شعوذة الحروب عادة تطرق الطبول الفارغة من ماهيتها … و مهما كانت الحرب لهدف سامي ، إلا أنها تغدو بعد حين قوقعة تضج بالدماء بين ظالم و مظلوم ، فأخطر ما فيها هي حالة الانفجار اللاأخلاقي التي يتبناها طرف على حساب طرف ثانٍ في الحرب … .
ولعل ما يمكن أن يُكتب يوماً عن نوعية الحروب المشتعلة في بلادنا اليوم أنها من النوع الغبي التي لا يتعادل فيها الحق و لا المُعطى و لا الأداة … فحروبنا الآن تستهلك أجسادنا و أرواحنا … تأخذ من أرحامنا جيلاً كاملاً لا ينتظره مستقبلاً و لا يتمتع بحاضر… و مع أن الحق حقنا … إلا أننا من يدفع الثمن و المعتدي ً يبازر عليها ً …
أطفالنا … في الواقع هم ليسوا أطفالا إلا بالاسم ، فلا حقوقهم ظلت و لا أحلامهم خرجت من صدورهم ، بل رافقوا الكبار و تشاركوا معهم خوفهم و جوعهم و معاناتهم الحياتية و تمزقاتهم النفسية ، و بات الصغير يعاني تقرحات الكبير … فإذ به بمكان لا يتناسب مع قامته الصغيرة ، و لا جرح بنقاء قلبه …
في الواقع هم كبار بما يكفي ليتمزقوا و يصبروا و يكابروا على تعب أجسادهم الضئيلة …
هم ذاتهم الذين بُذلت على حجتهم الملايين و الملايين برعاية دولية ومنظمات إنسانية .. ولكن الجدوى الوحيدة التي حصلوا عليها هي مظلات على شكل خيم تأوي طفولتهم … و صناديق تبرعات لتمرير بعض ً اللُقيمات ً إلى بطونهم الجائعة … و لافتات الدعوة إلى انصاف الطفولة و التي تتحول لاحقا إلى طائرات ورقية يسد بها الطفل رمق شغفه للعب ..
حدث بالفعل خلال الحرب على سورية أن غفا الأطفال على الطرقات .. و تشرد الصغار بين الأزقة .. و انهارت أخلاقيات السلوك الطفولي تباعا و نتيجة و عاقبة …
حدث هذا على مرأى من العالم الإنساني الدولي الذي هو ذاته من أنشأ منظماته للدفاع عن حقوق الطفل .. و لكن و رغم محاولاتهم بالمضي بذلك الهدف وجدوا أنفسهم .. لا بل وجدنا أنفسنا جميعا ممن عمل يوما في جمعية أهلية عاجزين تماما عن إعطاء صفة الطفولة لطفل .. أو إخراج أطفالنا من دائرة العنف النفسي و الجسدي و العقلي الذي أنهك رأسه الصغير ..
لماذا … ؟؟
هذا هو السؤال الذي جوابه معروف و سؤاله مبهم .. فالجواب هو أن طرح فكرة الحماية بعد وقوع الحدث لن يكون مجديا … فرعاية الطفل و تأمين مستلزماته و إحاطة حقوقه بالأمان منذ قدومه للحياة هذا ما يمكن ان يكون حماية … أما وأن تلك الحماية تأتي بعد شريط دموي يعيشه و يشاهده الطفل فهذا يمكن تسميته كل شيء إلا الحماية … قد يكون فقط عبارة عن إنقاذ ما بقي لإنقاذه …
أما السؤال الذي بدا مبهما .. فهو أن ما يواجهه رجال الاسعاف او الدعم او الحماية على أرض الواقع أكبر من توقعاتهم … وكأنها حرب داخل حرب … فهم اليوم في غزة يُحتجزون و يستشهدون و يعيشون ظروفا سيئة كأهل غزة نفسها …
إذا … و بكل جدية … لماذا … لماذا منظمات بهذا الاتساع و الهيكلية الضخمة ، ركيزتها المال و الانتشار .. لا تملك أن تمارس فكرها النظري في الواقع العملي ..؟
أهم ما جاء في اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة … الأمم المتحدة التي مركزها ولايات نشر السلام – بين قوسين – جاء فيها تعريفاً للطفل على أنه أي شخص يقل عمره عن ١٨ سنة . .. ماذا إذا عن عمر الأشهر و قد ابتلت ملاءته بالدم الوردي كوردة أيامه المعدودة
أما في بندها الثاني فقد نصت على أن جميع الأطفال يمتلكون حقهم في الحياة وما يخص الحياة بصرف النظر عمن هم أو أين يعيشون أو … أو … أو …. و هذا تحديداً ما لم ولن تستطع به أن تدافع فيه عن مصداقية مسؤوليها ، فأين ابن غزة اليوم … وابن سورية بالأمس … و أبناء العراق بالأمس الأمس …. و أين هم أولاد جغرافيتنا العربية من أولاد تلك البلدان التي عمّرت حضاراتها من سلب خيرات بلادنا .
فطفلهم المتميز لا يعش حرباً يعيشها طفلنا الجائع المُشرد المُنهك …
و بما يخص إحدى بنودها بأن الطفل هو مسؤولية البالغ و على الأخير أن يبذل جهده للاعتناء بطفله …ً وعلى الحكومات أن تتأكد من أن الأشخاص المسؤولين عن العناية بالأطفال يقومون برعاية الأطفال بصورة جيدة و أن الأماكن المخصصة لتقديم الرعاية هي أماكن مناسبة ً …
بالنسبة للأماكن المناسبة ، فلكل طفلٍ وطن يحق له أن يعيش فيه سالماً آمناً … إذاً الأوطان موجودة ، و لكن ما بالكم بمن قطنها عنوة ، و احتلها كسراً ، و مزقها و مزق ترابها من تحت أقدام أطفالها الحفاة العراة بعد أن كان لهم كل الحق في العيش فيها غافين على صوت الليل الساكن …!!
و للحق فإن الاتفاقية لم يفوتها بند خاص بإجراءات تطبيق الحقوق على أرض الواقع و مطالبة الحكومات بتنفيذ تلك الإجراءات بحرفية .. إذاً … كيف ؟ … حقاً كيف …. ؟ و تلك الحكومات و التي اعتدت -ولاياتهم المسالمة -على أراضيها …كيف سيكون لديها الطاقة الاقتصادية و التربوية و الحياتية لتطبيق حقوق صغارها و كبارها على السواء إن كانت أوطانها تطفو على بركان حروبٍ لا يتوقف … بركان جلب معه الفساد و التراجع الأخلاقي و الانتهاك اليومي الذي يُسجل حوادث عنيفة في كل مرابط الدولة التي عاشت الحرب الطويلة … او عاشت احتلالاً يسابق التاريخ بأيامه و عنوانه العريض .. الاحتلال الصهيوني الدنيء …
تطول قائمة حقوق الطفل و يقصر لا بل يكاد يختفي خيط تطبيقها .. و بالأخص ذاك الحق بالهوية .. بامتلاك هوية يحاول الجبناء الطغاة الخونة عرباً كانوا أو سواهم أن يطمسوها .. هوية الحق .. هوية القضية … هوية فلسطين .. الجولان … هوية اللواء . . فكل طفل عربي هناك هو عملياً بلا هوية مُعترف بها من المجتمع الدولي ، فقط لأن أحداً لا يجد فيها مناطق عربية مُقتطعة … و قدس مسلوب مُنتهك … و يعتبرونها بلدان لا تستحق التطور و يحق للأقوى سلبها ..
الآن و قد تم ممارسة هواية انشاء الجمعيات و انتشار المنظمات و بعثرت المعونات هنا وهناك … الآن و قد استشهد المسعفون و خُطف المنقذون التابعون لتلك المنظمات … الآن وقد فقد طفل غزة كل مقومات التنفس …. هل ستجد الأمم المتحدة مخرجاً لإثبات صدق نواياها و اتفاقياتها … أم أنها في موضع المُتخلي عن جنودها المجهولين و بذلهم رماداً في الحرب دون أن تجد حلاً لتبييض صفحتها … دون أن تنفذ إجراء حماية حقيقي حيال ما يصيب الطفل العربي عموما و أطفال غزة اليوم … دون أن تخرج من قوقعتها التي تُحيكها بمقولة أنها منظمات إنسانية حيادية في حين أنها تملك أن تطبق الإنسانية بحق … و تنتشلها من شيخوختها و فناءها .