لسنا بوارد مناقشة الشؤون الدينية في وثيقة “الأخوَّة الإنسانية” بين أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، التي وقَّعها البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر أحمد الطيب، خلال زيارة بابا الفاتيكان لدولة الإمارات عام 2019، وتمّ على أثرها بناء “بيت العائلة الإبراهيمية” في مدينة أبو ظبي، وهو مجمَّع ديني، يضمّ كنيس “موسى بن ميمون”، وكنيسة “القديس فرنسيس”، ومسجد “الإمام الطيب”. ولا نحن بصدد التطرُق الى التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، تحت عنوان “الإتفاقيات الإبراهيمية” والتحاق الإمارات والبحرين والمغرب بركب التطبيع للإنضمام الى مصر والأردن، مع فرملة سعودية “بانتظار قيام الدولة الفلسطينية كشرطٍ مُعلنٍ للتطبيع”.
وبصرف النظر عن ذهاب بعض الدول العربية المذكورة للتطبيع، تحت أي عنوانٍ كان، سواء كان جلباب هذه الدولة أنها من “دول الإعتدال العربي” وأن خطوتها تخدم القضية الفلسطينية، أو كانت مظلة تلك الدولة “وحدة الديانات الإبراهيمية”، فإن الجلباب ملطَّخ بدماء عربية منذ العام 1948 وحتى هذا التاريخ، أما المظلة فما هي سوى قلنسوة يهودية تكسو الرأس الصهيونية.
كل ما هو ثابت، أن التطبيع قد حصل مع كيان صهيوني وليس يهودي، بدليل أن جماعات كثيرة، دينية وعلمانية من اليهود داخل الكيان وفي الخارج الأميركي والأوروبي، تتنكَّر له وتنبذه، لا بل تعتبره مخالفاً للشرع اليهودي وللتوراة ولوصايا الله، واليهودية التي عمرها آلاف السنوات، تعتبر الصهيونية بدعة عمرها قرن واحد، والهدف منها إنشاء دولة مدنية آمنة لليهود، كان مقرراً لها أن تكون في أوغندا، وحصل ما حصل في وعد بلفور، فكانت أرض فلسطين المستباحة بريطانياً لتكون دولة لليهود على حساب أهل الأرض من الفلسطينيين.
واليهود الصهاينة الذين قدموا إلى فلسطين المحتلة عام 48، كانوا يحملون حقداً على النازية لأسباب معروفة، ويحملون حقداً على الأوروبيين نتيجة تعامل هؤلاء معهم بعنصرية رافضة لوجودهم، لكن أن يحملوا معهم من الغرب أحقاداً على العرب، فهذا ما يبدو مستغرباً للوهلة الأولى، لولا أن الفكر الصهيوني زرع في عقولهم أن فلسطين هي أرض الميعاد، وأنهم يعودون إليها بعد غيابٍ دام ألفي عام!
وإذا كانت الترجمة العربية للنشيد الوطني “الإسرائيلي” صحيحة، فهنا الكارثة في عدم إجادة العرب حتى للغة العربية، وإذا لم تكن هذه الترجمة صحيحة فالكارثة أكبر في النسخة العبرية، ونضع بين يديّ القارىء النصَّين المذكورين، ويمكنه استخدام أي محرك بحث للإطلاع عليهما بسهولة.
النص المترجم إلى العربية يقول:
“طالما تكمن في القلب نفسٌ يهودية،
تتوق للأمام نحو الشرق،
أملنا لم يُصنع بعد،
حلم ألف عام على أرضنا،
أرض صهيون وأورشليم،
ليرتعد من هو عدو لنا،
ليرتعد كل سكان مصر وكنعان،
ليرتعد سكان بابل،
ليخيِّم على سمائهم الذعر والرعب منا،
حين نغرس رماحنا في صدورهم،
ونرى دماءهم تُراق،
ورؤوسهم مقطوعة،
وعندئذٍ نكون شعب الله المختار، حيث أراد الله”.
وإذ ينكر دُعاة الدفاع عن الكيان الصهيوني صحَّة هذه الترجمة، وأن اليهود قدموا إلى فلسطين المحتلة ولا يضمرون للعرب أية أحقاد، وأن الترجمة العربية فيها تحريف لهذا النشيد، نشروا ما يعتبرونها الترجمة الحقيقية للنشيد العبري الذي يقول:
“طالما كان في القلب داخلنا،
روحٌ يهودية ما زالت تتحرق شوقاً،
وما دام صوب نهاية الشرق،
عينٌ ما زالت تتطلع نحو صهيون،
فأملنا لم ينتهِ بعد،
أمل الألفي عام،
أن نصبح أحراراً في أرضنا،
أرض صهيون وأورشليم…”
ولو سلَّمنا جدلاً بتوجُّهات مَن يدعُون لوحدة الديانات الإبراهيمية، خاصة بين حفيديّ إبراهيم، إسحق واسماعيل، وأن اليهود هم أبناء إسحق، والعرب أبناء إسماعيل، وأن العرب أخذوا بهذه المقولة وقاموا بالتطبيع على أساسها ولكن، الصراع العربي “الإسرائيلي” ليس خلافاً بين إسماعيل العربي مع إسحق اليهودي على قطعة أرض منذ العام 1948، بل هي بين قايين الصهيوني وهابيل العربي، على حقوق وطن مغتصب بكامله، قايين، الذي وثقت الروايات التاريخية حجم إجرامه بحق شقيقه هابيل، وهنا نكون قد وصلنا إلى خلاصة الإستنتاجات، أن المشكلة الفلسطينية / العربية ليست بين أبناء الديانة الإسلامية واليهود كديانة، بل هي مع البدعة الصهيونية التي تدَّعي زوراً بأن فلسطين هي أرض الميعاد لليهود.
على أية حال، وسط العدوان الصهيوني على قطاع غزة منذ سبعة أشهر، وصمود المقاومة الفلسطينية مدعومة من جبهات الإسناد في محور المقاومة، نقتطف نتائج هذه الحرب مهما كانت نتيجتها على الأرض، بأن مصير “إسرائيل” بنظر اليهود لن يكون على ما يرام.
من هؤلاء اليهود “جاك روزن”، رئيس الكونغرس اليهودي-الأميركي، الذي يقول:
“منطقة الشرق الأوسط استفادت من السلام النسبي والازدهار المتنامي، الذي بشَّرت به اتفاقيات أبراهام، الموقعة بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية، وعلى رأسها المغرب والإمارات والبحرين، لكن هذه الاتفاقيات قد تكون حجر الدومينو الذي سيتم إسقاطه في حال حدوث مزيد من التصعيد بين “إسرائيل” وحماس، أو في حالة تزايد الضغط الشعبي المحلي على الدول الإقليمية المعنية.
وأضاف روزن، في مقالة له في مجلة “تايم” الأميركية الأسبوعية: “من المأساة أن الدولة اليهودية مازالت تواجه تهديداً وجودياً حقيقياً في عصر اتفاقيات أبراهام”.
وأضاف “روزن”، إلى أنه “في وقت تجد الدولة اليهودية نفسها في معركة وجودية يومية، مازال من الممكن أن تخرج عن السيطرة، يمكن أن يبدو المستقبل مفهوماً مجرداً وترفاً فكرياُ، لا يستطيع القادة الإسرائيليون تحمُّل مناقشته، لكن من الضروري أن تنظر “إسرائيل” وحلفاؤها إلى الأفق، فإذا علمتنا الأحداث الأخيرة أي شيء، فهو أن مستقبل “إسرائيل” ليس نتيجة ضائعة وأن هذه الدولة ليست مؤكدة”.
ويرى “روزن”، أن الكلمة ليست واحدة للميدان في حرب غزة، وليس أكبر مما يدور على المتاريس سوى ما يدار في الكواليس من سياسات وسيناريوهات عن متغيرات راديكالية عميقة، ليس فقط في فلسطين وداخل الكيان الصهيوني بل أيضاً في المنطقة والعالم. متغيرات جيوسياسية واقتصادية واستراتيجية، سواء بقيت الحرب محصورة في القطاع، و”المساندة” محدودة عبر “وحدة الساحات” أو توسعت لتصبح حرباً شاملة، وأحد الأسئلة المطروحة هو: إلى أي حد تأثرت “اتفاقات أبراهام” بالتوحش الإسرائيلي في الهدم وقتل الآلاف من النساء والأطفال وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين حتى داخل المستشفيات؟.
قد يكون “روزن” على حق، أن إتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني لم تؤثر ولم تتأثر، لكنها ما خدمت فلسطين يوماً، لا بل شجعت العدوان على مزيدٍ من العدوان ولكن، دول التطبيع هذه لم تتمكن أيضاً من كمّ فوهات بنادق المقاومة، وشأنها في المواجهة شأن جامعة الدول العربية التي ما اعتمدت عليها المقاومة الفلسطينية وكل حركات المقاومة، وما على الجامعة مستقبلاً، سوى البحث عن مصير الإتفاقات الإبراهيمية التي سقطت في أنفاق غزة، وهي لن تكون أقوى من “عميدة الإتفاقات” كامب دايفد، التي باتت موضع تساؤل حول ديمومتها بعد ملامسة العدو الصهيوني محور فيلادلفيا واجتياح معبر رفح وبدء الحديث عن إحتمال تسليمه لشركة أميركية أمنية خاصة، في اعتداءٍ مشترك على السيادتين المصرية والفلسطينية.
الموقع غير مسؤول عن مضمون المقال وهو يعبّر عن رأي كاتبه فقط
المصدر: موقع المنار