نص الخطبة
بعد أيام نلتقي بذكرى ولادة عقيلة بني هاشم السيدة زينب الكبرى التي ولدت في الخامس من شهر جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة، وهي أول أُنثى لعلي وفاطمة، فقد ولد في هذا البيت قبل ذلك الحسن والحسين, ثم ولدت السيدة زينب لتكون اول انثى في هذا البيت الطاهر، وخلافاً لما كان سائداً عند بعض العرب في الجاهلية من التشاؤم والاستياء عند ولادة البنت، واعتبارها مولوداً مهانا ووضيعا وناقص القيمة ، او مولودا يسبب لأهله العار والفضيحة، ولذلك كان بعضهم يئد البنت عند ولادتها بقتلها أوبدفنها حية خوفا من العار، خلافاً لكل ذلك، فقد أرسى الإسلام ثقافة جديدة في المجتمع الإسلامي تدين تلك النظرة الاحتقارية للبنت، وتجعلها مساوية للذكر في المكانة والقيمة والشأن والكرامة الانسانية.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً) فالتكريم هو لبني آدام سواء كانوا ذكورا او اناثا.
وقد كرم النبي الاعظم (ص) حفيدته المولودة، وسماها زينب ، والزينب، كما في اللغة العربية، شجر حسن المنظر، طيب الرائحة، تسمى به المرأة.
السيدة زينب الكبرى لا أحد يدانيها في عراقة النسب وشرافة الحسب، فهي أفضل الناس جداً وأباً وأماً وأخاً، فجدها خاتم الانبياء والمرسلين محمد بن عبدالله(ص)، وابوها امير المؤمنين علي بن ابي طالب(ع) وامها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع) واخواها الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة، فهي من هذه السلالة الشريفة وتنتمي الى هذه الاسرة والى هذا البيت الذي هو أشرف بيت على الاطلاق.
لقد نشأت السيدة زينب وترعرعت وتربت في هذا البيت الشريف، بيت الامامة والولاية، بيت الايمان والعصمة والطهر والعفاف، في بيت علي وفاطمة (ع) اللذان هما في قمة الايمان والطهر والقداسة.
ولا شك ان الجو العائلي والاسري، والبيئة، التي ينشأ فيهما الولد لهما تأثير مباشر في صياغة شخصية الإنسان وفي توجيه سلوكه ومسار حياته، وقد أثبتت الدراسات الجينية، ان العامل الوراثي والاجواء العائلية التي ينشأ فيها الانسان تصنع الكثير من القابليات والاستعدادات الايجابية او السلبية في شخصية الإنسان، فإذا نشأ وتربى في أسرة شريفة مؤمنة وملتزمة، فإن ذلك في الاعم الاغلب يخلق في نفسه أرضية واستعداداً ليكون شريفا ومؤمنا وملتزما كما هي عائلته، بينما اذا تربى في بيئة وعائلة فاسدة، فان ذلك في الاعم الاغلب يجعل انشداده وميله للانحراف أكبر وأقوى.
السيدة زينب تربت في بيت الطهر فكانت مثالا للمرأة الطاهرة العفيفة الشريفة المتسترة وايضا المرأة العاملة الفاعلة المجاهدة الصابرة الثابتة التي تتحمل مسؤولياتها داخل بيتها واتجاه اسرتها، وخارج بيتها اتجاه المجتمع والامة.
لقد مرت السيدة زينب بالعديد من المحن الاجتماعية والسياسية ومرت عليها الكثير من الاحداث القاسية والمرة ولكن في كل هذه المحن والاحداث كانت السيدة زينب المرأة القوية والشجاعة والصلبة والصابرة بل كان جبل الصبر، فقد عانت الى جانب ابيها وامها واخويها من فقد جدها المصطفى محمد (ص)، حيث كان لهذا الفقد أثر على نفسها ونفوس عائلة علي(ع)، ثم عانت من المحنة السياسية التي جرت على ابيها وامها بعد رحيل رسول الله(ص) هذه المحنة التي زادت من الآم ومعاناة بيت علي وفاطمة واسرتهما، فالاحداث التي جرت على ابيها بعد وفاة النبي(ص) حيث منع من حقه في الخلافة، والاعتداء على امها فاطمة وعلى بيتها وظلمها واسقاط جنينها كان مؤلما ومحزنا ومخزيا، ثم حلت عليها مصيبة وفاة امها الزهراء(ع) بعد خمسة وسبعين يوماً من وفاة رول الله(ص) فتجدد الحزن في نفس السيدة زينب.
بقيت السيدة زينب بعد شهادة امها الى جانب ابيها وقد اصطحبها الإمام علي معه إلى الكوفة أيام خلافته، وكلفها أن تتصدى لتعليم النساء، وأن تبث المعرفة في صفوفهن، فكانت السيدة زينب تفسر لهن القرآن، وتروي أحاديث جدها المصطفى وأخبار أمها الزهراء، وتعاليم علي وإرشاداته.
بعد رحيل أبيها انتقلت السيدة زينب الى بيت اخيها الحسن في الكوفة وعندما قرر الانتقال إلى مدينة جده (المدينة المنورة)، وكانت السيدة زينب مع أخيها في ذلك المسير. وفي المدينة واصلت السيدة زينب تحمل مسؤوليتها في الهداية وبث المعرفة ونشر القيم، وصولا الى كربلاء.
كربلاء كانت المحطة الأهم والأبرز في الحياة السياسية للسيدة زينب، كان لها دور أساسي ورئيسي في هذه الثورة، فهي الشخصية الثانية في هذه الثورة بعد شخصية أخيها الحسين، ولولا كربلاء لما بلغت شخصية السيدة زينب هذه القمة من السمو والتألق والخلود، ولولا السيدة زينب لما حققت كربلاء أهدافها ومعطياتها وآثارها في واقع الأمة والتاريخ. لقد أظهرت كربلاء جوهر شخصية السيدة زينب، وكشفت عن عظيم كفاءتها القيادية، كشفت عن شخصية واعية عالمة قوية مقتدرة شامخة ثابتة لا تضعفها الاحداث والمصائب بالرغم من قساوتها، كما أوضحت السيدة زينب للعالم كله حقيقة ثورة كربلاء، وكشفت زيف السلطة ووحشيتها وارهابها ومدى بعدها عن الدين والقيم والاخلاق والانسانية، واكملت بحركتها السياسية بعد كربلاء ثورة الحسين (ع) واهدافها واستنهضت الامة وحرضت ودفعت باتجاه مواجهة السلطة الظالمة والطاغية والمجرمة، ولاجل ذلك نفيت من المدينة الى الشام لتبقى تحت عيون السلطة واجهزتها لتمنعها من اي تحرك معارض.
ان حركة السيدة زينب تكشف عن عظمة الدور الذي يمكن ان تقوم به المرأة في المجتمع وعلى مستوى الامة، فالسيدة زينب عقيلة بني هاشم، وخريجة بيت الوحي والرسالة، عندما نطلع على حركتها ونشاطها، نراها المعلمة المحدثة التي تعلم النساء، وتنشر المعرفة والاحاديث التي تعلمتها من ابيها وامها، ونراها المرأة المجاهدة الفاعلة الثائرة التي غادرت بيتها والتحقت بقافلة الامام الحسين وثورته، لتكون شريكا اساسيا في هذه الثورة ولتكمل اهدافها من خلال تصديها للسلطة بعد كربلاء في الكوفة والشام والمدينة.
نرى السيدة الخطيبة المفوهة ترتجل الخطب أمام جماهير الكوفة، وفي مجلس ابن زياد، ومجلس يزيد وامام الوزراء والقادة وشخصيات السلطة وجندها وجيشها.
هذه الصور التي نراها في حياة السيدة زينب تناقض نظرة المجتمع الى المرأة فالمجتمع بالاجمال لا يرى للمرأة دورا اوسع من تربيتها لاولادها وترتيب شؤون بيتها بينما السيدة زينب ترى دورا اكبر واوسع وأكثر اهمية من ذلك للمرأة المسلمة.
ان سلوك السيدة زينب في المحافل العامة يدل على وجوب مشاركة المرأة في العمل السياسي والاجتماعي والثقافي، وعدم التقوقع نتيجة العادات والتقاليد الموروثة التي تعيب على المرأة التعاطي بالشأن العام، فالنموذج الذي تقدمه السيدة زينب منسجم تماما مع ما يريده الإسلام من المرأة على المستوى الاجتماعي والسياسي فهو الذي يريد للمرأة ان تكون فاعلة وناشطة طالما تحافظ على حجابها وعفتها وان يكون لها دور في المعارضة السياسية وفي مواجهة الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمالي فضلا عن دورها في مواجهة الانحلال الاخلاقي والسلوكي والقيمي.
خلال كل العقود الماضية استطاع الغرب ان يقدم صورة عن نفسه مغايرة تماما لحقيقته وواقعه فقد قدم نفسه حاميا للقيم الاخلاقية والانسانية ومنارة للحرية ونموذجا حضاريا مثاليا فادعى حمايته لحقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل ونادى بالحرية والديمقراطية وطالما حث على الالتزام بالقوانين الدولية وشرعة الامم المتحدة وبدا مدافعا عنها لكن الواقع غير ذلك تماما فالواقع كشف زيف هذه الصورة وبرهن الغرب من خلال ما يجري في غزة انه منافق وانه لا يعير اي اهمية للقيم الانسانية وحقوق الانسان عندما يتعلق الامر بشعوبنا.
اليوم كل ادعاءات الغرب في حماية حقوق المرأة وحقوق الانسان وحق الطفل سقطت امام الدعم الغربي اللامحدود للكيان الصهيوني الذي تجاوز كل القيم الاخلاقية والانسانية وارتكب المجازر والجرائم الوحشية بحق النساء والاطفال في غزة.
لن نسمح ولا ينبغي ان تسمح شعوبنا بعد اليوم ان يأتي الغربيون لينظروا علينا وعلى بلداننا وشعوبنا بموضوع حقوق المرأة وحق الطفل في الحياة وحقوق الانسان وعناوين الحرية والديمقراطية، بعد الذي فعلوه في غزة وفي مستشفياتها لا سيما في مستشفى الشفاء.
ما جرى ويجري في مستشفى الشفاء من قبل الصهاينة بتحريض امريكي هو انحدار غير مسبوق في الاخلاق والضمير الانساني ويجب ان يتحرك العالم كله لمواجهة هذا المستوى من انعدام الضمير لدى هؤلاء القتلة والمجرمين.
الادارة الامريكية تتحمل المسؤولية الكاملة عما يجري للاطفال والمرضى في مستشفيات غزة لانها هي المحرض وهي التي تغطي هذه الجريمة الوقحة بحق الطفولة وبحق الانسانية وهي التي تتحمل مسؤولية استمرار العدوان وارتكاب المجازر وسفك الدم الفلسطيني لانها هي التي ترفض وقف العدوان.
ويجب ان يعرف العدو انه امام ثبات وبسالة المقاومة وصمود وصبر اهل غزة لن يستطيع ان يحقق اهدافه فالمقاومة متجذرة في فلسطين ولا قدرة لاحد على اقتلاعها او القضاء عليها والشعب الفلسطيني متجذر في ارضه ولا يمكن لاحد تهجيره او اقتلاعه من ارضه وسينتصر في هذه المواجهة باذن الله.
نحن في حزب الله سنواصل دعمنا ونصرتنا لغزة وسنستمر في استنزاف العدو على الحدود من خلال عمليات المقاومة ولن نتوقف ما دام العدوان على غزة ولبنان مستمرا ولن نتردد في الرد على اي استهداف للمدنيين بشكل قاطع وحاسم.