد عملية الرد على اغتيال السيد محسن، بأن الإسرائيلي لا ينوي التصعيد. وقام الأوروبيون بارسال رسائل خادعة الى ايران بأنه ستتم عملية إيقاف الحرب في غزة ولبنان شرط ان لا ترد ايران، كما أكد ذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.
غير ان العدو (الأميركي والاسرائيلي معاً) كان يعمل وفق مسار وتقدير محضر بعناية، من خلال اعداد جدول الاغتيالات على رأسها سماحة الأمين العام والقيادات الأخرى، وتجهيز بنك اهداف للقدرات الاستراتيجة كان واضحاً أنه أعدّه مسبقاً ليوم ينقضّ فيه على حزب الله وبيئته..ومنها خديعة البايجر واللاسلكي.
عمل العدو وفق سياسة تضليل محبكة بعناية، عبر وسائل اعلام أجنبية وعربية ووسائل التواصل الخاصة بها، حيث مورست عملية اغراق متناقضة تجعل من الخصم في حالة عدم يقين ولا يمكن له حسم النوايا، لاىسيما وأنه – كما أشرنا – يعمل وفقاً لقواعد اشتباك دقيقة وحساسة وكثيرة الحسابات.
اقدم العدو على تفجير أجهزة البيجر وفي اليوم التالي الأجهزة وكانت ضربة تلقاها حزب الله وجعلت من النظام الطبي في لبنان يقع في شلل تام، ودخلت إلى جسم الحزب وبيئته صدمة من نوع جديد لم يعتد عليه.
بشكل عجيب، استوعب حزب الله مجزرتي البيجر واللاسلكي، غير أن المفاجئة التي كان يعتبر العدو انها حاسمة، هي توجيه ضربة استراتيجية كبرى عبر اغتيال سماحة الأمين العام لحزب الله في حارة حريك، في المكان الذي يعتبر لدى كل حزب الله وبيئته انه الأكثر سريةً على وجه الأرض منذ العام ٢٠٠٦، ورافق هذه العملية عملية اغراق ممنهج للمجتمع وبيئة المقاومة وتنظيم حزب الله بأن العدو يعلم كل شيء عن حزب الله، والقرار اتخذ بتفكيك المقاومة وانهائها. بعد أيام جاءت الضربة الثانية واستشهد السيد هاشم صفي الدين مع مجموعة من القيادات الاستخبارية في المقاومة، وسط حمم نار كانت تحول مناطق بيئة المقاومة الى ركام، وسكانها إلى نازحين في الطرقات. وهذا ما دفع بأصحاب التقدير الحسابي المجرد إلى الاستنتاج: انتهى حزب الله.
انقلاب الصورة
تلقف محور المقاومة كل هذا المشهد، فكان الرد الايراني على الكيان الصهيوني، في إشارة الى استعداد طهران الى الدخول الى ساحة المواجهة المباشرة ولو أدى الموضوع الى حرب كبرى، وهذا ما لم يقرأه الأمريكي والإسرائيلي بعناية، فقام بالرد عبر غارات على بعض الأهداف في ايران. علما ان عملية “الوعد الصادق 2″، أصابت العدو وقيادة المنطقة الوسطى بالذهول، بسبب أن الصواريخ الفرط صوتية وغيرها اصابت الأهداف بدقة في الكيان رغم التعتيم وأثبتت فشل الدفاع الجوي الإسرائيلي.
وفي لبنان، استوعب حزب الله الصدمات التي لو حصلت لأي دولة او جيش في العالم لرفع الراية البيضاء، فرمم هيكله التنظيمي وانتخب أمينا عاما جديدا، وبدأ بعمليات خيبر إضافة الى اعلان معركة “أولى البأس”.
استبسل المقاومون في الحافة الامامية في قتال الصد (أي منع العدو من التقدم واحتلال الأرض، وقامت المقاومة بعمليات دفاعية تهدف الى الحفاظ على الأرض والقوات) من مارون الى بليدا وعيترون وميس والخيام.
عمليات حزب الله الدفاعية وبكل تجرد هي معجزة في المقاييس العسكرية، خصوصا وانها ترافقت مع استهداف خلفية القوات (أماكن التجمع -مراكز القيادة – قوات الاحتياط -قوات التأمين )، وارفق حزب الله ذلك بمشاهد موثقة لعمليات استطلاع جوي لتحشد قوات العدو والأماكن المستحدثة، ما يشير الى ان منظومة التحكم والسيطرة تعمل ان كان في رصد الأهداف او التنسيق بين اذرع قوات حزب الله.
عمليات خيبر
بدأت عمليات خيبر التي اعلن عنها حزب الله، بعملية الرد على استهداف السيد محسن وأظهرت قدرة استخبارية عالية في الاستهداف واهم هدفين مكان تجمع قوات غولاني على العشاء وغرفة نوم رئيس حكومة الاحتلال، والتي أدت الى إصابة نتنياهو بمتلازمة المسيرات.
أظهرت هذه العمليات براعة المقاومة في استخدام سلاح المسيرات، والتنسيق الذي اظهره انتخاب الأهداف من قبل جهاز استخبارات حزب الله الذي ادعى نتنياهو انه دمره وقتل قادته.
وتستمر المقاومة في اطلاق الصواريخ النوعية على اهداف محددة وصولاً الى تل ابيب، وهددت 25 مستوطنة بالاخلاء، في حين أعلن الأمين العام الشيخ نعيم قاسم عن المرحلة المقبلة والبدء بتنفيذها.
في ظل هذا المشهد دخل العدو الإسرائيلي مرحلة (العيون العمياء Blind eyes) لناحية الأشخاص الجدد في الهيكل الخاص بحزب الله كما صرح المسؤولون الإسرائيليون، كما ظهرت لديه فجوة في رصد أهداف جديدة في لبنان، إن على صعيد قدرات السطع الفني او التنصت او المسح الجوي المراكز الجديدة للمقاومة، أو على صعيد أماكن القيادة والسيطرة الجديدة.
وقبل أيام، كشف حزب الله عن منشأة “عماد 5″، والتي لا يعلم العدو ما هي الصوارخ التي تطلقها، وان شكك بعض المحللين انها منظومة “فاتح 360″، وهذا إن صح يشكل ضربة كبرى لادعاءات العدو بأنه دمّر منظومة الصواريخ الاستراتيجية لحزب الله، وبات السؤال الان: كم يملك حزب الله من صواريخ دقيقة وثقيلة.
وهكذا، أشار محللون الى ان حماية منظومات مثل منشأة “عماد 4″ و”عماد 5” بهذه الطريقة يشير الى ان جميع القدرات الاستراتيجية محمية حسب المنطق، وهذه الحماية تؤمن اطلاقاً متكرراً للصواريخ.
على صعيد ايران
تبدو الأمور ذاهبة الى التصعيد ان لم نقل مواجهة مفتوحة مع الجمهورية الإسلامية وبحسب ما تظهره الاستعدادات فان الأمريكي منخرط بهذه المواجهة. المواجهة ان حصلت فيها سيناريوهات متعددة، وكما وصفها نتنياهو بأنها “حرب القيامة “، وبأن معركته يجب أن تنتصر حتى لو كان الله مع محور المقاومة.
ايران ماضية في المواجهة ضمن قرار أربك الحسابات لدى الأميركيين والاسرائيليين، والحق بأنه في حال ذهب الإسرائيلي الى التصعيد الكبير، فثمة من بات يرى إن دخول قوات برية من المحور الى فلسطين اصبح سيناريو واقعياً، والعدو يعي ذلك وتحدث عنه في أكثر من مناسبة.
خلاصة التقدير، نقول إن العدو تفوق في الخداع والتضليل، وحقق مفاجئة استرتيجية ومكاسب تكتيكية، في حين أن دخول نتنياهو في متلازمة المسيرات أدت إلى منع التصريح عن أي حركة له او تواجد، كما جرى تفعيل البريد الفيزيائي في الكيان خوفا من تسريب المعلومات.
حقق المحور مناورة متشابكة الاذرع، بعد أن تلقف الصدمة، وبدأ بالاستهداف النوعي في داخل الكيان، كما أن ايران أظهرت قدرة على الصمود والاستمرار بدعم المحور.
تعتبر منطقة غرب اسيا منطقة نفوذ حيوي للصين وروسيا، ولن تقفا على الحياد في هذا الصراع، ولن يسمحا لامريكا بتحقيق حلمها التي تسعى لتحقيقه منذ (1991) بالسيطرة على هذه المنطقة ومحاصرتهما، وهما مرغمتان بحسب تقدير الموقف الاستراتيجي بدعم محور المقاومة بجميع الإمكانات المطلوبة.
ما قام به حزب الله من قدرة على الصمود والبدء بقلب المعادلة، وتحويل الشمال من الحدود الى حيفا، منطقة منزوعة الأمان نهائيا، إضافة إلى التصدي الاستبسالي لفرق وألوية العدو، التي ان تمكنت أن تصل إلى نهر الأولي في شمال مدينة صيدا لفعلت، وليس فقط الى نهر الليطاني جنوب النبطية. كل هذا يحق فيه وصف المعجزة العسكرية التي لم يرَ التاريخ مثيلاً لها في الحروب الكبرى. قد تكون المعجزة هي فعلا كما قال نتنياهو، جزءاً من مشهديات يوم القيامة، ولكن مع فارق أن الكلمة العليا فيه هي لله وجنوده فقط دون أي منازع.
*باحث استرتيجي
المصدر: بريد الموقع