نص الخطبة
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)
الآية الكريمة تتحدث عن رحلة الانسان الى الله، وعند التأمل فيها نستوحي منها ان هذه الرحلة الى الله هي الهدف والغاية من خلق الانسان، فالهدف من الخلق هو السير الى لقاء الله، ويبدأ هذا السير من النفس والانا وينتهي الى الله، وهذا المسار الى الله هو مسار حركة نمو الانسان ونضجه وتكامله، ولا بد ان تكون هذه الحركة حركة ارادية واختيارية وطوعية وليس قهرية، والا لا يتحقق التكامل للانسان، وهذه الحركة الاختيارية تتطلب الكثير من الجهد والعناء والتضحية (كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا )، والهدف هو لقاء الله (فملاقيه) اي لقاء الله هو نتيجة هذا المسير وهذه الرحلة.
ومنطلق الانسان في هذه الرحلة هو النفس الانسانية (الانا) المحفوفة بالشهوات والمصالح والاهواء والمنغمسة في الدنيا ومصالحها ولذاتها، فان هذه المصالح والملذات تحاول ان تفرض نفسها على الانسان وتمنعه من الصعود الى الله، هذه هي البداية اما الغاية فهي الله، وهذه الغاية تتطلب من الانسان الطاعة لله والتسيلم له والانقياد والرضا بما يرضاه الله
والانسان يتحرك كادحا بين المنطلق والغاية وبين البداية والنهاية.
وهناك العديد من العوامل التي تشد الانسان الى الدنيا وتعرقل حركته الى الله وهي:
– الاهواء والميول النفسية والغرائز والشهوات.
-المغريات مثل الاولاد والنساء والتجارات والاموال.
-شياطين الجن والانس التي تحاول ان تثير الشهوات والمغريات.
واجمل تعبير في القران عن هذا الانشداد قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) فهذه الاشياء من متاع الدنيا هي التي تضغط على الانسان وتشده الى الدنيا وتمنعه من الانطلاق نحو الله والقيام بالواجبات والطاعات والمسؤوليات.
يقول تعالى عنها: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)
هذه الامور من اموال وتجارات ومصالح واملاك واولاد وازواج وذهب وفضة هي التي تشد الانسان الى الدنيا وشهواتها ومغرياتها وتمنعه من العروج الى الله، فانه كلما كان تعلق الانسان بهذه الاشياء وانشغاله بها وبالدنيا اكثر، كلما كان اقباله على الله وطاعته واستجابته لامر الله اقل واضعف.
وطبا لا يريدنا الله ان لا تكون لدينا اموال املاك وتجارات وعيال ومصالح ولا يريدنا ان لا نتنعم بالدنيا وما فيها في الاطار الحلال، ابدا ليس هذا هو المقصود، ما لا يريده الله هو ان تأسرنا الدنيا وما فيها من نعيم وملذات ومتاع فتصدنا عن التحرك نحو الله وتمنعنا من القيام بواجباتنا ومسؤولياتنا وطاعة الله والاستجابة الى اوامره . ما لا يريده الله هو ان تحبسنا الدنيا وتقيد حركتنا نحو الله، لانه احيانا المصالح وحب المال قد يمنع الانسان من الاستجابة لله قيرتكب الحرام ويجمع المال من الحرام، فعندما يتعلق الانسان بالدنيا او بالمال والعيال الى الحد الذي يقف المال او العيال عائقا امام قيامه بواجباته عندها تصبح الدنيا مذمومة لانها تؤدي بالانسان الى الاعراض عن الله وضعف الثقة بالله والاعتماد عليه ﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ ، أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ ).
لا ينبغي للانسان ان تأسره الدنيا وما فيها عن العمل للوصول الى الله، يجب ان يكون المحور في حياة الانسان هو الله وليس التعلق بالدنيا وما فيها، ينبغي ان ينتقل الانسان من محور الدنيا والانا الى محور الله، فيضع نفسه بشكل كامل تحت تصرف احكام الله وارادته ووولايته وسلطانه وامره ونهيه، فينقاد الى الله ويطيعه انقيادا كاملا واطاعة كاملة في كل ما يرتبط بحياته، ويخرج بشكل كامل من محور الانا وسلطانه ومن محور الدنيا وشهواتها ومصالحها، ليدخل في محور الله، فلا يحب الا ما يحبه الله ولا يبغض الا ما يبغضه الله، ويمتثل لامر الله ونهيه مهما كان، ويسلم لمشيئة الله وارادته واحكامه وتشريعاته تسليما كاملا.
وقوله تعالى يعطي تصورا واضحا ودقيقا لهذا المحور ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
اذن من اهم عوامل الارتباط بالله وهذا المحور هو التسليم لله والطاعة لله والالتزام بحدود الله والتقوى والرضا بقضائه والتسليم لارادته وحضور الله في حياة الانسان وحب الله، واذا احب الانسان ربه احبه الله( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )
واذا احب الله عبدا رزقه الله نورا في بصره وسمعه وقلبه وقوة وتسديدا وتوفيقا في اموره كلها.
ففي الحديث عن النبي (صلّى الله عليه و آله) : إنَّ اللهَ تَعالى قالَ: ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبدي بِشَي ءٍ أحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ. وما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى اُحِبَّهُ، فَإِذا أحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ ، ويَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بِها، ورِجلَهُ الَّتي يَمشي بِها، وإن سَأَلَني لَاُعطِيَنَّهُ، ولَئِنِ استَعاذَني لَاُعيذَنَّهُ.
لا يستطيع الانسان ان يتحرر من هيمنة الشهوات والانا والانطلاق الى محور الله الدخول في ولاية الله الا بالتحرر من قيود الدنيا ومتعلقاتها وشهواتها ومصالحها، والوسيلة الى ذلك هي التقوى وذكر الله، كما في وصية علي للحسن(ع):( أوصيك بتقوى الله أي بني ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره).
فالتقوى تمنع الانسان من التمرد على الله وتدفعه لامتثال اوامره واطاعته ، كما ان ذكر الله يشعر الانسان بحضور الله في حياته وبرقابة الله عليه في جميع خطواته واعماله مهما كانت صغيرة.
وهنا الشهداء يقطعون هذه الرحلة من محور الدنيا (الأنا) إلى محور الله بحركة واحدة وسريعة هي الشهادة والتضحية، الشهادة والتضحية تنقل الانسان مرة واحدة من محور الدنيا والأنا إلى محور الله.
الشهادة تنتزع الشهداء انتزاعا كاملا من الأهواء والشهوات والمصالح والاموال والعيال والارزاق والاملاك ومن كل العلاقات التي تربطهم بهذه الدنياوتنقلهم نقلة واحدة الى الآخرة محور ولاية الله .
تنقلهم من حب النفس وحب الدنيا إلى حب الله، تنقلهم من الانهماك في لذات الدنيا إلى الاستغراق في رضوان الله.
هذه النقلة السريعة التي تنقل الإنسان مرةً واحدة من محور إلى محور هي من خصائص الشهادة، والشهيد عندما يسقط شهيدا ينتزع نفسه بحركة سريعة من وسط كل العلاقات والصلات والأواصر التي تشده إلى هذه الدنيا من مال وبنين وعيال وتفكير بمستقبل ومتاع ولذات وشهوات وجاه ومواقع وتجارة ومصالح، وبحركة واحدة يقطع كل هذه الصلات والحبال التي تشده الى الدنيا ويصعد إلى الله.
الشهادة تحرر الانسان من كل القيود التي تربطه بالدنيا وتدفعه الى لقاء الله.
الشهادة هي أقصر الطرق الى الله، والمسافة التي يقطعها عامة الناس بتعثر ومشقة، يتعثر فيها أشخاص ويتساقط فيها اخرون، ويضعف عن السير فيها أشخاص ويقوى عليها اخرون، هذه المسافة يقطعها الشهيد بوعي وبصيرة وقوة وثبات في لحظات قصيرة وبحركة سريعة تنتزعه من الدنيا وتعرج به إلى الله .
الشهداء ينتقلون إلى رضوان الله ويمنحوننا الحياة الكريمة والعزيزة ويصنعون بشهادتهم وتضحياتهم ودمائهم حصانة لوطننا في مواجهة الاطماع والتهديدات المستمرة.
اليوم بعد العدوان على غزة اصبحنا اكثر قناعة بأنّ الخيار الوحيد الذي يحمي بلدنا ومستقبلنا ويمنع العدو من تحقيق أهدافه ، هو المقاومة والمعادلات التي صنعتها، واليوم ما يمنع العدو من تنفيذ تهديداته وتوسيع عدوانه على لبنان هو قوة المقاومة وصواريخها وسلاحها وقدراتها وخبرتها وتجربتها وتصميمها على التصدي لأي عدوان يتعرض له لبنان”.
العدو عاجز عن شن حرب على لبنان والتهديدات التي نسمعها هي حرب نفسية فاشلة لن تخيفنا ولن تثنينا عن مواصلة التصدي لاعتداءاته، والعدو الذي يغرق في رمال غزة ويقف عاجزًا أمام أبطال المقاومة وصمود وثبات أهل غزة، هو أعجز من أن يشن حربا على لبنان او يغير شيئا من معادلات المقاومة .
نحن في حزب الله لن نتهاون في حماية اهلنا مهما كان التضحيات، وقد اعلنت المقاومة بشكل قاطع ان اي اعتداء على المدنيين سيقابل بالمثل، واليوم نؤكد ان المقاومة ترد بشكل مؤلم على الاعتداءات التي تطال اهلنا، وتكبد العدو خسائر كبيرة نتيجة عدوانه، ولن تتردد في الرد الحاسم على اي اعتداءات جديدة .