لا جدوى من الضغوط الداخلية والخارجية على بنيامين نتانياهو، لإجباره على تحديد “مستقبل غزة” أو ما تمّت تسميته بمصطلح “اليوم التالي”، لأن أي متابع يُدرك، أنه ليس في متناول نتانياهو أية أفكار عن “اليوم التالي”، وحساباته الإنفعالية المحدودة، هيأت له عند بدء العدوان البري، أنه خلال أيام أو أسابيع، سوف يقضي على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية ويعتقل قادتها، ويحرر الرهائن الإسرائيليين بالقوة العسكرية، ويُبقي جيشه في قطاع غزة، كما كان الحال قبل الإنسحاب من القطاع عام 2005، ولعلّ من أولى هفواته القاتلة، أنه أغفل أسباب قرار آريل شارون الإنسحاب العسكري والإستيطاني من القطاع في ذلك العام، تحت وطأة الضربات القاسية للمقاومة الفلسطينية بأسلحة متواضعة وصواريخ تم تصنيعها محلياً في وِرَشٍ للحدادة.
ودون الخوض في تفاصيل أخطاء نتانياهو، بدءاً من حكوماته السابقة حتى حكومته الحالية، فقد ارتكب في السابقة ما يرقى لمستوى التطهير العنصري وجرائم الإبادة في القدس والضفة الغربية، وتتلقى حكومته الحالية نتائج صدمة “طوفان الأقصى”، وما تلاها من مواجهات غير محسوبة لمقاومة تخطت في قدراتها وبطولاتها كل الحسابات.
اليوم التالي لا يملكه نتانياهو، كي يحدده داخلياً للوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، الذي أمهله حتى الثامن من حزيران/ يونيو المقبل، تحت طائلة تقديم غانتس استقالته والمطالبة بانتخابات مُبكرة، ولا خارجياً استطاع نتانياهو إجابة آخر موفد أميركي زار تل أبيب “جايك سوليفان” عن نفس السؤال، في أحرج وقت للرئيس بايدن الذي يعاني انتخابياً بسبب غزة اكثر من معاناته مع روسيا في أوكرانيا، وتراجعت شعبيته خلال شهر أيار/ مايو الجاري، من 38 الى 36% وفق ما أوردت وكالة “رويترز”، مع تسجيل خصمه ترامب 303 نقاط في آخر استطلاع رأي للإنتخابات الرئاسية الأميركية مقابل 235 نقطة لبايدن.
بالمقابل، ليس الإنذار الذي وجهه بيني غانتس بوجوب تحديد خطة اليوم التالي، هو الوحيد الذي يقضّ مضجع نتانياهو، بل تلقى عدة صفعات دولية متتالية، لعل أبرزها مذكرة التوقيف التي صدرت بحقه ومعه وزير دفاعه يوآف غالنت، من المحكمة الجنائية الدولية، ثم إعلان الدول الأوروبية الثلاث، إسبانيا والنروج وايرلندا اعترافها بالدولة الفلسطينية يوم الاربعاء الماضي.
ولعل ما جمع ما بين نتانياهو وبايدن في التقييم العام للأداء، أن قدراتهما مبالغ فيها لجهة التقدير وارتكاب الأخطاء، وغزة بالذات هي الدليل، حيث ذهب نتانياهو بعيداً في تهديد كل محور المقاومة، وانسحب خلفه بايدن، الى أن جاء الردّ الإيراني الحاسم على الإعتداءات الصهيونية على المصالح الإيرانية التي كان آخرها الإعتداء على القنصلية الإيرانية في دمشق.
إيران؟! الدولة ذات المليون وستمائة ألف كيلومتر مربع، التي عجزت أميركا عن تطويعها بالحصار الظالم على مدى 45 عاماً، حاول نتانياهو الراقد في كيان محتل مساحته 22 ألف كيلومتر مربع أن يجاريها على مستوى القوة الإقليمية بالإمدادات الأميركية وكل البوارج والأساطيل، التي عجزت عن وقف صواريخ أنصار الله التي أقفلت البحر الأحمر بوجه الظلم والظَلَمة.
وإننا وسط المأساة الوطنية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، باستشهاد رئيس الجمهورية السيد ابراهيم رئيسي ووزير الخارجية الدكتور حسين أمير عبد اللهيان ورفاقهما، خلال العودة من إتمام واجب وطني تنموي لإنشاء سد مائي مع دولة أذربيجان المجاورة، هذه المأساة التي أبرزت للعالم بأسره وللصديق والخصم، من خلال مآقي الحزن للمليونيات الشعبية الإيرانية، والسواعد والقبضات المرفوعة كرامةً وطنية، حجم هذه الدولة العظيمة، ووحدة شعبها خلف قيادته، والمستوى الدستوري والديمقراطي الذي يضبط كافة الأمور السياسية والإدارية في الأزمات الكبرى والخطب الجلل، وإننا إذ نسأل الرحمة لشهدائها، ننحني احتراماً لمسيرة الرئيس المقاوم الراحل ووزير خارجيته، ونتوقف عند عبارة الشهيد الوزير الدكتور حسين أمير عبد اللهيان عن المسيَّرات الإسرائيلية التي حاولت الرد على الصواريخ والمسيرات الإيرانية حيث قال رحمه الله: “المُسيَّرات التي أرسلتها إسرائيل، تشبه اللعب التي يلهو بها أطفال إيران”.
ومن إيران، الدولة / القارة، نعود الى الداخل الفلسطيني المحتل، مع التعريج على جبهات الإسناد لمحور المقاومة من اليمن إلى العراق وانتهاءً بلبنان، فإن جبهة المقاومة الإسلامية في لبنان كان يتوقعها العدو الصهيوني كجبهة إسناد، لكن المفاجأة جاءت من أنصار الله التي “عولمت” الصراع ونجحت في شلّ النقل البحري العالمي بهدف رفع الحصار عن غزة، والمفاجأة الثانية جاءت من صواريخ المقاومة العراقية، التي ضربت الفريقين، الأميركي و”الإسرائيلي”، لتختتم المقاومة في لبنان حسم الأمور بوضوح وصراحة، على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بإعلان تلازم البندقية في لبنان مع البندقية في غزة، بمعنى أنهما تطلقان النار معاً وتتوقفان معاً.
ومع استمرار العدوان على قطاع غزة، فإن فلتان الوضع من يد الكيان الصهيوني في الضفة الغربية بلغ مداه، نتيجة الأعمال الإجرامية التي يقوم بها المستوطنون العنصريون بحق البلدات والأحياء الفلسطينية، وبغطاء من جيش الإحتلال، وما يحصل في الضفة هو بخطورة ما يحصل في القطاع، حيث نزحت لغاية الآن عائلات فلسطينية من 35 بلدة وحيّ نتيجة اعتداءات المستوطنين، والإنفجار الكبير ينتظر نتانياهو في الضفة الغربية وفي كل منطقة سكانية تضمُُ العرب واليهود، ونتانياهو الذي يحكمه جنون العظمة سوف يصل إلى نقطة اللاعودة مع جيشه عندما يعود الفلسطينيون إلى “ثورة السكاكين”.
أمام هكذا واقع، أي “يومٍ تالٍ” يُسأل عنه نتانياهو، ورئيس أركان جيشه يعترف منذ يومين، أن أنفاقاً بنتها المقاومة الفلسطينية في غزة على مدى عدة سنوات، لا يُمكن أن يتمّ تدميرها في أشهر.
أي “يومٍ تالٍ” يُسأل عنه نتانياهو، هو الذي توهَّم ومعه أميركا وبعض الغرب و”عرب الإعتدال” في بداية العدوان على غزة، أنه من السهل تهجير مليوني فلسطيني الى سيناء، أو عبر الترانسفير إلى أثيوبيا، ثم تبيَّن أن أبناء غزة لا ينزحون من غزة إلا إلى غزة، ولا قدرة للجيش الصهيوني على حكمهم كما أعلن وزير الدفاع يوآف غالنت، لا أمنياً ولا إدارياً ولا مالياً في كيانٍ بلغ العجز فيه 8% حتى الآن نتيجة كلفة العدوان، رغم الدعم الأميركي بالمليارات، ولا قوات عربية أو عربية – دولية قادرة على إدارة اليوم التالي في القطاع، وهذا اليوم لن تحدده سوى المقاومة الفلسطينية وجبهات الإسناد، وبعد انتهاء نتانياهو من معزوفة “لا حماس ولا عباس” الخائبة، ما عليه سوى إعلان توقيت نزوحه عن رئاسة الحكومة سواء إلى بيته أو إلى السجن لا فرق..
المصدر: بريد الموقع