نص الخطبة:
الامام العسكري(ع) والدور الرسالي
الشيخ دعموش: التهديدات الإسرائيلية لا قيمة لها والعدو اليوم هو الخائف والمربك
نعزي المؤمنين والمسلمين وصاحب العصر والزمان بشهادة والده الإمام الحسن العسكري عليه السلام، الذي كانت شهادته في الثامن من شهر صفر سنة( 260 هـ) وعمره لم يتجاوز ثمانية وعشرين سنة .
وقد لقّب بالعسكري لانه كان يقيم في محلة في سامراء كانت تسمى بالعسكر لانها كانت معسكرا لجيش السلطة.
لقد تعرض الامام لمضايقات كثيرة من قبل السلطة العباسية، فمنع من مزاولة اي نشاط عام، ووضع تحت الإقامة الجبرية من قبل السلطة في سامراء بهدف تشديد المراقبة عليه، ومنع من التواصل المباشر مع قاعدته الشعبية ولم يسمح لاتباعه بالاتصال به، وقد أد ذلك لإختياره نواباً ليتولوا هم بالنيابة عنه الاتصال بشيعته، وكان عثمان بن سعيد أحد نوابه الذي تولى النيابة في حياته وبعد وفاته، وبقي فيها حتى عصر الغيبة الصغرى، فأصبح كأول وكيل ونائب خاص للإمام المهدي (ع).
كما ان الامام سجن بأمر من الخليفة المعتمد للتضييق عليه في حبس السلطة فكان يستغل اوقاته في السجن بالعبادة والتضرع الى الله حتى أثّر بسجانيه فتحولا من الانحراف والبعد عن العبادة والقيم الى العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى، ولما طالبهما آمر السجن بذلك، قالا له: “ما نقول في رجل يصوم نهاره، ويقوم ليله كلّه، لا يتكلّم، ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا، وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا”.
ولكن بالرغم من كل تلك المضايقات التي تعرض لها، كان الامام(ع) يتحايل على السلطة ويقوم بدوره الايماني والرسالي والجهادي ولم يستسلم لاجراءات السلطة بعزله عن قواعده واتباعه.
وعندما ندرس حياة الامام العسكري (ع) سنجد انه قام بدورين اساسيين:
الاول: هو الدور المكمل لادوار الأئمة الأطهار (ع) وهو تربية ورعاية قواعده الشعبية رعاية ايمانية واجتماعية وسياسية بحيث كان يحاول ان يصنع منهم قوة سياسية فاعلة ومؤثرة في المجتمع من خلال قيادته المباشرة لهم، حيث كان يقوم خلال سنوات امامته بإدارة ورعاية اتباعه وشبغته رعاية تامة بعدما تعاظم عددهم ووزنهم السياسي في عهد الإمام الكاظم واعترف بهم كقوة سياسية في العهود التي تلت ولاية العهد من قبل الإمام الرضا (ع) ، وحتى غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه
..وكان الامام يستخدم في ذلك اساليب متنوعة لاخفاء حركته وحركة اصحابه عن عيون السلطة، فكان يطبع نشاطه بطابع السرية المطلقة، ليس فقط خوفاً من الطغاة وانما أيضاً كإجراء احتياطي للمستقبل ، وكمنهج في تربية الناس على الحقائق الكبرى التي لا يستوعبها الا القلة من الناس.. فحركة الامام وحياته اتسمت ـ وربما أكثر من غيره من الأئمة الاطهار(ع) ـ بأقصى حالات التكتم ..
أ- فقد كان يتواصل مع اصحابه عن طريق الرسائل وينقلها اليهم بطرق سرية غير ملفتة، يقول داود بن الأسود : دعاني سيدي أبو محمد فرفع إلي خشبة كأنها رجل باب مدورة طويلة ملاء الكف فقال : صر بهذه الخشبة إلى العمري ( أحد وكلاءه المقربين ) فمضيت فلما صرت في بعض الطرق عرض لي سقاء معه بغل فزاحمني البغل على الطريق . فناداني السقاء ضح عن الطريق ( أي وسع الطريق ) فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت بها البغل ، فانشقت ( الخشبة ) فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتب ( رسائل ) فبادرت سريعاً فرددت الخشبة إلى كمي فجعل السقاء ينادي ويشتمني ، ويشتم صاحبي .
فالإمام يستخدم اسلوب الكتمان بهذا المستوى الرفيع .. وفي نهاية القصة نجد عتاباً شديداً تعرض له حامل الرسالة على تصرفه البعيد عن روح العمل السري فقال خادم الإمام : حكاية عن الإمام قال : وإذا سمعت لنا شاتماً فامضِ في سبيلك التي أمرت بها، وإياك ان تجاوب من يشتمنا أو تعرفه من أنت ! فأنا ببلد سوء ، ومصر سوء ، وأمضِ في طريقك ، فان أخبارك وأحوالك ترد إلينا فاعلم ذلك
ب ـ استخدام أسلوب التحدث بالاشارة فقد كان هذا الاسلوب شائعاً في أوساط الشيعة كما يظهر من كثير من قصصهم ..
يقول محمد بن عبد العزيز البلخي : أصبحت يوماً في شارع الغنم ، فإذا بأبي محمد (ع) قد أقبل من منزله يريد دار العامة، فقلت في نفسي أن صحت أيها الناس هذا حجة الله عليكم فاعرفوه ، يقتلوني ؟ فلما دنا مني أومأ باصبعه السبابة على فيه ان اسكت . ورأيته تلك الليلة يقول : انما هو الكتمان أو القتل فاتق الله على نفسك .
ونقرأ عن أسلوب الإشارة أيضاً قصة علي بن محمد بن الحسن قال وافت جماعة من الاهواز من أصحابنا وكنت معهم وخرج السلطان إلى صاحب البصرة ( الذي خرج بالبصرة وهو صاحب الزنج المعروف ) فخرجنا ننظر إلى أبي محمد ( الذي كان يخرج عادة مع السلطان في مثل هذه المناسبات الرسمية تطبيقا لمبدأ التقية والسرية ) . فنظرنا إليه ماضياً وقعدنا بين الحائطين ب ( سر من رأى ) ننتظر رجوعه ، فرجع فلما حاذانا وقرب منا وقف ومدَّ يده إلى قلنسوته فأخذها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرَّ يده الأخرى على رأسه ، وضحك في وجهه رجل منا . فقال الرجل مبادراً : أشهد انك حجة الله وخيرته ؛ فقلنا يا هذا ما شأنك ؟ قال : كنت شاكاً فيه فقلت في نفسي ان رجع وأخذ القلنسوة عن رأسه قلت بامامته.
الدور الثاني الذي قام به الامام: هو اثبات ولادة الامام المهدي(عج) والتمهيد لغيبته .
فقد صدر عن النبي وعن أئمة اهل البيت(ع) أحاديث كثيرة حول الإمام الحجة المنتظر (ع) ، .. لكن تأكيد الإمام العسكري (ع) على هذا الأمر أبلغ من اي تاكيد اخر لأنه اعلن عن ولادة هذا الامام الموعود وحدد شخصه وعرف خواص أصحابه عليه، وهذا الامر كان في غاية الصعوبة والخطورة، نظرا لكون السلطة كانت تترصد ولادة الامام للقضاء عليه خوفا منه على سلطانهم على اعتبار انهم كانوا على اطلاع على دور الامام المهدي(ع) في القضاء على الطغاة والظالمين من امثالهم لانهم كانوا قد سمعوا بالروايات الورادة عن النبي (ص) بحق المهدي، لذلك كانوا يبحثون عنه، وقد وضعوا الامام وبيته تحت رقابة مشددة، إلى درجة أنه حين مرض الامام بعث المعتمد العباسي بتسعةٍ من أخصِّ رجاله فكانوا مع الإمام(ع) في داره ليل نهار يرصدون كلَّ من يدخل عليه وكان من مهمتهم التثبُّت من أنَّ له ولداً ؟ أو ليس له ولد؟ ، فهو في الوقت الذي كان يخشى على ابنه من أن يتعرَّف النظام العباسي على وجوده ، كان لابدَّ له من أن يُثبت ولادته للشيعة، ولذلك قام بدور تعريف خواصه على الامام الحجة(ع) بالرغم من المخاطر، فهو استطاع إخفاء ولادة الامام الموعود(ع) عن السلطة، وفي ذات الوقت استطاع اثبات ولادته(عج) بالفعل لخواص اصحابه وشيعته.
وكان الامام العسكري(ع) يختار بين الحين والآخر مجموعة من خواص اصحابه وشيعته، ليُعرِّفهم على الإمام (عج) وأنَّه قد وُلد بالفعل، فمِن ذلك ما ورد أنَّه دخل عليه جمعٌ من أعيان الشيعة وهم عليُّ بن بلال، ومحمد بن معاوية بن حكيم، والحسن ابن أيوب، وأحمد ابن إسحاق، هؤلاء كانوا من أعيان الشيعة، دخلوا على الإمام (ع) وكانت جلسة خاصة ، وعندما تأكدوا أنَّه ليس بينهم من يحذرون منه، قام وجاء لهم بالإمام المهدي (ع) وهو رضيعٌ في المهد، فعرضه عليهم، فقال هذا هو الإمام بعدي، وهو الخلفُ القائم، وهو الذي يغيبُ ثم يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما مُلئت ظلماً وجوراً، فاستبشروا بذلك ومنعتهم هيبة الإمام (ع) من سؤاله عن علامة ذلك كما هي العادة، إلا أنَّ أحمد ابن إسحاق – وكان أكبرهم سناً – تجرأ وقال للإمام العسكري: سيدي نريد علامة على أنَّه الإمام القائم ، فأشار إليه كما أشارت مريم إلى السيد المسيح (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)، وحينها توجهت أنظار أصحاب الإمام(ع) إلى هذا الرضيع الذي كان يحمله الإمام فنطق بلسانٍ عربيٍّ فصيح وقال: أنا بقيَّة الله في أرضه، والمنتقِمُ من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق.
وروى الثقة أحمد بن إسحاق بن سعيد الأشعري ، قال : دخلت على أبي محمِّد الحسن بن عليّ (ع) ، وأنا أريد ان أسأله عن الخلف من بعده ، فقال لي مبتدئاً :
” يا احمد بن إسحاق إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم ، ولا يخليها إلى ان تقوم الساعة من حجة الله على خلقه ، به يرفع البلاء عن أهل الأرض ، وبه ينزل الغيث ، وبه يخرج بركات الأرض.
فقلت له : يا بن رسول الله ! فمن الإمام والخليفة بعدك ؟
فنهض مسرعاً فدخل البيت ، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين فقال : يا أحمد لولا كرامتك على الله ـ عزّ وجلّ ـ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا إنِّه سمّي باسم رسول الله وكنيته الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً : يا أحمد مثله في هذه الأمة مثل الخضر ، ومثل ذي القرنين ، والله ليغيبنّ غيبةً لا ينجو من الهلكة فيها إلاّ من ثبّته الله على القول بإمامته ، ورفقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه ”
وكان لوالدة الإمام المهدي (ع) السيِّدة نرجس دورٌ لافت في حماية الإمام (ع) فرغم أنَّها قد سُجنت مرَّاتٍ عديدة بعد استشهاد الإمام العسكري (ع) فحُبست في بيت المعتمد العباسي نفسه، في دارٍ من دوره وكانت حولها النساء تنام معها ولا يفارقنها ليل نهار يراقبنها ويرصدن جميع أحوالها إلا أنَّها كتمت وصبرت على الأذى، ولم تخرج من الحبس حتى ابتُليت الدولة العباسية باضطراباتٍ تشاغلوا بها عن هذه المرأة الصالحة فتخلَّصت من حبس وإيذاء هؤلاء الظالمين.
ونختم بوصية الامام لشيعته وهو يوصيهم، بما ينبغي ان يتقيدوا به على المستوى الشخصي وعلى المستوى الاجتماعي، وهي صية لنا جميعا لاننا من شيعته قال: “أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في وطاعته وعبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد (ص) صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الّذين يجاورونكم وتختلفون معكم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النّاس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنّه سائر على الحقّ والاستقامة في خطِّ الإسلام ـ اتّقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزيَّن به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودّة ـ اجعلوا النّاس يحبّوننا، فلا تتحدَّثوا مع النّاس بالحقد والبغضاء والسّباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوءٍ فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب”.
هذا السلوك الذي دعانا اليه اهل البيت(ع) والذي يجب ان نلتزم به من اجل تقريب الناس بأخلاقنا وسلوكنا وقيمنا من من ديننا ونهجنا وقضايانا. وهذا هو السلوك الذي ننتهجه مع شركائنا في الوطن ونتعامل به حتى مع الذين نختلف معهم في الانتماء والتوجهات، نتعامل معهم بالاخلاق والتفاهم والحوار، اما مع العدو فالامر مختلف، لان العدو لا يفهم بلغة الحوارولا الدبلوماسية، ومخطىء من يعتبر ان العدو يمكن ان يسلم بحقوق لبنان بمنطق التفاوض وحده، العدو لا يفهم الا بمنطق القوة وهذا ما اثبتته كل التجارب الماضية.
وعندما نتحدث عن منطق القوة في مواجهة العدو لا نقصد بها فقط القوة او القدرة العسكرية بالرغم من اهميتها، بل نقصد كل عناصر القوة الاخرى من التفاف الناس حول المقاومة وثقتهم بخيارات المقاومة، وقدرتهم على الصبر والثبات وتحمل الصعاب، واستعدادهم للتضحية، وحسن ادارة عناصر القوة ،ووحدة وثبات الموقف السياسي .
ولذلك ما راكمته المقاومة من خبرات وقدرات عسكرية كما ونوعا وما فرضته من معادلات وما اكتسبته من خبرات متنوعة اضافة الى التفاف الناس حولها وتمسكهم بخيارها وتضحياتهم الى جانبها وثباتهم وصبرهم في المواجهات كل ذلك مكن المقاومة من ان تحقق انجازات وانتصارات كبيرة ومن ان تفرض معادلات جديدة في مواجهة العدو.
نحن نثق بأنفسنا وبقوتنا وجاهزون لكل الاحتمالات وليس واردًا أن نسكت عن حقوقنا والمقاومة اليوم أقوى وأشد وأصلب من أي زمن مضى.
اليوم الموقف اللبناني الموحد المستند الى معادلة المقاومة جعل الاسرائيلي في حالة ارتباك وتخبط غير مسبوقين وضيق عليه الخيارات فلجأ الى لغة التهديد والتهويل مجددا.
لكن لا يتصورنّ أحد أن التهديد والتهويل الاسرائيلي يمكن أن يفتّ من عزيمتنا او يثني المقاومة عن المضي في معادلتها.
فالتهديدات الإسرائيلية التي سمعناها بالأمس ضد لبنان هي كما قال سماحة الامين العام حفظه الله قبل مدة لا قيمة لها، فقرارنا وتوجهنا واضحان. واهلنا الشجعان الذين تربوا في مدرسة ابي عبدالله الحسين والذين واجهوا كل الحروب والاعتداءات الاسرائيلية خلال كل المراحل الماضية بصبر وثبات وصمود واستعداد للتضحية هم احد اهم عناصر القوة التي نملكها في لبنان وهؤلاء لا تهزهم تهديدات العدو ولا تخيفهم حربه النفسية .
لقد اراد العدو من خلال تهديداته بالامس ان يشن حربا نفسية على اللبنانيين لاخافتهم واجبارهم على التراجع، ولكن بدل ان يصيب اللبنانيين بالخوف أصاب المستوطِنين الصهاينة في الشمال بحالةً من الرعب والهستيريا وقد عبرواعن استيائهم وغضبٍهم الشديدٍ من وزير حربهم لارتجالِه هذه التصريحاتِ دون تنسيق معهم.
العدو اليوم هو الخائف والمربك والمضطرب ونحن في موقع القوة لاننا اصحاب حق، والحق لا يموت طالما وراءه مطالب، فكيف اذا كانت وراءه مقاومة.