التاريخ دائماً يمثل المحكمة العادلة، والجهة المخولة للنطق بالحكم المنصف تراه مشرّعاً أبوابه العريضة أمام رؤساء دول أسهموا في صناعة تاريخ أوطانهم المجيد، وصانوا حق الأجيال فيه، فأنصفهم التاريخ بحكمه واضعاً إياهم في خانة العظماء، مثال الرؤساء جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وبشار الأسد.
هناك رؤساء دول حاولوا طمس إنجازات أسلافهم العظيمة، وقاموا بتزوير وتشويه صفحات تاريخهم المجيد، تماماً كما فعل الرئيس أنور السادات، الذي أنكر فضل جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، والسادات هو نفسه أطاح بقومية عبد الناصر، بعدما أخرج مصر العروبة من معادلة الصراع مع العدو الصهيوني عبر توقيع اتفاقية كامب ديڤيد المذلة.
العودة للتاريخ تمنحنا رؤية المستقبل، فإذا تمسك رئيس الدولة مستلم العهدة بمبادئ وقيم سلفه الذي أنصفه التاريخ، فلا بد للتاريخ من إنصاف الرئيس العتيد وإدخاله في خانة العظماء، وهذا هو حال الرئيس بشار الأسد الذي حافظ بكل أمانة على عظمة وتاريخ والده الرئيس حافظ الأسد.
نعود إلى تاريخ العظماء، لاستلهام العِبَر واستنباط مآلات مستقبل بلادنا وأجيالنا انطلاقاً من مواقفهم الوطنية المشرفة.
في الشهر الأول من العام 2000 سافر الرئيس حافظ الأسد إلى جنيڤ للاجتماع بالرئيس الأميركي بيل كلينتون، بعد إقرار العدو الصهيوني «بوثيقة رابين» المتضمنة موافقة العدو الإسرائيلي على الانسحاب من الجولان المحتل، لكن فراسة وحنكة الرئيس حافظ الأسد كشفت النيات الحقيقية للعدو الصهيوني الكامنة وراء موافقة العدو على الانسحاب من هضبة الجولان السوري في مقابل تنازل سورية عن أمتار من مياه بحيرة طبريا، حينها أوعز الرئيس حافظ الأسد للوفد المرافق بسحب الخرائط وفض الاجتماع مع كلينتون معلناً أن بحيرة طبريا هي سورية وستبقى كذلك، رافضاً التنازل عن شبر واحد من حقوق سورية.
هكذا أرسى الرئيس حافظ الأسد للأجيال السورية والعربية، القواعد والأسس التي تقدس حقوق الوطن والتي لا يمكن التفريط بها مهما كانت المغريات، وحين توجه كلينتون إلى الرئيس حافظ الأسد سائلاً سيادة الرئيس، ألا تريد تحرير الجولان؟ فكان رد حافظ الأسد المعبّر والتاريخي قائلاً: إن الجولان سوري وسيبقى كذلك، وإن لم يتحرر الجولان في زمني، فأنا كفيل بأن الأجيال السورية ستحقق هذا التحرير من الاحتلال الإسرائيلي وحتى آخر شبر من سورية.
في شهر أيار 2000 تم تحرير لبنان من جيش العدو الصهيوني، بيد أن الرئيس إميل لحود والرئيس سليم الحص اتفقا وبإصرار مشترك على تحصيل آخر شبر من حقوق لبنان على طول الحدود البرية والبحرية المشتركة مع فلسطين المحتلة، حينها لجأت الإدارة الأميركية ممثلة بوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت إلى ممارسة الضغط تارة والتهديد تارة أخرى لانتزاع 18 كيلو متر مربع من الأرض اللبنانية لمصلحة العدو الصهيوني، وآخر محاولات أولبرايت كانت عبر مكالمة هاتفية مع الرئيس لحود دخلت كتاب غينيس لكون المكالمة الهاتفية استمرت بينهما لأكثر من خمس ساعات متواصلة، ختمها الرئيس لحود برفض التهديدات الأميركية، وأقفل الهاتف بوجه وزيرة خارجية أقوى دولة في العالم.
الرئيس سليم الحص يقول في كتابه للحقيقة والتاريخ: «إن الموقف هو أمضى سلاحاً» وانطلاقاً من هذا القول، لم يكتف الرئيس إميل لحود بالحصول على كامل حقوق لبنان البرية بل أجبر العدو الصهيوني على الإقرار بترسيم حدود لبنان البرية انطلاقاً من نقطة رأس الناقورة المتعارف عليها بنقطة B1، وبحسب قانون البحار uniclose فإن حقوق لبنان البحرية تحدد انطلاقاً من نقطة رأس الناقورة أي B1 والتي تضمن حقوق لبنان البحرية عبر الخط 29 حكماً.
صلابة موقف الرئيسين لحود والحص في الدفاع عن الحقوق الوطنية أهدى أجيال لبنان دروساً وعِبَراً وبلاغة وطنية عالية في صون حقوق الوطن، وبالتالي فإن الموقف الصلب هو الذي أدخل الرئيسين لحود والحص تاريخ العظماء.
رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات الذين خلفوا الرئيسين لحود والحص حولوا معادلة الجيش والشعب والمقاومة من ذهبية إلى خشبية، وتواطؤوا مع الأميركي على حساب إهدار حقوق لبنان، وذلك لضمان التغطية الأميركية على فسادهم في الدولة وإقدامهم على نهب أموالها وسرقة أموال الشعب.
وبدلاً من التمسك بحقوق لبنان البحرية، قامت بعض الحكومات المتعاقبة بهدر ترسيم الحدود البحرية مع قبرص ونقلت نقطة الناقورة المعروفة B1 لأكثر من خمسين متراً حيث أهدر أكثر من 1400 كلم مربع من حقوق لبنان البحرية، وبضغط الوسيط الأميركي هوف أولاً ثم تلاه هوكشتاين تمت إضافة المنطقة التي خسرها لبنان لمصلحة العدو الإسرائيلي.
باختصار وبعد توقف جولات التفاوض بين لبنان والعدو الصهيوني برعاية الأمم المتحدة، وصلت الباخرة اليونانية ـENERGEAN POWER ترافقها سفينة Boka Sherpa المتخصصة بإطفاء الحرائق، وذلك للبدء بعملية استخراج الغاز والسطو على حقوق لبنان انطلاقاً من منطقة حقل كاريش المتنازع عليها.
ومع تخبط لبنان الرسمي بالفساد المستشري، ضاعت ثروة لبنان البحرية بين خط هوكشتاين 23 وبين الخط 29 الذي يمثل الحق اللبناني المكتسب، ومع وجود منظومة فاسدة فاقدة للحس وللمسؤولية الوطنية وبتواطؤ معظم المسؤولين اللبنانيين مع الإدارة الأميركية، طمعاً بمنصب أو لتحقيق مكاسب شخصية وطائفية على حساب الوطن وحساب الأجيال، ها هو العدو الصهيوني يزهق حق الأجيال جهاراً نهاراً ويسرق آمال اللبنانيين بالنهوض من حالة البؤس التي يعيشونها من دون حسيب أو رقيب.
قول واحد وللتاريخ المطلوب من رئاسة الجمهورية اللبنانية ورئاسة الحكومة والمجلس النيابي، إقرار وإمضاء مرسوم تثبيت حدود المنطقة البحرية اللبنانية رقم 6433 والذي يضمن حق لبنان عبر الخط 29 وإيداعه فوراً في الأمم المتحدة صوناً لحقوق لبنان وحق الأجيال.
البعض في لبنان سارع إلى دعوة المقاومة لتنفيذ تهديدات الأمين العام حسن نصر الله المعلنة، والتي اعتمدت مبدأ عدم السماح للعدو الإسرائيلي بالمساس بحق لبنان أو استخراج الغاز قبل السماح للبنان باستخراج ثروته النفطية.
صحيح أن قوة لبنان بمقاومته التي سبق لها وهزمت العدو الصهيوني في 2006 لكن المقاومة تدرس خياراتها بدقة متناهية ومدى انعكاساتها داخلياً وإقليمياً وحتى دولياً، وعلى ما يبدو أن المقاومة تتفحص بدقة وعناية تكلفة الرد المنتظر معنوياً وسياسياً، كما أنها تجهد في تأمين الغطاء السياسي اللازم من السلطات الرسمية اللبنانية، الأمر الذي يمنحها حق الرد على اعتداءات العدو الصهيوني على ثروة لبنان.
نقول وللتاريخ إن الرد على اعتداءات العدو الصهيوني وردعه عن الاستمرار بنهب ثروات لبنان هو واجب وطني وأخلاقي، تتحمله القوى الوطنية اللبنانية الفاعلة وفي مقدمها المقاومة اللبنانية، وأي تكلفة مهما عظمت يمكن أن تترتب على المقاومة وعلى لبنان جراء عملية ردع العدو الإسرائيلي، ستكون أهون وأقل بكثير من كلفة عدم قيام المقاومة بواجبها الوطني، لأن عدم قيام المقاومة بواجبها الوطني سيخلف انعكاسات سلبية وخسارة فادحة لا يمكن تعويضها، ليس داخلياً فقط إنما على مستوى الإقليم وعلى محور المقاومة.
بين الأمس واليوم، رجال عظماء دخلوا التاريخ من بابه الواسع لأنهم تسلحوا بمواقفهم الوطنية المشرفة ولم يساوموا ولم يتواطؤوا يوماً وصانوا أوطانهم ودافعوا عن تراب وثروات بلدهم رغم كل الصعوبات والتهديدات، أما اليوم فإننا نجد من تخلى عن التاريخ المشرف وترك مبادئ أسلافهم العظماء، إنهم ملوك الفساد الذين امتهنوا الخنوع والتواطؤ لإهدار حقوق الوطن وحقوق أجياله فأسقطهم التاريخ من صفحاته المشرّفة بعد نيلهم رتبة الخيانة العظمى وضمنوا بذلك لعنة التاريخ والأجيال.