منذ 99 عاما في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1917 صدر الوعد البريطاني المشؤوم بمنح اليهود وطنا قوميا في فلسطين، والذي حمل اسم وزير الخارجية البريطاني آنذاك “آرثر بلفور” لصدوره عنه وهو الرجل الذي عمل لمصلحة الصهيونية العالمية ونفذ ما طلب منه في هذا السياق، بدعم ومساندة من رئيس الحكومة البريطانية لويد جورج.
ويبدو أن “جورج وبلفور” قدما هذه الخدمات للصهيونية ردا لخدمات قدمتها هذه الحركة لبريطانيا لا سيما خلال الحرب العالمية الاولى، ومنها ما قدمه الكيميائي الصهيوني حاييم وايزمن الذي قدم معارفه العلمية للندن في الحرب العالمية الاولى، وقد نشرت الخارجية البريطانية في العام 1952 وثائق سرّية عن فترة 1919 – 1939، بما فيها تلك التي تتعلق بتوطين اليهود في فلسطين..
وبعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتفكك الإمبراطورية العثمانية في العام 1918، ومع فرض الإنتداب الإنكليزي على فلسطين من قبل عصبة الأمم في العام 1922، بدأت الحركة الصهيونية بالعمل الجدي في نقل اليهود من كل انحاء العالم الى فلسطين، وشهدت حقبة العشرينيات من القرن الماضي وكذلك خلال الحرب العالمية الثانية وصول أعداد كبيرة من اليهود الى فلسطين، وهنا يبرز الدور الأميركي في دعم قيام الكيان الصهيوني الغاصب وتركيز دعائمه في المنطقة من خلال الدور الدبلوماسي والسياسي الذي لعبته الولايات المتحدة في عصبة الأمم ومن ثم في الأمم المتحدة ومع مختلف دول العالم لدعم مسيرة الكيان الغاصب.
بريطانيا.. والمسؤولية التاريخية
وقد شهدت هذه المرحلة موجات من المقاومة العربية ضد الاستعمار البريطاني ومن ثم ضد الاحتلال الصهيوني للارض والمدن الفلسطينية، ولكن كانت المؤامرات الغربية دائما تعمل لاجهاض كل محاولة عربية لمقاومة الوصول اليهودي الى فلسطين، وبالتأكيد فإن صدور الوعد عن بريطانيا هو نتيجة لعمل بريطاني رسمي كامل وليس قرارا فرديا لشخص وزير الخارجية او رئيس الحكومة، وإن كان لهما الدور الفعال في انتاج وتمرير هذا القرار في الاطر الادارية والرسمية، وعندما نقول إن بريطانيا الرسمية هي من تقف خلف القرار فهي بالتالي تتحمل تبعات تاريخية وقانونية لكل النتائج التي أفرزها هذا القرار منذ صدوره وحتى يومنا الحاضر وبالتالي لا يعفى العرش الملكي البريطاني من هذه المسؤولية بل هو مسؤول كبير ومباشر عن كل المآسي التي نتجت عن هذا القرار.
وأبرز وأهم هذه النتائج -التي ستبقى بريطانيا تتحمل مسؤوليتها مع الصهاينة ومن يدعمهم وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية- هو الاعلان عن تأسيس كيان اسرائيلي على ارض فلسطين في العام 1948 وتشريد شعب بكامله من أرضه وأرض أجداده، بالاضافة إلى سيل من الجرائم التي ارتكبت منذ لحظة وصول الصهاينة عبر عصابات عديدة امتهنت قتل الابرياء بأكبر قدر ممكن وترويع من بقي على قيد الحياة بهدف تهجيره وترحيله وإجباره على ترك أرضه.
فالنتيجة المباشرة كانت قيام الكيان الغاصب وتشريد مئات آلاف الفلسطينيين بين دول الشتات العربي لا سيما في دول محيط فلسطين أي الاردن ولبنان وسوريا ومصر، ويكفي فقط إلقاء نظرة على أحوال الفلسطينيين في الداخل والخارج لنعرف بعضا من التبعات القانونية والأخلاقية التي تتحملها بريطانيا والولايات المتحدة عن تشريد شعب بكامله، ناهيك عن الجرائم المتواصلة للصهاينة داخل الاراضي الفلسطنيية من الضفة الغربية الى قطاع غزة مرورا بالقدس وغيرها من الاراضي المحتلة وداخل ما يعرف بحدود العام 1948.
ولكن بعد كل هذه السنوات هل تحقق فعلا الهدف من هذه المؤامرة البريطانية الاميركية الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني والامتين العربية والاسلامية؟ هل تحقق اقامة كيان ودولة آمنة لليهود في فلسطين أم ان متطلبات الأمان ما زالت تنقص هذا الكيان بما تجعله مهددا بالزوال بشكل مستمر؟
المقاومة حاضرة في كل المراحل..
بالتأكيد ان المتابع لمجريات الامور منذ إعلان القيام عن تأسيس كيان العدو او ما بات يعرف بـ”يوم النكبة” يدرك ان اصحاب الارض من الفلسطينيين في الداخل والخارج وكذلك أحرار الامة لم يتوقفوا يوما عن مقارعة المحتل بشتى الطرق ولم ينسوا قضيتهم الام التي توجه اليها بوصلة كل قضاياهم، فمن فرق المقاومة التي كانت تشكل في القرى والمدن الفلسطينية وبمبادرات فردية في كثير من الاحيان وصولا الى تأطير العمل المقاوم عبر مختلف فصائل وحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية والاسلامية مرورا بانتفاضة الحجارة في فلسطين في العام 1987، بالإضافة الى ما عرف بالانتفاضة الثانية في العام 1999 عندما انتهك رئيس وزراء العدو السابق المجرم أرييل شارون المسجد الاقصى ما تسبب بغضب عارم في كل الاراضي الفلسطينية.
والحديث عن المقاومة يجعلنا نعرّج ولو بشكل موجز على مرحلة ما بعد العام 2000 تاريخ اندحار العدو الاسرائيلي عن أغلب الأراضي اللبنانية المحتلة في جنوبه وبقاعه الغربي، حيث بات يؤرخ لمرحلة جديدة من عمر المقاومة مع تطور قدرات المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وقد سجل التاريخ انتصارات كبيرة في تموز وآب من العام 2006 عبر المقاومة الاسلامية في لبنان وصولا لهزيمة العدو في مواجهة المقاومة الفلسطينية خلال عدة حروب شنها على قطاع غزة في الأعوام 2008، 2012 و2014، إلا ان ما يحصل اليوم في الاراضي المحتلة من ثورة وانتفاضة فلسطينية متجددة هو قمة المقاومة والثورة المتوقدة في نفوس كل الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وباقي الارض المحتلة، لذلك نرى الرعب الاسرائيلي يتجلى في أعلى درجاته وصوره عبر الخوف الدائم والمستمر في كل ساعة وكل يوم ليلا ونهارا من سكين المرأة وسيارة الاب وحجر الطفل، فبات الدهس والطعن هاجسا يؤرق الصهاينة على امتداد الارض المحتلة.
قدرات المقاومة التي باتت “إسرائيل” عاجزة عن مواجهتها، جعلت الإستكبار العالمي بقيادة أميركا ومن معه من الدول الغربية بالإضافة الى كيان العدو، ينتقل الى مرحلة ضرب أواصر الأمة والسعي لتفتيتها وتمزيقها بشتى الطرق ولا سيما عبر ما سبق ان أعلنت عنه الإدارات الأميركية المتعاقبة من مخططات كـ”الشرق الاوسط الجديد، الفوضى البناءة(بحسب الرأي الاميركي)، صراع الحضارات، إيجاد صور جديدة للاسلام تمثله الجماعات الإرهابية كـ”داعش وجبهة النصرة” وغيرها من الجماعات التي لعبت أجهزة المخابرات الغربية في تشكيلها والاستفادة منها.
فكل ما يجري في المنطقة اليوم بالتأكيد هو بسبب زرع هذه الغدة السرطانية “إسرائيل” في جسد الأمة رغم أنها غير قابلة للحياة في محيط لا تتناغم معه ولا يقبلها بأي شكل من الأشكال، واللافت أن نفس الجهات التي تآمرت في الماضي على الأمة وأعطت الوعد بتأسيس الكيان الاسرائيلي هي نفسها اليوم تعمل على تفتيت عضد الامة وتقسيم المقسم من دولها وبلدانها، فعلى العرب والمسلمين شعوبا وحكومات عدم الوقوع من جديد في فخ المؤامرات الاميركية الغربية ومواجهتها بكل الأشكال والسبل.
غرافيكس: وسيم صادر
المصدر: موقع المنار