نص الخطبة
نبارك لكم ولادة الامام الثامن من ائمة اهل البيت(ع) وهو الإمام علي بن موسى الرضا (ع) الذي كانت ولادته المباركة في 11 من شهر ذي القعدة من سنة 148 للهجرة.
ألإمام الرضآ(ع) هو من الأئمة الذين أتاحت لهم الظروف السياسية نشر معارف الإسلام وعلوم اهل البيت في العالم الاسلامي.
وقد جمعت المسائل التي أجاب عنها فبلغت “خمس عشرة ألف مسألة” وفي رواية “ثمانية عشر الف مسألة”
وقد تحدث الإمام(ع) عن ذلك فقال : ” كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إلي بأجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجيب عنها ”
وينقل احد أصحابه، وهو إبراهيم بن العباس، فيقول: «ما رأيت الرضا يُسأل عن شيء قطّ إلا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوَّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلِّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كله وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن ـ بمعنى أنّه كان يستوحي آيات القرآن في كل ما يُسأل عنه وما يجيب فيه من اجل ان يربط الناس بالقران ليتعلموا منه ويعودوا اليه في كل شيء لان القران فيه تبيان لكل شيءـ وكان يختمه في كل ثلاث (ثلاث ليالٍ) ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكني ما مررت بآية قطّ إلا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أنزلت، وفي أي وقت، فلذلك صرت أختمه في كلّ ثلاث».
وقد بدأ بهذا الدور العلمي في مسجد رسول الله(ص) في المدينة، في مطلع شبابه وربما كان عمره الشريف لم يتجاوز العشرين سنة.
لقد ظهرت في عصر الامام تيارات منحرفة كالإلحاد والزندقة والغلو والتناسخ كالتجسيم، والتشبيه، والجبر، والتفويض كان هدفها إفساد ثقافة المجتمع ومحاربة الإسلام باسم الإسلام ، وبعض هذه التيارات كانت تدعمها جهات وحركات سياسية على علاقة باعداء الاسلام، تماما كما هي الحال اليوم التي يحاول فيها الغرب ان يغزوا عقول وقلوب شبابنا وفتياتنا والاجيال بافكار وشبهات فاسدة يراد من خلالها حرفهم عن دينهم وقناعاتهم وخياراتهم الصحيحة.
الامام الرضا(ع) كان يواجه هذه المحاولات في عصره وكان يتصدى للافكار والطروحات الوافدة من خارج العالم الاسلامي، وبعدما تولى(ع) ولاية العهد سنحت له الفرصة ان يقوم بدور رسالي وان يتصدى للتيارات الملحدة وطروحاتها التي لا تنسجم مع المبادىء والمفاهيم والقيم الاسلامية، وكثرت حواراته مع اتباع المذاهب الاخرى، وكان في كل حواراته وحججه يتبع الاسلوب العلمي العميق الذي يتناسب مع مستوى الثقافة في عصره، لأن الأئمة ـ كالأنبياء (ع) ـ إنما يكلمون الناس على قدر عقولهم ، فكانوا يكلمون كل شريحة بمستوى فكرها ووعيها وبشكل هادىء بعيدا عن التعنيف .
اننا نستوحي من اسلوب الامام وكيفية معالجته للمسائل الفكرية او المسلكية الاسلوب الهادىء المتين المقنع، وهذا هو الاسلوب الذي يجب ان نتبعه مع الذين لديهم شبهات او شكوك، ان نعتمد الحوار الهادىء البناء المقنع بعيدا عن الصراخ والضجيج والشتائم وتوجيه الاهانات، وهذا الاسلوب يجب اعتماده حتى ابنائنا او ازواجنا او اصدقائنا عندما نريد ارشادهم وتوعيتهم وتنبيههم على اخطائهم، ان نعتمد اسلوب الاقناع الهادىء لا اسلوب العنف والضرب والصراخ فان مثل هذا الاسلوب لا يوصل الى شيء بل يعقد الامور.
الانسان المتدين الذي يتجمل مسؤولياته ويقوم بواجباته، والناس تمدحه لتدينه والتزامه ، لا ينبغي ان يكون في داخل بيته قاسي القلب، كثير الصراخ على كل كبيرةٍ وصغيرةٍ، او يتعامل بالعنف مع اولاده او زوجته، فلا يتفهمهم ، ولا يستوعبهم، ويقسو عليهم، ويرى دائمًا نفسه على صوابٍ، ويقول: يا ليت كلّ الناس مثلي.
الانسان المتدين يجب أن يكون رحيمًا رفيقًا مع أولاده، ورحيما مع اهل بيته، فالحزم ليس بالقسوة، بل الرفق في موضعه أنفع، وأحسن، وأحب إلى الله من الشدة، ففي الحديث عن النَّبِيّ (ص)أَنَّه قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ، يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ.
الامام الرضا(ع) كان يتبع هذا الاسلوب ويكلم الناس بهدوء وعلى قدر عقولها، ويعاشر الناس ويتعامل معهم باخلاق الاسلام، بالرحمة والرفق والتواضع والاخلاق الحسنة.
يقول إبراهيم بن العباس واصفاً أخلاق الإمام الرضا(ع) وتواضعه وحسن معاشرته لمختلف طبقات الناس : “ما رأيت الرضا جفا أحداً بكلام قطّ، ولا رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتَّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه، ولا رأيته تفل قط ـ أمام الناس ـ ولا رأيته يقهقه في ضحكه، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصب مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتى البوّاب والسائس، وكان(ع) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصّبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر. وكان كثير المعروف والصدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ـ فكان(ع) يدور على بيوت الفقراء، ويعطيهم الصدقة من دون أن يعرفوه ـ فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدّقوه”.
وكان من تواضعه (ع) أنه دخل الحمام فقال له بعض الناس : دلكني فجعل يدلكه ، فإذا بالناس يدعون الرجل يعرّفونه بالإمام ، وإذا الرجل جعل يستعذر منه ولكنه يطيب قلبه ويستمر في تدليكه .
ويروي رجل من أهل بلخ رافق الإمام في سفره إلى خراسان ويقول : دعا يوماً بمائدة له فجمع مواليه من السودان وغيرهم ، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة ، فقال : مه إن الرب تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد ، والجزاء بالأعمال .
وكان يكره لغلمانه أن يقوموا له احتراماً عندما يكونون على الطعام ويقول : ” إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون ، فلا تقوموا حتى تفرغوا “.
وكان عظيم الحلم والعفو والتسامح حتى مع من أساء اليه، ويذكر المؤرخون من حلمه أن قائداً من أتباع بني العباس يسمى بـ ( الجلودي ) أمره هارون الرشيد بأن يذهب إلى المدينة ويسلب نساء آل أبي طالب ، ولا يدع على كل واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً ، فذهب الرجل وفعل ذلك فغضب الإمام الرضا (ع) غضبا شديدا لكن في زمن هارون لم يكن باستطاعة الامام ان يفعل شيئا،الى ان جاء زمن المأمون ابن الرشيد فعهد إلى الإمام الرضا(ع) بولاية العهد وفرض على الجميع مبايعة الامام بولاية العهد فاعترض ذلك الجلودي ورفض بيعة الإمام فغضب عليه المأمون ، وأراد ان يقتله بعد أن قتل اثنين قبله فلما حضر أمامه توسط له الإمام الرضا عند المأمون وقال : ” يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ ” . فظن الجلودي أنه يحرض عليه ، فأقسم الرجل على المأمون ألا يقبل قول الامام . فقال المامون والله لا أقبل قوله فيك ، وأمر بضرب عنقه .
وكان الامام مثالا في العطاء والسخاء والكرم . وكان من آدابه في الصدقات أنه إذا جلس للأكل أتى بصفحة فتوضع قرب مائدته ، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيوضع في تلك الصفحة ، ثم يأمر بها للمساكين ويذكر المؤرخون انه وزع بخراسان ماله كله في يوم عرفة ، فقال له الفضل بن سهل : إن هذا لمغرم ( يعني ثقيل عليك ولماذا تحرم نفسك من كل المال؟!)، فقال (ع) : ” بل هو المغنم ، ولا تعدن مغرماً ما اتبعت به أجراً وكرماً ” .
وكان إذا أعطى أحداً سعى أن لا يذله او يراق ماء وجهه ، وسيرته في ذلك تعلمنا كيف نجعل صدقاتنا خالصة لوجه الله وابتغاء مرضاة الله لا نمن فيها على احد.
يروي احد اصحابه فيقول : ( كنت في مجلس الرضا (ع) أحدثه وقد اجتمع إليه ناس كثير يسألونه عن الحلال والحرام ، إذ دخل عليه رجل طويل من خراسان، فقال له : السلام عليك يا ابن رسول الله ، انا رجل من محبيك ومحبي أبائك وأجدادك (ع) مصدري المالي الوحيد من الحج ، وقد فقدت مالي ونفقتي وما معي ما اعود به الى بلدي ، فانا اطلب أن تعطيني ما يكفيني للعودة الى وطني واتعهد لك بانه إذا وصلت الى بلدي ان اتصدق عنك بالمقدار الذي اعطيتني اياه ، فانا لست بحاجة الى صدقة ولكن انقطعت من المال في سفري فقال الامام له : إجلس رحمك الله ، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا ، وبقي بعض اصحابه فاستأذنهم ودخل الى غرفته الخاصة ورد الباب ، ووبعد وقت قصير مد يده من وراء الباب وقال : أين الخراساني ؟ فقال : ها أنا ذا فقال : خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك ولا تتصدق بها عني ، وأخرج فلا أراك ولا تراني .
ثم خرج فقال له احد اصحابه : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت ، فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال : ” مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه ،أما سمعت حديث رسول الله (ص) : “المستتر بالحسنة ، تعدل سبعين حجة ، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له “.
هذا السلوك وهذه الاخلاق ليست تاريخا فقط او شعارات نذكرها للاستهلاك او لتمجيد ائمتنا وبيان عظيم فضلهم وكرمهم واخلاقهم فقط، بل نذكرها لنجعلها منهج حياة واسلوب حياة ونذكرها لنجسدها في سلوكنا، ولنقدم بذلك النموذج الاسلامي الاصيل عن اخلاقنا وقيمنا ونموذجنا الحضاري والانساني في مقابل النموذج اللاانساني الذي يجسده الغرب واميركا والعدو الصهيوني في سلوكهم المتوحش مع الناس الضعفاء .
دعم اميركا والغرب للعدوان الصهيوني الوحشي على غزة فضحهم وكشف زيف ادعاءاتهم حول الحرية والقيم والاخلاق وحقوق الانسان بل كشف انهم وحوش على صورة بشر.
ولا يجوز ان ينخدع العالم بالنفاق الامريكي الغربي الذي يبدو في الظاهر انه يعارض استمرار العدوان لا سيما الهجوم على رفح، وانه جمد ارسال السلاح الى الكيان الصهيوني، فهذه مسرحية هزيلة ونفاق مكشوف، فالسلاح الامريكي لا يزال يتدفق الى الكيان الصهيوني، والادارة الامريكية التي ضمنت الاتفاق الاخير الذي وافقت عليه حماس سرعان ما بلعت لسانها بعد ان رفض نتنياهو الاتفاق، وخففت من موقفها الداعم للاتفاق نتيجة ضغوط داخلية وبدفع واضح من اللوبيات الصهيونية .
الخداع الامريكي لا ينبغي ان ينطلي على احد والخلاف الامريكي الاسرائيلي ليس على اهداف العدوان وانما على بعض تفاصيله، حيث لا يزال نتيناهو يأمل بتحقيق اهدافه والحاق الهزيمة بحماس بينما بات يعتبر الامريكي ذلك مستحيلا.
اليوم المقاومة في غزة لا زالت تحتفظ بقدراتها وتملك الكثير من عناصر القوة وهي تواجه العدو بكل شجاعة وثبات في رفح وفي جباليا وعلى امتداد القطاع وتلحق به خسائر كبيرة.
ويجب ان يعرف العدو ان ما عجز عن تحقيقه خلال ثمانية اشهر في عز اندفاعة جيشه وفي عز تاييد اميركا والغرب له لن يتمكن من تحقيقه اليوم بعدما تبدلت الكثير من ظروف الحرب. وكل حقائق الميدان تدل على ان الحاق الهزيمة بالمقاومة هو امر مستحيل لا يمكن ان يحصل، فهذه المقاومة من خلال صمودها وثباتها وعملياتها في شمال القطاع اعادت العدو الى نقطة البداية، وهي تثبت كل يوم انها قوية ومقتدرة وراسخة واكثر استعدادا للمواجهة واقرب الى تحقيق الانتصار ، خصوصا انها ليست لوحدها وانما الى جانبها محور يمتد من لبنان الى اليمن يساندها ويرفع من وتيرة واساليب دعمه لها وضغطه على العدو .
اليوم المقاومة الاسلامية في لبنان التي تشكل احد الجبهات المساندة لغزة تضغط بقوة على العدو من خلال مستوى ادائها الميداني وعملياتها النوعية وصواريخها ومسيراتها الانقضاضية التي تقتحم المواقع الصهيونية في شمال فلسطين والجولان ونجاح المقاومة بإسقاط منطاد المراقبة والتجسس والوصول بالمسيرات الى العمق الاسرائيلي للتصوير وجمع المعلومات هو تطور نوعي وانجاز كبير اربك العدو وزاد من صراخ المستوطنين الذين باتوا يعتبرون انهم خسروا الشمال ، وهذا كله يؤكد اهمية وتأثير هذه الجبهة وحجم الضغط الذي باتت تمارسه المقاومة على العدو لردعه ووقف العدوان.
المصدر: بريد الموقع