نص الخطبة
يقول الله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ).
رحلة الإنسان في هذه الحياة هي رحلة كفاح وجهاد وبذل جهد، وليست رحلة راحة واستجمام.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ أي في مشقة ومعاناة، فالإنسان في هذه الحياة يواجه المصاعب والتحديات والاحداث القاسية ويعاني من المشقّة والتعب ومرارة الحياة وتحيط به الآلام والاحزان والمعاناة .
وهذه المعاناة تبدأ من حين الولادة، وتستمرّ إلى حين الأجل والموت، وعلى طول الحياة يعاني الانسان من الكثير من المنغصات والمشكلات، يعاني من الامراض التي قد تصيبه ، ويعاني من مشكلات في محيطه الاجتماعي، مشكلات مع اهل بيته او مع جيرانه او اصدقائه او زملاءه في العمل، او مع شركائه، ويعاني في تحصيل الرزق والمال الحلال وتوفير متطلبات الحياة، ويعاني من ضغط الشهوات والملذات والأهواء والرغبات المختلفة، ويعاني من فقد الاحبة، ويعاني من الاحداث والفتن والحروب والاعداء والظالمين والمستكبرين والمحتلين، وهكذا هناك العديد من المتاعب والمصاعب والتحديات التي تواجه الانسان في حياته.. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾. الانشقاق: 6 والكدح: بذل الجهد وتحمّل العناء، فهو كدح مستمرٌّ إلى الى حين انتقال الانسان الى ربه وملاقاة الله سبحانه وتعالى.
وقد يتصور الإنسان أنّ هناك في الحياة من يعيش الراحة المطلقة وليس لديه هموم ومتاعب ومشاكل، لأن ظاهر حياتهم تدل على انهم يعيشون في راحة تامة، لكن هذا خيال ووهم، لانه لا احد في هذا العالم يعيش راحة تامة ، الإنسان مهما كانت حياته مستقرة في الظاهر ولديه اموال وثروات وجاه ومناصب لا يخلو من هموم ومشاكل ومصائب، عندما تدخل الى تفاصيل حياته ستجد ان لديه متاعب وتحديات في الحياة، صحيح أنّها تتفاوت لكنّها موجودة لدى الجميع، العالم والجاهل، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم. وفي هذا البلد وذاك البلد.
ليس هناك راحة مطلقة في الدنيا، الدنيا محفوفة بالمكاره والعناء، والراحة المطلقة إنما هي في الجنة وليست في الدنيا.
فقد ورد عن النبي (ص): إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَضَعْتُ اَلرَّاحَةَ فِي اَلْجَنَّةِ وَاَلنَّاسُ يَطْلُبُونَهَا فِي اَلدُّنْيَا فَلاَ يَجِدُونَهَا .
وورد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع): اَلرَّاحَةُ لَمْ تُخْلَقْ فِي اَلدُّنْيَا وَلاَ لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا إِنَّمَا خُلِقَتِ اَلرَّاحَةُ فِي اَلْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ اَلْجَنَّةِ.
طبعا هذا التصوير لطبيعة الدنيا وحال الدنيا ليس لأجل إرساء نظرة تشاؤمية عن الحياة الدنيا، فالله لا يريد لنا ان ننظر بسلبية الى الحياة الدنيا، والاسلام لا يريد ارساء نظرة تشاؤمية عن الحياة، بل ان القرآن يتحدّث عن نعم الله التي أفاضها على الإنسان في الحياة. يقول تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ لقمان: 20 ويقول تعالى في اية اخرى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهاَ﴾ النحل:18
القرآن ايضا يتحدث عن النعم والثروات والامكانات التي سخرها الله لخدمة الإنسان ولراحة الانسان وليتنعم الانسان بها، (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) ولذلك الاسلام لا يريد بث حالة التشاؤم عن الحياة الدنيا، وإنّما يريد التأكيد على طبيعة الدنيا وطبيعة المعاناة والصعوبات في الدنيا، ليتهيأ الإنسان لمواجهة هذه التحديات بكل قوة واقتدار، وليستعدّ لتحمّل أعبائها، بإرادة ووعي وصبر وثبات، فلا يسقط امام التحديات وضغوط الحياة ولا ينهار ويتراجع وينكفأ عن واجباته ومسؤولياته ولا يسيطر عليه الإحباط واليأس.
المصاعب والمتاعب والتحدّيات التي تواجه الانسان في الحياة هي طريق لتكامل الإنسان، فالله سبحانه وتعالى قدّر للإنسان أن تكون رحلته في هذه الحياة محفوفة بالمكاره وبالمشاق والمعاناة، لأنه تعالى شاء أن تكون الحياة دار امتحان واختبار يصقل فيها الإنسان شخصيته وإرادته، ويظهر طاقاته وامكاناته وقدراته، وينمّي ويراكم خبراته ومهاراته وتجاربه.
الحياة الدنيا هي الطريق لتكامل الإنسان روحيا وايمانيا وفكريا وسلوكيا مثل الانسان الذي يدخل الإنسان إلى قاعة الامتحان فان عليه ان يتوقع الأسئلة الصعبة، والمواقف الصعبة، وان لا يستسهل الامر، سواء كان الامتحان في المواد العلمية او كان في غيرها من الامور.
وهذا الاختبار والامتحان ليس لتعذيب الإنسان وإيذائه، وإنّما لتربية الإنسان، ولزرع الطموح للكمال والنجاح في نفسه، ولاظهار قدراته وطاقاته وامكاناته ، وليبرهن على كفاءاته.
القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تؤكّد على هذه الحقيقة.
يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ الملك: 7
وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ الكهف: 7
وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِين﴾
ورد عن النبي (ص): لَولا ثَلاثٌ فِي ابنِ آدَمَ ما طَأطَأَ رَأسَهُ شَيءٌ: المَرَضُ، وَالفَقرُ، وَالمَوتُ، كُلُّهُم فيهِ، وإنَّهُ مَعَهُنَّ لَوَثّابٌ.
اذن المشكلات والابتلاءات هي لتربية الانسان ووالاخذ بيده نحو الكمال ، وكذلك فان صعوبات الحياة وآلامها ايضا، تحفّز الإنسان للتطلّع إلى حياة أفضل، الى حياة هادئة مستقرة وخالدة لا صّعوبات والآم واحزان فيها، على الانسان ان يتطلع ويندفع نحو حياة من هذا النوع كما يندفع العطشان للبحث عن الماء، ان يندفع الانسان للعمل من اجل الحصول على الراحة والنعيم والحياة الخالدة التي فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ان يبني الاخرة من خلال الدنيا وان يعمل للحياة الاخرة في الدنيا لانها الحياة الحقيقية.
و لذلك يتحدث القران الكريم عن الجنة وعن نعيم الجنة، والخلود فيها، من اجل ان يتشوق الإنسان إليها ويعمل من اجل الحصول عليها.
يقول تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾.
ويقول في اية اخرى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ، يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ الزخرف: 70-71
ويقول في اية ثالثة: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ، إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَاماً﴾
وورد عن أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب (ع) فِي صِفَةِ اَلْجَنَّةِ: دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ، وَمَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ، لاَ يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَلاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يَهْرَمُ خَالِدُهَا، وَلاَ يَيْأَسُ سَاكِنُهَا.
وحتى يحصل الانسان على الجنة لا بد له من ان يعمق ايمانه بالله وان يعمل بطاعة الله ويواجه التحديات بالصبر والثبات والتسليم بقضاء الله وبما قدره الله. لان الذين يدخلون الجنة واصحاب الجنة هم المؤمنون المتقون الابرار الذين يطيعون الله ويقومون بما امر الله ويعملون الصالحات.
يقول تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ويقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)
ويقول سبحانه: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم)
وفي اية اخرى: (إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون).َ
المؤمنون الصادقون المجاهدون الثابتون الصابرون هم اصحاب الجنة ، الشهداء الذين قدموا ارواحهم في سبيل الله ودفاعا عن المظلومين والمستضعفين هم اصحابواالجنة ، صحيح اننا قد نخسر الشهداء الذين يسقطون في سبيل الله ونفقدهم الا اننا من جهة اخرى نحن ربحنا بشهادتهم حياة عزيزة وكريمة وهم لم يخسروا لانهم ربحوا ما كانوا يتطلعون اليه ويسعون نحوه وهو لقاء الله ورحمته ورضوانه وذلك هو الفوز العظيم.
الحرب على غَزَّة لم تكُن حربا عادية وإنما كانت حربا في منتهى الوحشية حشد لها العدو الصهيوني ألوية النخبة في جيشه، واستخدم فيها أكثر أنواع الأسلحة فتكا وتدميرا واسلحة محرمَة دولياً، وحاول على مدى اكثر من شهر ونصف عبر القصف التدميري والمجازر الجماعية ان يحقق ولو هدفا واحدا من اهدافه المعلنة، الا انه عجز عن تحقيق أي من أهدافه ، فلا هو تمكن من سحق المقاومة، ولا استطاع تحرير الاسرى الصهاينة بالقوة عن طريق الحرب، ولم يحمي مستوطناته من صواريخ المقاومة، حيث بقيت الصورايخ تتساقط ليس على المستوطنات في غلاف غزة فقط بل على تل ابيب ايضا.
المقاومة فرضت على العدو ان يتراجع عن كل اللاءات التي اعلن عنها في بداية العدوان، فهو قال لا يريد هدنة انسانية ولا وقف اطلاق النار فاذا به يفعل ذلك مرغما، وقال لا يريد تفاوض حول الاسرى ففاوض رغما عنه ، وقال يريد القضاء على حماس فاذا به يفاوض حماس ويعقد معها اتفاقا للهدنة بدأ سريانه من صباح اليوم ،وكل هذا يعني ان المقاومة هي التي فرضت ارادتها في نهاية المطاف وثبتت ان الاسرى الصهاينة لن يعودوا الا بالتفاوض غير المباشر معها والتبادل، وهذا انجاز كبير تسجله المقاومة في هذه الجولة من المواجهة .
العدو الصهيوني لم يقبل بالهدنة الا بعدما فشل في كسر المقاومة وفي كسر ارادة اهل غزة وفي تهجيرهم واقتلاعهم من أرضهم ولن يستطيع ان يفعل ذلك إذا استأنف العدوان لان المقاومة قوية ومقتدرة وجاهزة للمواجهة مهما طالت مدة الحرب.
صحيح ان الاسرائيلي استطاع ان يقتل حتى الآن اكثر من اربعة عشر الفا من المدنيين ويجرح عشرات آلاف من اهل غزة ويدمر اجزاء واسعة من القطاع ولكنه لم يستطع قتل روح المقاومة لدى اهل غزة او كسر ارادتهم، او النيل من عزم وثبات المقاومة، فالعدوانية الصهيونية التي لا حدود لها يقابلها قوة واقتدار وثبات وبسالة المقاومة، المأساة الكبيرة في غزة جدًا يقابلها صبر وصمود اهل غزة ونحن على ثقة ويقين بان نتيجة الثبات والصبر هو النصر في نهاية المطاف بإذن الله.