جعفر خضّور
جاءت العملية الإيرانية المركّبة والمباركة في سياق الرؤية الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية، والتي تتمثل في إزالة “إسرائيل” من الوجود وهي قد تكون في مسبباتها الظاهرة رد على استهداف العدو الصهيوني للقنصلية الإيرانية في سورية واستهداف القادة والمستشارين العسكريين فيها، وهي بطبيعة الحال حق مصون بالاتفاقات الدولية والاستخدام الشرعي للقوة في الدفاع عن النفس. لكن في حقيقة الأمر للعملية أبعاد متعددة ومتنوعة يمكن القول وفي ضوءها أننا أمام تحوّل تاريخيّ كبير، يجعل إيران تنتقل من مرحلة الصبر الاستراتيجي للردع الاستراتيجي، وهي بذلك تكون قد أطاحت بجهد عقد من الزمن سعت فيه “إسرائيل” إلى منع تطور قدرات المقاومة في المنطقة، إلا أن ذلك لم ينجح عملياً وهو ما أكدته ورسخته معركة طوفان الأقصى بمبادرتها المُقاوِمة. لذا فإن هذه العملية في الشكل والمضمون، لها بعدين أساسيين، الأول عملياتي تجلّى في مشاغلة أنظمة الدفاع الجوي الغربيّ ومساعده الإقليمي العربي وهو ما ينم عن تطور تقني إيراني كبير أدخل العدو الصهيوني في دوامة من اللا متوقع. والبعد الثاني هو البعد الاستراتيجي والذي برأيي فتح فصلاً جديداً في تصدّع الكيان المؤقت بالدرجة الأولى، و بالدرجة الثانية، التأثير الذي يجب أن ينعكس على السلوك الصهيوني تُجاه سورية، كونه لا ينفصل بشكل أو بآخر عن استراتيجية “المعركة بين الحروب” والتي كان قد بدأ فيها مطلع الحرب الإرهابية على سورية. والذي أرى بتقديري، أنها تخلخلت روافعها بشكل عملي بناءً على تطورات معركة طوفان الأقصى وتفاعل بقية جبهات محور المقاومة وفق مبدأ “المنهج التعددي” الذي يعني أن كل جزء من القضية الواحدة يتطلب تعاملاً مختلفاً عن غيره من القضايا وفق الإمكانات المتاحة.
في الخلاصة:
– العملية الإيرانية هي حق مشروع وشرعي ومستحق رداً على الصلافة الصهيونية الإرهابية التي وصلت لأقصى درجات الوقاحة والعربدة، و تأتي أهمية العملية من كون إيران حشّدت وبدبلوماسية رفيعة الرأي العام الدولي في إبراز السلوك العدائي للكيان الصهيوني الذي انتهك اتفاقية فيينا 1961 المتعلقة بحماية مقرات البعثات الدبلوماسية باستهدافه للقنصلية والتي تعتبر أرضاً إيرانية، أي اعتداءً على (دولة عضو)في هيئة الأمم المتحدة. من جهة أخرى أصبغت على الرد ذاته صفة احترام “القانون الدولي الإنساني” حيث أنها لم تستهدف منشآت مدنية أو سكاناً بالمعنى المعترف عليه في القانون المذكور، بل اقتصرت على الأهداف العسكرية. بما سبق ذلك من إنذار على مستوى المنطقة بأن العملية ليست تصعيداً، بل رداً على جريمة الكيان الصهيوني، ما يجعل العملية متكاملة الأركان والشروط وينأى بإيران عن محاولة متشدقي “حقوق الإنسان و الأمن و السلم الدوليين” بالتمسك بهذه الشماعة، التي ما زاد النداء بها من قبل الدول الغربية إلا توغلاً إسرائيلياً في دماء الشعب الفلسطيني و وفر تبريراً لقيام “إسرائيل” الغير شرعي على أرض فلسطين التاريخيّة، فالعملية تدخل ضمن مفهوم “الدفاع عن النفس” الذي نصّت عليه المادة /51/ من ميثاق الأمم المتحدة، والتي جاء فيها:
“ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحقّ الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوّة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي..”.
وإيران مارست جهدها الدولي في تحصيل إدانة من مجلس الأمن للعدوان والتحرُّك للتعامل مع حجم الاعتداء، ألا أنه اصطدم بمعارضة دولتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن (بريطانيا، فرنسا). من جهةٍ أولى، يشترط في “الدفاع عن النفس”:
١- التناسب بين الفعل الضارّ والفعل المشكّل للدفاع الشرعي، وألا يتجاوز الحدود المعقولة لردّ الاعتداء، كأن تُنتهك قواعد الحرب أو يُقتل المدنيين على النحو الذي نوثّقه جميعاً في سلوك الإبادة الصهيوني.
٢- إضافةً إلى أن هذا الحق قد حُصِر في حدود ردّ العدوان فقط، من دون التوسّع باستهداف أهداف أخرى. وهو ما حصل فعلاً. فطبيعة الأهداف عسكرية، ولم تستهدف المشافي أو المساكن البشرية، ولا المنشآت المدنية. ما يعطي صبغة الشرعية الدّوليّة للرّد الإيراني، وهو ما لم تحترمه “إسرائيل” التي اعترف فيها الميثاق ذاته بأنها “دولة” وخالفت كل روح الميثاق في حربها الانتقامية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023.
– في الجوهر تؤكد على الدور الإقليمي الأساسي الذي تباشره إيران في الوقوف لجانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ودعم صموده في كلّ فصول حرب الإبادة الجماعية على غزة.
– التحوّل يتمثل في حجم الرد الإيراني وكمه ونوعه وحالة القلق العارمة التي عاشها الكيان الصهيوني وداعميه. وبالأخص استهداف قاعدة “نفاطيم” ذات المدرج البالغ طوله 3400 م، والتي تعد القاعدة والحظيرة الرئيسة لانطلاق مقاتلات F35. التي استهدفت القنصلية بدمشق.
– استطاعت أن تؤكد صرامة وجدية القرار الإيراني، والذي اتسم خلال فترة طويلة بالصبر، والردود التي طالت المصالح الحيوية لأمريكا في المنطقة.
– العملية كما قلنا، في عمقها تأكيد لدور إيران الفاعل في دعم حركات المقاومة والتحرر، وهو ما سيكون له تغذية راجعة تتمثل في التطور النوعي المتصاعد بأداء المقاومة في المنطقة.
– لم تتسم العملية بعنصر المباغتة، ألا أنها استطاعت أن تخلق حالة ترقّب لرد حتمي، ما أعطى للحرب النفسية وقع خاص، وآثار اقتصادية، وسياسية متباينة على مستوى القرار في الداخل الإسرائيلي.
– معادلة جديدة تجعل استراتيجية “المعركة بين الحروب” على المحك، الأخيرة التي سعت لمنع وصول السلاح الكاسر للتوازن إلى سورية ومن ثم لبنان.
– تظهير حقيقة التحالفات التي أقامتها “إسرائيل” مع الأنظمة العربية، هذه الحقيقة التي برهنت أنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فكيف لها أن تحمي هذه الأنظمة وهي تجعل منها أداةً لتسويق قوتها المزعومة. كما أنها أضرّت بالردع الأميركي والسور الواقي العربي الذي جعل من نفسه واجهة إسرائيلية. وخلقت حالة استنفار كبيرة على مستوى الشرق الأوسط.
“الوقوف مع الحق شرفٌ، لا يمنحه الله لذليل.”
المصدر: بريد الموقع