لن ينسى محمود العارضة، محمد العارضة، يعقوب قادري، أيهم كممجي، زكريا الزبيدي، ومناضل انفيعات، تاريخ السادس من أيلول من العام 2021. إنه يوم اللقاء بالشمس والهواء، بالأرض، بالأحبة ربما، يومٌ حرية طال انتظارها سنوات طويلة، يومٌ تطلبت شمسه أشهراً تسعة من العمل المتواصل لشق “نفق الحرية”.
لن ينسى الأبطال الستة ما حدث منذ عام، لن ينسى الفلسطينيون ممن يتوقون لقهر عدوهم، لن ينسى المقاومون في كل العالم، حتى كل مظلوم، قصة أسرى سجن جلبوع، الأكثر تحصيناً بين سجون الاحتلال الاسرائيلي.
“علاوةً على أنه حافظ للقرآن الكريم كان، شاعراً عظيماً وقوياً، وكنا نطلب منه شعراً فيكتب لنا خلال وقت قصير أعذب الكلام وأجمله، يحدثنا عن معاركه في الميدان واشتباكاته مع العدو، كان دائم التفكير بكيفية الخروج من السجن”. نقلاً عن الأسير المحرر الشيخ ماهر الأخرس في حديث له عن البطل أيهم كممجي.
يستذكر والد الأسير وأحد أبطال “نفق الحرية” أيهم كممجي، فؤاد كممجي ما حدث منذ عام، تحديداً في الفترة الممتدة بين خروج ولده إلى الحرية وإعادة أسره من قبل الصهاينة عقب ثلاثة عشر يوماً، قائلاً إن “أيهم وصل عند السادسة صباحاً في السادس من أيلول 2021، إلى بلدته كفر دان غرب جنين، والتي تغيرت معالمها بالنسبة إليه بعد تسعة عشر عاماً على مكوثه في سجون الاحتلال، لكنه رفض الدخول إليها لعدم تعريض أهله للخطر؛ بسبب الاستنفار الذي قام به جيش الاحتلال لآلاف من جنوده وإطلاق طائرة مسيرة في أجواء مدينة جنين لتعقب وتتبع الأسرى الستة بالإضافة لمراقبة الاتصالات”.
وروى الوالد نقلاً عن ولده أنه “في بداية انتزاعه لحريته مع رفيقه مناضل انفيعات طاردته شرطة الاحتلال في سهل ابن عامر، وسقطت حقيبته التي كان يحملها على ظهره، ولم يتمكن من العودة إليها”، مضيفاً أن الجنود “عثروا على الحقيبة ثم بدأوا بإطلاق النار في جميع الاتجاهات، أخبرني أن الغبار الذي يحدثه الرصاص كان يصل إليه، وأنه بقي لأكثر من ساعة على هذه الوضعية دون أي حراك، فلو كانت قشة قد انقسمت لاكتُشفت”.
قطع أيهم مسافة حوالي 150 كيلومتر، حسب والده، وهي تعتبر مسافة بعيدة لأسير لم يمش منذ 17 عاماً أكثر من بضع خطوات يومياً في ساحة السجن، “لقد امتدت رحلة أيهم سهولاً وجبالاً وعرة من بيسان إلى الناصرة تخللها صعود وهبوط وحقول ومزارع وذهاب وعودة، مطاردة وسقوط أرضاً، جروح وكدمات، إنهاك وجوع وعطش شديدين”، قال كممجي، مؤكداً أنه “نحن كأي عائلة فلسطينية ترزح تحت الاحتلال، يجب علينا المواجهة ما دمنا موجودين على هذه الأرض”.
هل يعلم الاحتلال الاسرائيلي، أنه يحوي في سجونه وفي كل شبر من كيانه المحتل، مقاومين كـ “كممجي”، الذي تساءل والده عقب قهره سجانه في العملية التي وصفها الأخير بالـ “خطيرة والمعقدة جداً “ماذا ينتظر الاحتلال من طفل ولد إبان الانتفاضة الأولى عام 1987، وفتح عينيه على اجتياح إسرائيلي (عام 2002) لمدينته جنين ومخيمها، ومشاهد دمار وأشلاء شهداء تناثرت هنا وهناك، فضلاً عن أنه “بطبعه يعشق الحرية”. عشقٌ انعكس في أبيات شعر، قيل أنه رددها قبل خروجه إلى الضوء بفترة وجيزة: “السجن مظلمة لله أشكوها.. والقبر أرحم لي حي تخيرني، مُنّ علي بفرج أنت يسره.. كما مننت ليوسف عتق من السجن”.
محمود العارضة، مهندس العملية، استيقظت أمه في السادس من أيلول على حلم ابنها عقب محاولات ثلاث، لم تؤدي إلى الخروج من أسوار السجن. مزيجٌ من المشاعر المتناقضة عاشتها الوالدة الثمانينية، خلال خمسة أيام سبقت إعادة أسر ابنها مع رفيقه يعقوب القادري في الناصرة، “شعور بالخوف الشديد عليه في حال الوصول إلى بيته في بلدة عرابة القريبة من جنين، وسط المراقبة الدائمة للبيت من قبل الاحتلال وأعوانه، وفخر بما سطره محمود ورفاقه من بطولة تفوق خلالها على “إسرائيل” ومنظومتها الأمنية بالكامل، وشوقٌ لرؤيته خصوصاً أن المرض حال دون زيارتي له خلال السنوات الأخيرة”.
“ملاعق، أيدي القلايات، أباريق الشاي، صحون وبعض الأخشاب، وكثيرٌ من القوة والصبر والايمان”، أوصلت العارضة إلى الحرية ولو لأيام خمس، المهم أنه هزم سجانه وأوقع به، عزيمة ورثها عن أمه التي تؤكد أن “محمود سيخرج وسأفرح برؤيته في البيت رغماً عن “إسرائيل” وكل جنودها”.
نسير على الجمر..إلى الحرية
خمسة أيام، تنسّم خلالها يعقوب قادري الحرية قبل أن يُعاد اعتقاله هو ومحمود العارضة، بينما أُعيد اعتقال الزبيدي ومحمد العارضة في منطقة الجليل في اليوم التالي، والأسيرين كممجي وانفيعات بعد أسبوعين.
من عزله في سجن هداريم الإسرائيلي، كتب الأسير محمود العارضة “نحن في العزل الانفرادي داخل زنازين العدو نسير على الجمر دون أن نخاف الحرق.. نطالب بالحرية وسنحصل عليها رغم أنف العدو عن قريب”.
ولم تكن رسالة زميله في الهروب، محمد العارضة، من عزله في سجن إيلون الإسرائيلي، بعيدة عن هذا الوصف فكتب “تجربة العزل تجربة شاقة وفي التحام متواصل مع السجان وأعوانه.. هذه التجربة أعطتني كثيراً من الحقائق، أرى فيها الكره وأساليب القهر والإهمال المقصود والمتعمد والمخطط له على وجه الحقيقة والخيال”.
محاربو حرية
بداية هذا العام، تمكنت المحامية في هيئة شؤون الأسرى حنان الخطيب من زيارة الأسير زكريا الزبيدي المعزول في سجن ريمونيم الإسرائيلي، قال لها الأخير “كنت أقبع بقسم 4 بسجن جلبوع عندما توجه لي قبل حوالي أسبوعين من العملية الأسير أيهم كممجي قائلًا لي “في طلعة”، فقلت له بأنني شاعر بذلك لأنني أسمع بالليل أصوات وكنت استغرب وأقول في سري “أيُعقل أن أحد الأسرى يخطط للهرب؟”.
وتابع “سألني أيهم عن استعدادي لذلك فقلت له “أنا اللي بطلع”، فنحن يا أستاذتي العزيزة محاربو حرية وعندنا مسرح الحرية كيف لي ألا أفكر بالحرية؟”. قال الزبيدي للخطيب “قبل أسبوع من العملية طلبت الانتقال لغرفتهم لكي أطّلع على الموضوع، عندما دخلت ورأيت الحمام (عرفت أننا برة)، سألتهم عن التكتيكات والخطة المرسومة وكيف سنسير بالنفق لأنني لم أجرب الدخول للنفق من قبل، أخبروني أن السير سيكون يد للأمام ويد للخلف والمشي بطريقة الحلزون ولكن يوجد مقطعين يجب النوم على الظهر والسير زحفًا”.
سألت مناضل نفيعات، قال الزبيدي “لماذا تريد أن تكون معنا ولم يتبق على إطلاق سراحك أقل من شهرين؟ فقال لي مفاخرًا (أنا اللي حفرت وتعبت ولازم أكون شريك معكم)، وعندها أطلقت عليه لقب (البايجر)”.
الرحلة
“بدايةً دخل النفق الأسير مناضل نفيعات وتلاه محمد العارضة وبعدها يعقوب قادري وأنا وبعدي أيهم كممجي وآخرنا كان محمود العارضة”، روى الزبيدي، مضيفاً “داخل النفق علقت وشعرت أن جسمي لا يتحرك حوالي ربع ساعة وكانت المنطقة مظلمة فأحسست بأنني بمنطقة البرزخ بين الأرض والسماء، وعندها طلب مني أيهم ومحمود مواصلة المسير، وأخبرت يعقوب الذي كان أمامي بأنني عالق فظن يعقوب أن الحقيبة تعرقل مسيري فقام بسحبها مني فقلت له إن جسمي عالق بالنفق وأنا لا أستطيع التحرك، حيث هم متعودون على النفق والسير به لأنهم جربوه من قبل أما أنا فهذه أول مرة أسير به ولم أعتد عليه وبعد محاولات عديدة تركت نفسي وواصلت المسير” .
وصل يعقوب إلى فوهة النفق منهك القوى وتعب، أما أنا فرفعت يدي وقام مناضل نفيعات بانتشالي وإخراجي من فوهة النفق وخرجنا جميعًا.
المصدر: فلسطين اليوم+الجزيرة