الامام المهدي(ع) وبناء الحضارة
نص الخطبة
من الاهداف الاساسية والاستراتيجية التي بعث من اجلها الآنبياء والرسل والكتب السماوية والشرائع والاحكام والقوانين الإلهية هو اقامة القسط والعدل، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
فالهدف الأساسي من ارسال الرسل بالبينات أي بالدلائل الواضحة والبراهين والمعجزات هو القسط والعدل، والهدف الأساسي من انزال الكتاب اي الكتب السماوية الزبور والتوراة والانجيل والقران هو القسط والعدل،وطبعا عبر بالكتاب عن الكتب السماوية لان دعوتها واحدة وهي عبادة الله ، والهدف الأساسي من انزال الميزان اي الأحكام والتشريعات والقوانين الالهية والافكار والمفاهيم الربانية التي هي ميزان ومعيار لقياس الأعمال الصالحة والسيئة هو اقامة القسط والعدل.
اذن الهدف من بعثة الأنبياء والرسل وما جاؤوا به من بينات وكتب وتشريعات هو اقامة القسط والعدل .
والامام المهدي بحسب عشرات بل مئات النصوص والروايات، يخرج في اخر الزمن ليحقق هذا الهدف الذي بُعث من اجله الانبياء والرسل وهو هدف اقامة القسط والعدل في هذا العالم
فعن الإمام علي أمير المؤمنين (ع) أن رسول الله (ص) قال: ” المهدي من ولدي يكون له غيبة وحيرة تضل فيه الأمم يأتي بذخيرة الأنبياء عليهم السلام فيملؤها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ” .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري إن النبي صلى الله عليه وآله قال: المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي يكون له غيبة وحيرة تضل فيه الأمم ثم يقبل كالشهاب الثاقب يملؤها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما “.
وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله قال: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا “.
وبهذا المعنى هناك عشرات الاحاديث التي رواها الصحابة والرواة عن النبي وعن ائمة اهل البيت بحيث ان اقامة القسط والعدل في آخر الزمان اصبحت مقترنة باسم المهدي لانها من ابرز ما يقوم به هذا الامام
وإقامة القسط والعدل تعني اقامة وبناء الحضارة الحقيقية القائمة على اساس الحق والقسط والعدل، واكتشاف الأسرار والكنوز والطاقات والإمكانات التي أودعها الله في الارض والكون .
اليوم الموعود هو اليوم الذي ياتي فيه الامام المهدي(ع) لإقامة الحضارة العالمية والكونية التي يسيطر فيها الإنسان على الموارد والطاقات والإمكانات والكنوز ويحي الارض ويخترق الفضاء وينشر العلم والمعرفة ويبني من خلالها الحضارة الانسانية الحقيقية .
كثير من الناس يظن أن دولة المهدي دولة بدائية وتستخدم الادوات والوسائل القديمة، لأن الروايات قالت بأنه يخرج بالسيف مثلا، او انه واصحابه يخرجون ويقاتلون على الخيول مثلا، او ان لديه ٣١٣ من اصحابه فقط، ولكن السيف هو كناية عن السلاح الذي يمتلكه بمعزل عن نوعيته وتطوره، والخيل كناية عن الوسائل التي يستخدمها الامام، كما ان العدد المذكور لاصحابه هو عدد القادة وليس عدد المجاهدين الذين يقاتلون بين يديه فإن المجاهدين الذين يقاتلون بين يديه أعدادهم كبيرة جدا وليسوا قلة.
الإنسان الذي ادخره الله كل هذه السنين وواكب التطور البشري عبر كل هذه القرون وادخره الله لهذا الدور الكبير والعظيم على مستوى العالم لا يعود إلى الحضارة البدائية، لأن العلم لا يرجع إلى الوراء.
إذن ليست الدولة بدائية تعتمد على طرق بدائية في إدارة الموارد والطاقات والإمكانات والمجالات الصناعية والزراعية وغيرها،وانما الإمام يقيم حضارة كونية تنطلق من الاستفادة من كل الموارد والإمكانات التي أودعها الله في الأرض، ويتميز زمانه بقدرات وامكانات هائلة وغير مسبوقة على كل صعيد.
وهذا ما تشير إليه الايات والروايات التي تدل على ان الارض في زمن المهدي تخرج خيراتها ونباتها ومواردها وكنوزها المخبوءة، وعلى انتشار العلم والمعرفة على نطاق واسع وعلى ان الناس في زمنه يمتلكون قدرات وطاقات مضاعفة وغير مسبوقة .
فعن الامام الصادق في قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ قال: ”أي يحييها الله بعدل القائم عند ظهوره بعد موتها بجور أئمة الضلال.
وعن الإمام علي (عليه السلام): لو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها.
يعني يخرج القائم من آل محمد طاقاتها وكنوزها ويحولها إلى حضارة عالمية.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة .
والروايات في هذا المعنى واضحة على أن عالم المهدي هو عالم الحضارة والعلم والمعرفة.
ففي الحديث عن أبان بن تغلب عن الإمام الصادق قال: ”العلم سبعة وعشرون جزءً وكل ما جاء به الأنبياء جزآن وما عرف الناس غير جزئين فإذا خرج قائمنا أخرج خمسة وعشرين جزء من العلم وبثها في الناس.
وعن أبي الربيع الشامي عن الإمام الصادق يقول: ”لا يكون بين القائم والناس بريد يكلمهم فيسمعونه وينظرونه وهو في مكانه“ اي انه يتحدث في مكانه وكل العالم يشاهده ويسمع صوته، وذلك من خلال وسائل الاعلام والفضائيات وغيرها، وطبعا هذا الكلام في زمان الإمام الصادق.
وعن النبي (ص) انه قال: أبشركم بالمهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وتأمن في عهده حتى البهائم والسباع، ويرضى عنه ساكن السماء كما يرضى عنه ساكن الأرض، وتلقي الأرض إليه بأفلاذ كبدها. قيل: وما أفلاذ كبدها؟ قيل: مثل الأسطوان من الذهب والفضة.
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): إذا قام قائمنا أذهب الله عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا، ويكونون حكام الأرض وسنامها.
ولذلك الذين يعيشون في زمن الإمام ليسوا ضعفاء ولا جهلاء وليسوا متخلفين وانما جميعهم يمتلكون القوة والوعي والعلم والمعرفة.
الإمام زين العابدين يخاطب أبا خالد الكابلي: يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته، المنتظرين لظهوره هم أفضل أهل كل زمان، لأن الله تعالى وهبهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت الغيبة عندهم بمنزلة الشهادة.
إذن الإمام المنتظر(ع) والناس في زمنه يمتلكون علماً ومعرفة وقدرة وامكانات وطاقات وتطورا هائلا على كل الصعد، يستطيعون من خلال ذلك أن يحول الأرض إلى حضارة عالمية، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ يرثون كل كمالات الأنبياء والمرسلين والأوصياء ويرثون كل خيرات الارض وما اودعه الله فيها من امكانات وثروات ويرثون كل تطور وكل شيء كان لدى الامم والشعوب السابقة .
واتوقف هنا عند حديث الامام زين العابدين(ع) لابي خالد الكابلي حيث يروي أبو خالد الكابلي قائلاً: دخلت على سيدي ومولاي علي بن الحسين زين العابدين(ع)، فقلت له: يا ابن رسول الله، أخبرني بالذين فرض الله عزَّ وجل طاعتهم ومودَّتهم، وأوجب على عباده الاقتداء بهم بعد رسول الله(ص) فقال(ع): إن اولي الامر الذين جعلهم الله أئمة للناس وأوجب عليهم طاعتهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين، (ثم ذكر بقية الائمة الى الامام المهدي(ع) الذي تمتد به الغيبة الى ان يأذن الله له بالخروج والظهور) ثم يقول الامام : يا أبا خالد، إنَّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته، والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله(ص) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله عزَّ وجل سراً وجهراً.
فالمؤمنون في زمن الغيبة، أفضل من أهل كل زمان حتى انهم افضل من المؤمنين الذين عاصروا الائمة المعصومين، لأنَّ وعيهم ومعرفتهم بحقيقة الامام المهدي واهدافه وما رسم الله له من دور في اخر الزمان جعلهم يؤمنون به في غيابه كما لو كان حاضرا يرونه، فهم لم يشاهدو الامام ولكنهم يؤمنون بامامته ويحملون مشروعه واهدافه وينتظرون ظهوره كما لو انهم شاهدوه وعايشوه، ولذلك فهم يمهدون الارض لقدومه ويقومون بمسؤولياتهم على مستوى الانتظار، فيعمقون الايمان والاخلاص في نفوسهم، ويدعون الى الله، ويساهمون في بناء مجتمع مؤمن يحمل مشروع الامام ويتجهز ويستعد لحمل الراية معه والجهاد بين يديه ، ويتصدون للطغاة والمستكبرين والظالمين والمحتلين على طريق التمهيد لخروجه وظهوره المبارك، ولذلك هؤلاء بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله(ص).
مجاهدونا في المقاومة الاسلامية في لبنان يواجهون اليوم الاستكبار والطغيان والظلم الامريكي والصهيوني ويخوضون معركة مع العدو الصهيوني دفاعا عن اهلنا وبلدنا ونصرة للمظلومين في غزة، ويقدمون التضحيات والشهداء ، ويثبتون ويواصلون طريق المقاومة في الوقت الذي تخلى الكثيرون عن مسؤولياتهم بالرغم من الضغوط والتحديات والتهديدات ، ولولا إيمانهم بالله سبحانه وتعالى والتزامهم بنهج رسول(ص) وأئمة أهل البيت(ع)، وانتظارهم لظهور القائم(عج) لما سلكوا هذا الطريق، ولما قدموا كل هذه التضحيات، ولذلك هؤلاء هم المخلصون حقاً، والمجاهدون السائرون على نهج رسول الله(ص) واهل بيته(ع) صدقاً، والدعاة بعملهم وجهادهم ومواقفهم وتضحياتهم الى دين الله سبحانه وتعالى، وكذلك المؤمنات المجاهدات من أخواتنا وأمهاتنا وبناتنا ولا سيما عوائل وامهات وزوجات وبنات شهدائنا الصابرات المحتسبات على خط الإمام المهدي(عج)، فهؤلاء ايضا يقدمن ارفع وانبل واسمى مواقف الايمان والثبات والصبر والاحتساب بالرغم من فقد الاحبة وقسوة الفراق، فجزاهم الله خيرا وهنيئاً لهم فهم في جهادهم وصبرهم واحتسابهم أفضل من أهل كل زمان .
اليوم العدو الاسرائيلي لا يزال يتمادى في عدوانه على غزة ولبنان، وهو في غزة يريد الذهاب الى رفح ليبحث عن صورة نصر بين الركام، لكن ما لم يحصل عليه في شمال غزة و خان يونس لن يحصل عليه في رفح، وسيلاحقه الفشل اينما حل في القطاع، ولن يصل الى نتيجة طالما ان المقاومة حاضرة بقوة في الميدان .
اما في لبنان فالعدو ينتهز الفرصة ويزيد من عدوانه ليفرض معادلات جديدة ويحقق ما يريده على الحدود، لكن هذا لن يحصل ولن تسمح به المقاومة، فالمقاومة بردودها النوعية على الاعتداءات ورسائلها الميدانية تفرض على العدو الالتزام بالقواعد وتعيده الى المعادلات القائمة، وهي معنيّة بتثبيت هذه المعادلات لحماية لبنان ومنع العدو من التمادي في جرائمه .
العدوانية الاسرائيلية في غزة ولبنان لا يردعها ولا يسقط اهدافها شيء سوى المقاومة والحضور في الميدان ومواجهة القتل بالقتل والتدمير بالتدمير والتصعيد بالتصعيد، وهذا ما تقوم به المقاومة، واي شيء غير هذا لا ينفع مع العدو، ولذلك على الجميع ان يقف الى جانب المقاومة في هذه المعركة للدفاع عن وطننا وعن المظلومين في غزة الذين يذبحون على مرأى ومسمع من العالم .
العدوالصهيوني لا يزال يهدد ويلوح بتوسيع الحرب على لبنان، ولكنه لا يستطيع ذلك، لانه لا يستطيع تحمل خسائر الحرب، ولا تحقيق أهدافه فيها ، ولكن مع ذلك يبقى هذا احتمالا واردا، والمقاومة استكملت استعداداتها لمواجهة هذا الاحتمال، وهي تملك من الايمان والعزم والارادة والامكانات والقدرات التي يعرفها العدو والتي لا يعرفها، ما يمكنها من الحاق هزيمة جديدة بالعدو تضاف الى سلسلة هزائمه في لبنان.