بعد 43 عاماً على انهيار حلف بغداد، بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران عام 1979، كثيرة هي التحولات التي عصفت بالمنطقة، بدءاً من الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وليس انتهاء بأحداث الربيع العربي، ومعاهدات التطبيع مع الكيان الصهيوني. تحولات أفرزت واقعاً جديداً في المنطقة، فلم يعد الشرق الأوسط كما كان عليه قبل أربعين عاماً، أنظمة زالت عن الخارطة السياسية، والجيش الذي كان في تلك الفترة لا يقهر، بات يخشى من زواله، ويعيش قادته عقدة “الثمانين”.
ولمنع انهيار هذا الكيان، الذي يؤكد صناع قراره انه مؤقت، تتداعى الولايات المتحدة الأميركية ومعها الدول الغربية إلى إنعاشه، تارة عبر زرع الفتن المذهبية والسياسية، وتارة أخرى، بالتدخل الأمني المباشر، وافتعال الحروب، كما جرى في سوريا، وطوراً عبر الحصار السياسي والإقتصادي لحركات المقاومة، خصوصاً في لبنان وفلسطين والعراق واليمن.
احدى استراتيجيات حماية الكيان، إخراجه من عزلته، والطلب من أنظمة عربية بتطبيع العلاقات معه بشكل علني (الإمارات، البحرين، السودان، المغرب)، فيما دول أخرى تنتظر القيام بدورها في هذا المجال (السعودية). ورغم أن هذه الدول تعد مارقة في الصراع العربي – الإسرائيلي، ولا تؤثر في أصل الصراع ولا في نهايته المحتومة بزال الكيان، غير أنها شكلت طوق نجاة للكيان المعزول، وسمحت له بالقيام بإستثمارات تجارية وإقتصادية ونفطية مع تلك الدول، انقذت بعضاً من أزمته الإقتصادية، خصوصاً في مرحلة “كورونا”.
ومع ادراك الولايات المتحدة أن تلك الإتفاقيات، لم تغير من واقع الحال، بل كشفت ما كان معلوماً من تعاون أمني واستخباراتي وإقتصادي بين تلك الدول والكيان الإسرائيلي، تريد الإدارة الأميركية تطوير تلك العلاقات لتصبح حلفاً عسكرياً وأمنياً، على غرار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالتالي إعطاء زخم لزيارة رئيسها جو بايدن إلى المنطقة والمقررة من 13 إلى 16 تموز/يوليو المقبل.
وتريد الولايات المتحدة تكريس زعامة الكيان الإسرائيلي على دول التطبيع، بربطهم بحلف عسكري، تكون القيادة فيه لتل أبيب، في محاولة منها لمواجهة إيران، بعدما وصلت المفاوضات النووية إلى طريق شبه مسدود، بفعل مراوغات الغرب، ومحاولاتهم انتزاع تنازلات إيرانية في هذا الملف.
إذاً هي إيران، التي لولاها لما جمع بايدن دول التطبيع، ولما أنهى خلافاتهم السياسية، – (السعودية وتركيا)، (قطر ومصر)، (السعودية وقطر) -، بعد حملات إعلامية وسياسية، استحضرت فيها كل الأسلحة، القومية والدينية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها. بيد أنه وكرمى عيون بايدن، تُحل المشكلات، وينشأ حلف مع عدو المسلمين، لمواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحركات المقاومة، التي تقاتل لأجل فلسطين ومقدساتها الإسلامية والمسيحية.
ويعد الحلف رسالة تطمين أميركية إلى دول المنطقة، خصوصاً وأن انسحابها من أفغانستان ما يزال ماثلاً في أذهان المسؤولين العرب، ومشهد تعلق مسؤولي النظام السابق بالمروحيات، يؤرق المسؤولين في الأنظمة العربية، من أن يلاقوا مصيراً مشابها، خصوصاً وأنهم يدركون جيداً أن مصيرهم مرتبط بالكيان الصهيوني، وبالسياسات التي تقرها واشنطن للمنطقة.
فأنظمة التطبيع العربي، هي بالأساس وظيفية، فشلت في حماية المصالح الغربية في المنطقة، ما استدعى تدخلاً عسكرياً مباشراً متمثلاً بالوجود العسكري الغربي، كما يستدعي كل فترة، سياسيات أميركية تنعش هذه الأنظمة، بالتهديد تارة وبالترغيب، كما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ولأن مرحلة جديدة قد تدخلها دول الشرق الأوسط، فقد بدا لافتاً في الأيام الأخيرة، الجولات والزيارات الرسمية المتبادلة بين قادة دول المنطقة، حيث قام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بجولة قادته إلى تركيا، الخصوم اللدود، مروراً بمصر والأردن (بعد خلافات بسبب محاولة الإنقلاب داخل الأردن).
كما كان واضحاً حديث ملك الأردن عبد الله الثاني، الذي أعلن تأييده إنشاء حلف عسكري في المنطقة، على غرار الناتو، بعد زيارته إلى الإمارات ولقائه رئيسها محمد بن زايد. وتأتي هذه الزيارة وسط تحركات عربية وإقليمية قبل زيارة بايدن إلى المنطقة، حيث من المقرر أن يلتقي فى الرياض مع قادة دول مجلس التعاون الخليجى، ومصر والأردن والعراق. وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد عقد مطلع الأسبوع الجاري قمة ثلاثية فى شرم الشيخ مع ملكي البحرين والأردن، ومع ولي العهد السعودي.
وأعلنت قناة “كان” الإسرائيلية الرسمية، قبل أيام، أنه من المتوقع أن تشمل زيارة بايدن إلى الكيان الإسرائيلي إعلانا عن تعاون أمني غير مسبوق بين تل أبيب والخليج، بما في ذلك السعودية، في حين قال وزير خارجية الكيان يائير لبيد إن لزيادة بايدن تداعيات كبيرة على المنطقة والصراع مع إيران. كما زار لابيد الخميس أنقرة، حيث بحث هناك العلاقات الأمنية، وذلك بعد زيارة وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إلى فلسطين المحتلة بين 24 و25 مايو/ أيار الماضي. كما شهدت القاهرة زيارة أمير قطر، حيث التقى مع الرئيس عبد الفتاح السيسي.
هذا، ويزور رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي طهران الأحد، حيث سيؤكد أمام المسؤولين الإيرانيين أن بغداد لن تكون جزءاً من أي تحالف إقليمي ضد ايران، رغم حضورها في الرياض مع بايدن.
محللون حاولوا الربط بين حلف شمال الأطلسي والحلف المنوي تشكيله في المنطقة، وتساءلوا، هل حقق الناتو الاطلسي أهدافه في حماية أوروبا، أم بات عبئاً عليها، يستنزف ميزانيتها، ويرهق إقتصاديتها، المتعبة أصلاً؟ وإذا كان الناتو الشرق اوسطي على شاكلته، فهذا الحلف لا يعدو عن كونه وسيلة أميركية جديدة، لإستنزاف الموارد العربية، في تسليح حلف، هدفه الحفاظ على الكيان الإسرائيلي؟
ولناحية الأهداف، فإذا كان هذا الحلف موجها بالأساس إلى الجمهورية الإسلامية في ايران، فيؤكدون، أن الولايات المتحدة وفي ذروة اجتياحها في المنطقة بعد العام 2003، لم تجرؤ على مهاجمة إيران، فكيف والحال، أن الجمهورية الإيرانية باتت تملك ما تملك من المقدرات العسكرية والإقتصادية والأمنية؟
إذن، فإن الإدارة الأميركية الحالية تدخل المنطقة العربي في سياسة الأحلاف والمحاور، في ظل ما يشهده العالم من تطورات متسارعة على ضوء الحرب في أوكرانيا، في حين يبدو أن روسيا التي زار وزير خارجيتها طهران، تنظر بعين المراقب إلى ما يجري في المنطقة، خصوصاً وأن اي حلف عربي مدعوم من أمريكا، قد يعيد إلى الأذهان حلف بغداد، والذي كان موجهاً بشكل مباشر إلى الإتحاد السوفياتي.
وفي حين ليس من المعلوم كيف سيكون الرد الروسي في المنطقة، لكن الأكيد أن الولايات المتحدة تريد من دول المنطقة أن تؤدي ادواراً إضافية، موجهة ضد أعدائها على الساحة الدولية، (روسيا، الصين، ايران).. أدوار قد تكون الأخيرة، إذا ما عدنا إلى كيفية انهيار حلف بغداد..
فبعد 3 سنوات من تأسيس الحلف عام 1955، شهد العراق انقلابا، قاده الجنرال عبد الكريم قاسم، ليسحب بعدها عضوية بلاده من الحلف، الذي سمي على اسم عاصمته. تراجعت باكستان عن ممارسة ادوار فاعلة في الحلف، بعد عدم مساعدته لها في حربها ضد الهند بين عامي 1965 و1971. بريطانيا انسحبت من الحلف بعد غزو تركيا لقبرص عام 1974. لتأتي الضربة القاضية للحلف من ايران، بعد اسقاط نظام الشاه، المدعوم من الغرب عام 1979.
المصدر: المنار