لم تزل مفاعيل العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تمثل الحدث الأبرز على الصعيد العالمي، مترجمة للصراع الجيوسياسي والدبلوماسي والاقتصادي الحاد، بين روسيا وبين أميركا وغرب مدعوم من دول حلف الناتو.
لم يعد الحديث عن نتائج العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا محل نقاش أو تخمين، فبرغم عدم تحقيق الحسم الروسي السريع على غرار ما حصل في جورجيا 2008، ورغم الخسائر التي لحقت بالقوات الروسية وتباطؤ تقدمها، وبعد مرور 45 يوماً على انطلاق العملية الروسية، بات من الواضح أن الأهداف الروسية الرئيسية من العملية العسكرية الخاصة أضحت في حكم المحققة.
بعد المجازر البشرية التي ارتكبتها كتيبة أزوف في إقليم الدونباس، ها هي روسيا تعلن نجاحها في تحرير معظم الإقليم وحماية المواطنين المؤيدين لروسيا في تلك المنطقة.
من جهة ثانية وبعد أن كان الطلب الروسي بحياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى عضوية حلف الناتو يعتبر من المحرمات، ها هو الرئيس الأوكراني فلاوديمير زيلنسكي يصرح بالقول: إن حياد أوكرانيا صار أمراً جدياً ولا مفر منه.
نجحت روسيا في الكشف عن امتلاكها وثائق دامغة، تثبت وجود أكثر المعامل الجرثومية العاملة في أوكرانيا والمصنعة للأسلحة البيولوجية الفتاكة لمصلحة البنتاغون الأميركي، ما يشير بوضوح عن النوايا الأميركية الخبيثة ليس تجاه روسيا فحسب إنما تجاه البشرية.
أحكمت روسيا سيطرتها على معظم المفاعلات النووية التي تهدد الأمن الروسي والعالمي العاملة في أوكرانيا وبذلك تمكنت روسيا من إزالة أهم عامل مهدد لأمنها القومي.
معظم العقوبات الاقتصادية الأميركية الغربية على روسيا لم تأت أكلها، خصوصاً بعد إصرار روسيا على تضمين ورقة الاتفاق النووي في فيينا، بنداً يجنب إيران أي عقوبات لتعاملها مع روسيا في المستقبل، ما عطل فعالية أي عقوبات على روسيا وأعطى إيران حرية التعامل اقتصادياً مع روسيا، أضف إلى ذلك إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على توقيع قرار منع بيع الغاز والمشتقات النفطية للدول غير الصديقة إلا بالروبل الروسي، وبذلك نستطيع القول: إن بوتين رد الصاع صاعين، موجهاً لكمة غير متوقعة لأميركا ولأوروبا التي أضحت تعاني من تهديد فعلي جراء الضرر الاقتصادي الذي لحق بمصالحها إضافة إلى إفراغ جيوب مواطنيها نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة فيها.
الغرب بات متيقناً من خسارة المواجهة مع روسيا في أوكرانيا وليس مستغرباً لجوء الغرب وأميركا إلى استنهاض العامل الإنساني، عبر اتباع أساليب تزوير الحقائق، وعرض لأفلام مبركة عبر وسائل الإعلام الأميركي الغربي، لاتهام روسيا بارتكاب مجازر بحق الشعب الاوكراني، واخر هذه الأفلام صوّر في منطقة بوتشا الأوكرانية، ليتضح فيما بعد أن كتيبة آزوف النازية النزعة هي من أقدم على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء في بوتشا، ما يذكرنا بأساليب الغرب التي اتبعت في سورية عبر ما يسمى بـ«الخوذ البيضاء»، المدعومة من المخابرات البريطانية، بعد الكشف عن تورطها المباشر بتلفيق ملف الأسلحة الكيميائية في سورية.
زيارة رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون لأوكرانيا والتجول في شوارعها وبشكل استعراضي، وإعلانه عن ضرورة تزويد أوكرانيا بمختلف أنواع الأسلحة لمواجهة روسيا، لهو دليل على وجود نية غربية أميركية لإطالة أمد الحرب لسنوات في أوكرانيا، ذلك بهدف استنزاف روسيا عسكرياً واقتصادياً، وتآكل إنجازاتها، وللتقليل من النتائج الايجابية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
ما يعزز النية الغربية الأميركية بإطالة الحرب في أوكرانيا، ما صرح به المتحدث باسم البنتاغون وجاء ذلك في سياق رده على سؤال حول مآلات الحرب فيها فأجاب قائلاً:
من الصعب الجزم بأي نتائج هناك، لكن المؤكد أن الحرب في أوكرانيا ستطول لسنوات وربما لعشر سنوات.
لم يتوان بوريس جونسون عن توجيه انتقادات لاذعة بحق الرئيس الفرنسي ايمانول ماكرون، بسبب لقائه وحواره المستمر مع الرئيس بوتين، والملاحظ أن انتقادات جونسون أتت في خضم الحملة الانتخابية الجارية في فرنسا، وسعي الرئيس الفرنسي ماكرون، للفوز بفترة رئاسية جديدة تمكنه ريادة الاتحاد الأوروبي.
إصرار ماكرون على التواصل والحوار مع بوتين، يأتي على أمل إحداث خرق في جدار الدبلوماسية الروسية، لكن موقف جونسون المنتقد لماكرون، دليل على أن بريطانيا، أضحت تشكل رأس حربة مسموماً في صراع روسيا مع الغرب الليبرالي، بينما الشعب الأوكراني وحده يدفع ثمن سياسات أميركا والغرب المتوحش.
من الواضح أن بريطانيا جونسون، تعمل بكل طاقاتها المتاحة، لتعطيل أي حوار أوروبي مع روسيا، كما أن بريطانيا تسعى بكل طاقاتها لتوريط روسيا بحرب استنزاف طويلة، على غرار الحرب الروسية في أفغانستان، وذلك منعاً لتحقيق أي توازن جيوسياسي جديد، من شأنه تمكين روسيا وحلفائها، إيران والصين، وضع نظام سياسي اقتصادي جديد، متحرر من القبضة الأميركية الغربية.
مؤخراً روج بعض الكتاب والمحللين إلى حتمية انتقال شرارة الحرب الأوكرانية إلى سورية، متسائلين عما يمكن أن تستفيد منه سورية من مواقفها المؤيدة لروسيا؟
وهنا نقول:
إن القيادة في سورية تكاد تكون الوحيدة التي اتخذت موقفاً جريئاً، بالإعلان عن تأييدها المطلق للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، على عكس دول نأت بنفسها مثل الصين وإيران، وهذا الموقف الرسمي السوري، محط تقدير واهتمام في الكرملين، الذي يعتبر سورية، الحليف الإستراتيجي في المنطقة.
إن سورية لم تتخذ موقفها المؤيد لروسيا عن عبث ولا مسايرة، وموقفها نابع عن وعي وإدراك وعن دراسة معمقة، تنطلق من رؤية ثاقبة أثبتت صوابيتها، ترنو إلى تحقيق المصالح السورية الإستراتيجية مع روسيا في المواجهة المشتركة مع الغرب، ولأن سورية تعلم علم اليقين أن بوتين يخوض مواجهة شرسة مع الغرب لا هوادة فيها مهما كانت التضحيات، وعلى قاعدة إما رابح وإما رابح، تماماً كما خاضها الرئيس بشار الأسد مع الغرب وعلى القاعدة نفسها، لذلك فإن سورية المتيقنة من انتصار روسيا بوتين في حرب تصحيح التاريخ، من الطبيعي أن تكون في طليعة الرابحين في هذه المواجهة، لتصبح الشريك الأساسي بوضع حجر الأساس في أي نظام جيوسياسي اقتصادي جديد، وفي كتابة التاريخ.