شنت القوات الأوكرانية في السادس من آب ٢٠٢٤ هجوما مباغتا داخل الأراضي الروسية في مقاطعة كورسك في خطوة مفاجئة بعد أكثر من عامين على العمليات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا، وفي وقت تحقق فيه القوات الروسية تقدما ملحوظا في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك لا سيما منذ مطلع شهر اب.
هذا الامر شكل مفاجأة حقيقية لمعظم المتابعين حيث طرحت العديد من التساؤلات حول مغزى هذا الهجوم والاهداف التي تسعى كييف لتحقيقها من خلاله وجدوى هذا الهجوم وتداعياته على امكانات الصمود في محاور القتال عند جبهتي لوغانسك ودونتسك، فما هو الهدف الأساسي من هذا الهجوم؟
علينا أن ننطلق أولا من التوصيف الحقيقي لهذا الهجوم الأوكراني، والذي يمكن تبويبه بصورة غير مباشرة تحت عنوان إعلان الحرب على روسيا، حيث ولأول مرة منذ اندلاع المواجهة بين البلدين ينتقل الجيش الأوكراني من الدفاع عن النفس إلى الهجوم داخل حدود روسيا وما لهذا التفاوت من تداعيات وآثار من حيث التوصيف القانوني والعسكري والاستراتيجي.
من هذه النقطة بالذات أي أن أوكرانيا بدأت حربا على روسيا ننطلق لفهم الهدف الحقيقي للهجوم الأوكراني، فالحرب كما قدمها الجنرال البروسي “كارل فون كلاوزفيتز” وهو من أشهر المفكرين العسكريين والذي تركت كتاباته حول الحرب أثرا عميقا في فهم طبيعتها وأهدافها وما زالت دراساته إلى الآن تدرس في مختلف المدارس العسكرية، فقد عرف الحرب أنها “ليست سوى إستمرار للتفاعل السياسي مع مزيج من وسائل أخرى”، أي أنه وبصورة مبسطة لا يمكن النظر إلى الحرب إلا من خلال كونها وسيلة تعبر عن السياسة، وأنه لا يمكن فصلها عن التعامل والتفاعل السياسي، وأن الحرب دون أهداف سياسية، تصبح شيئا لا معنى له، أي أنها في نهاية المطاف مزيج من الدبلوماسية والقوة وآداة من أدوات المساومة السياسية، وبصورة أدق دبلوماسية العنف.
من هنا ننطلق إلى ما حدث في كورسك، وبغض النظر عن بعض التفاصيل التكتيكية حول الأهداف العسكرية والنفسية المحتملة من هذه المعركة، كتخفيف الضغط العسكري عن جبهة اقليم دونباس وضرب معنويات الروس، فإنه لا بد أن لا نغفل أن هكذا تحول نوعي لا يمكن أن يحدث دون علم ودعم أميركا وباقي دول الناتو.
لذلك ومن خلال ما أشرنا إليه سابقا حول الفهم الحقيقي لمفهوم الحرب، فإن ما حصل في كورسك هو ورقة رمت بها القوى الغربية في محاولة لتكريس نوع من التوازن في أي مفاوضات مستقبلية بين روسيا وأوكرانيا وخلق واقع جديد يدفع باتجاه تسوية بعيدا عن لعبة رابح- خاسر قد تكون نتائجها كارثية على العالم، فسيطرة أوكرانيا على أراض داخل روسيا تسمح بتحريك المفاوضات وتدوير الزوايا وتوسع من شريحة التفاوض بين الطرفين دون إمتلاك أفضلية مطلقة لأي من الطرفين على الآخر الأمر الذي يكسر الجمود في أي عملية تسوية لاحقا.
ويبقى مستقبل نجاح هذه الورقة الغربية مرهونا بالمقياس التالي: النجاح الميداني الذي يمكن أن يحققه الاوكرانيين في كورسك دون أن ينعكس سلبا على باقي جبهات القتال من جهة، ومن جهة أخرى بمدى قدرة روسيا على صد الهجوم الأوكراني ودحره دون أن يؤثر سلبا على زخم الهجوم الروسي في الدونيتسك وكورسك.
لا شك أن قادم الأيام سيكشف مدى فعالية الورقة التي رمت بها القوى الغربية وما بقي من أوراق في جعبتها، كورقة تزويد كييف بالقدرة على انتاج صواريخ بعيدة المدى لضرب العمق الروسي والتي بدأ الحديث عنها، إلا أن الثابت الوحيد أن هذه اللعبة قابلة للإنفجار في أي وقت ودون سابق إنذار.
* متخصص في العلاقات الدولية
المصدر: موقع المنار