الامام الجواد(ع) عطاء مستمر
نص الخطبة
بعد ايام نلتقي بذكرى شهاد الامام محمد الجواد(ع) الذي ولد في العاشر من شهر رجب سنة ١٩٥ هجرية واستشهد مسموما على يدي المعتصم العباسي في اخر شهر ذي القعدة في مثل هذه الايام من سنة ٢٢٠ هجرية.
وعندما نستعيد ذكرى اهل البيت (ع) فليس ذلك من اجل ان نغرق في التاريخ وننسى الحاضر او من اجل تمضية الوقت بترف فكري او ثقافي، وانما نريد تعميق الارتباط العملي باهل البيت(ع) والاستفادة من تعاليمهم وارشاداتهم لنجسدها في الحاضر وفي واقعنا وحياتنا .
الهدف من اثارة تاريخ الأئمة(ع) هو استحضار سيرتهم واستذكار توجيهاتهم وتعاليمهم لنعمل بها .
وعلى هذا الاساس نستحضر ذكرى شهادة الإمام الجواد(ع) هذا الامام الذي تميز بغزارة علمه وسعة معرفته بالرغم من صغر سنه .
الملفت في حياة الامام الجواد امران اساسيان:
الامر الاول: انه تولى الإمامة وهو صغير السن، حيث لم يتجاوز سنه عندما استشهد ابوه الرضا الثماني سنوات، وليس بغريب او مستهجن بالنسبة الى اي امام من ائمة اهل البيت(ع) ان يتولى الامامة والقيادة في سن مبكر، لان المعيار في الامامة ليس كبر السن او صغر السن وانما المعيار هو النص والعلم الخاص والعصمة .
وهذه الاركان الثلاثة توفرت في شخصية الامام الجواد(ع) حيث ان اباه الامام الرضا(ع) نص على امامته قبل شهادته بشكل خاص كما نه من الائمة الذين نص النبي(ص) على امامتهم بالاسم في النص العام، وهو ورث العلم عن آباءه واجداده عن رسول الله(ص)، وكان الامام المعصوم من الخطأ والزلل.
فقد اثبت علمه خلال كل المناظرات التي اقيمت برعاية من السلطة العباسية من اجل اختباره واثبات عجزه ، وخرج منها متغلبا على اكبر العلماء والمفكرين والقضاة في عصره، كما في المناظرة المشهورة التي جرت بينه وبين يحي بن اكثم (وهو اكبر قضاة السلطة العباسية) في دار الخليفة المامون .
وذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار عن علي ابن إبراهيم عن أبيه قال: استأذن على أبي جعفر (يعني الامام الجواد) قوم من أهل النواحي، فأذن لهم، فدخلوا فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة، فأجاب وله عشر سنين.
ويعلّق الشيخ المجلسي (رحمه الله) على هذه الرواية بقوله: إن الكلام قد يكون محمولاً على المبالغة في كثرة الأسئلة والأجوبة، أو أن المراد بوحدة المجلس الوحدة النوعية أو مكان واحد كمنى وإن كان في أيام متعددة.
هذه المواقف وأمثالها أثبتت جدارة الإمام الجواد وأهليته لمنصب الإمامة لذلك نجد كبار العلماء من السنة والشيعة يعترفون بتفوقه العلمي وبفضله ومكانته وطهارته.
علي ابن الامام جعفر الصادق، وكان فقيها على كبر سنه، ومكانته العلمية، وكونه عماً لأبي الإمام الجواد، ولكنه خضوعاً لما يعرفه من أحقية الجواد مع صغر سنه، يعترف له بالإمامة والفضل، ويبدي له الاحترام والخضوع.
ورد عن محمد بن الحسن بن عمار قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا (ع) المسجد – مسجد الرسول (ص)- فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء فقبل يده وعظمه، فقال له أبو جعفر (ع): يا عم اجلس رحمك الله». فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه، جعل أصحابه يوبخونه، ويقولون: أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا إذا كان الله عز وجل -وقبض على لحيته- لم يؤهل هذه الشيبة وأهلّ هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟! نعوذ بالله مما تقولون.
وعن السبط الجوزي وهو من كبارعلماء السنة: لقد كان (يعني الامام الجواد) في علمه وتقواه وزهده وعفوه على سر أبيه.
وعن الجاحظ عثمان المعتزلي ـ وقد كان من مخالفي آل علي (ع): إن الإمام الجواد (ع) هو العاشر من الطالبيين الذين قال عنهم: إن كلاّ منهم كان عالماً وزاهداً وعابداً وشجاعاً وسخياً ونقياً وطاهراً.
وعن الفتال النيشابوري: ان المامون شغف بأبي جعفر (ع) لما رأى من فضله مع صغر سنه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، مالم يساوه فيه أحد.
الامر الثاني: هو أن الإمام الجواد كان أقصر الأئمة عمرا، حيث لم يعمر اكثر من خمس وعشرين سنة فقد استشهد وهو في ريعان الشباب بعمر خمس وعشرين سنة ولكن هذا العمر القصير كان حافلا بالعطاء والابداع والانجاز حيث ملأ الدنيا بعلمه وفكره ومعارفه وربى العديد من العلماء بالرغم من الاضطهاد والتضييق الذي مارسته السلطة العباسية علسيه وبالرغم من شبه الاقامة الجبرية التي فرضها المامون العباسي عليه حيث زوجه ابنته ام الفضل وفرض عليه لاسباب سياسية الانتقال من المدينة الى بغداد والاقامة بالقرب منه ليبقى تحت عينه ورقابته.
ان حجم العطاءات والانجازات التي قدمها الامام خلال هذا العمر القصير يعني فيما يعني أن حياة الإنسان لا تقاس بطول أو قصر حياته، وإنما بكفاءاته وانجازاته، فربما يعيش انسان عقودا طويلة من الزمان ولا ينجزشيئا ، بينما يعيش انسان اخر عمرا قصيرا وتكون له انجازات كبيرة.
وهذا له امثلة كثيرة في عصرنا فهناك علماء عاشوا عمرا قصيرا نسبيا لكن انجازاتهم كانت عظيمة من امثال الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر الذي كانت له نتاجات علمية وفكرية عظيمة وهو بداية سن الشباب، واستشهد ولم يتجاوز الخمسين، كما ان سيد شهداء المقاومة الاسلامية في لبنان السيد عباس الموسوي حقق كل هذه الانجازات على صعيد المقاومة وهو من مؤسسي هذه المقاومة التي صنعت الانتصارات للبنان وللامة واستشهد ولم يتجاوز الاربعين، وغيرهما.
في ذكرى شهادة الامام لا بد ان نستفيد من بعض كلماته النورانية لنتزود لدنيانا واخرتنا.
يقول الإمام الجواد(ع) وهو يتحدث عن العناصر الموصلة لرضوان الله الذي هو الهدف الأكبر للانسان المؤمن : (ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة).
أولا: كثرة الاستغفار: الاستغفار يعني التوبة والندم على ارتكاب الذنب، والعزم على ترك الخطأ، ومعالجة الاخطاء في حياة الانسان. ولا شك أن الإنسان الذي يهتم بتجاوز أخطائه وسلبياته يكون أقرب إلى الله ورضوانه.
ثانيًا: لين الجانب: يعني التواضع والتعامل برفق ورحمة ولين مع الناس لا ان يكون في علاقاته ومعاملاته فظا وقاسيا وحادا.
التعامل بلين ورحمة ورافة مع الزوجة، والأولاد والأقارب والاصدقاء والزملاء والخدم هو مما يجلب رضوان الله، وذلك على النقيض من بعض الناس الذين يكونون أشداء مع الناس من حولهم.
ثالثًا: كثرة الصدقة: وذلك بأن يكون الإنسان معطاء لمن حوله من الفقراء وذوي الفاقة وأهل الحاجة، والصدقة هي تعبير عن الاحساس بالمسؤولية تجاه الفقراء والمحتاجين والمبادرة لمساعدتهم والتخفيف من معاناتهم والامهم، وقد ورد في الحديث (داووا مرضاكم بالصدقة)، و (استنزلوا الرزق بالصدقة، وادفعوا البلاء بالصدقة)، فكلما أعطى الإنسان وتصدق من ماله فهو الرابح الأول وهو المستفيد.
ينبغي أن يعود الإنسان نفسه على التصدق ولو بالشيء القليل, وأن يعود أبناءه على ذلك. ليكون مجتمعنا مجتمعا انسانيا يتحسس هموم بعضه وحاجات بعضه والام الناس ومشكلاتهم وازماتهم.
ان كل لحظة من حياة الإنسان هي فضل من الله وخير منه ولطف ورحمة، فعليه أن يشكر هذا العطاء وهذا الخير من خلال المبادرة الى اعانة المحتاجين والاهتمام بامور الناس وشؤونهم، خصوصا في هذه المرحلة الصعبة التي نمر فيها على المستوى الاقتصادي والمعيشي والمالي حيث ان الاوضاع تتطلب من الجميع التعاون والمشاركة وعدم الهروب من المسؤولية .
القوى السياسية التي تتهرب من التزاماتها الوطنية ولا تشارك ولا تتعاون ولا تبالي بما يعانيه البلد من ازمات ومشكلات ولا يحركها ما يتعرض له اللبنانيون من حصار وفقر وجوع ، ليست جديرة بتحمل المسؤولية، وكل الشعارات والوعود التي سمعناها من البعض ايام الانتخابات انكشف انها فارغة ولا مصداقية لمطلقيها.
وقال: من يتصدى لمواقع المسؤولية والسلطة يجب ان يكون مخلصا لشعبه وصادقا في وعوده، وان يكون مبادرا يهتم بمعاناة الناس والامهم وشؤونهم ومصالحهم بالفعل والعمل والمشاركة، لا بالشعارات والوعود الفارغة والمواقف الرنانة.
المسؤول المخلص لشعبه لا يرضى ان يجوع شعبه بينما هو يتنعم بالخيرات والثروات، ويرفض اذلال شعبه بالغذاء والدواء والكهرباء والمحروقات لا انه يتفرج عليهم ولا يبالي.
اننا بحاجة الى انقاذ بلدنا من الازمات المتعددة التي يعاني منها بالعمل الجاد والدؤوب، والمدخل الحقيقي لذلك هو الاسراع في الأليف بعدما تم انجاز التكليف.
حزب الله تعاطى بايجابية في موضوع تسمية الرئيس المكلف في الاستشارات الملزمة، انطلاقا من الاولوية التي يعطيها لتشكيل الحكومة وحرصه على تقديم كل ما يسهل عملية التأليف ويساهم في وقف الانهيار وانقاذ البلد .
اليوم هناك حالة من التشاؤم تسود في البلد بان الحكومة لن تتشكل حتى انتهاء العهد، بسبب ان البعض سيتمسك بمنطق المحاصصة ويرفع من سقف مطالبه وشروطه، وان حصل هذا، فهو اكبر خطيئة ترتكب بحق لبنان والشعب اللبناني، لان البلد ينهار وهو بأمس الحاجة الى حكومة توقف الانهيار وتعمل على الانقاذ.
لذلك المطلوب تجاوز كل الاسباب التي يمكن ان تؤدي الى تأخير التاليف، وتقديم مصالح الناس على المصالح الخاصة، والترفع عن المزايدات والحسابات االضيقة، والابتعاد عن منطق المحاصصة .
ليس هناك متسع من الوقت للترف السياسي ولا للكيد والمناكفات السياسية ولا للشروط والشروط المضادة، فاوضاع الناس والحال الذي وصل اليه البلد لم يعد يحتمل ذلك، وكل يوم يتأخر فيه تشكيل الحكومة يعود البلد فيه للوراء وتتفاقم فيه الازمات .