إنه لبنان المعروف بـ«الجمهورية اللبنانية»، هذا الوطن الذي أنهكته حروب الدول على أرضه، نهشته الطوائف والمذاهب، كل طائفة تريده بهوية مختلفة، فالبعض يريده محايداً معزولاً عن محيطه وعمقه العربي، والبعض الآخر يصر على هوية لبنان العربية الملتزمة بالقضية الفلسطينية، وهناك قلة قليلة تريد لبنان أداة طيعة للغرب ولدول الخليج المطبعة مع العدو الإسرائيلي.
العام 1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، اللبنانيون انقسموا بين مؤيد للفلسطينيين وبين مدافع عن قضيتهم المقدسة، وبين فريق أعلن الحرب عليهم لطردهم من لبنان بحجة امتلاكهم سلاحاً متفلتاً وغير شرعي.
في العام 1976 أسهم الدخول السوري إلى لبنان في إنهاء الحرب الأهلية، فتشكلت مرجعية أمنية ألزمت الجميع بالانكفاء والانضباط تحت السقف السوري، حتى العام 1982 تاريخ اجتياح العدو الإسرائيلي للبنان.
لم يكن العدو وحده من اجتاح لبنان، بيد أن الوثائق المسربة أثبتت أن المملكة العربية السعودية، هي التي مولت عملية الاجتياح الإسرائيلي، بغرض تهجير الفلسطينيين من لبنان، وطمس قضيتهم.
في العام 1982 برزت جبهة المقاومة اللبنانية ضد العدو الصهيوني تحت مسمى «جمّول» التي نجحت في طرد جيش الاحتلال الإسرائيلي من العاصمة بيروت، بعدها جرت التسوية الأميركية الدولية، وقضت بإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
بخروج الفلسطيني اعتقد العدو الإسرائيلي بأن حدوده الشمالية مع لبنان صارت آمنة، أنشأ ما يسمى بالحزام الأمني، لكن عمليات المقاومة اللبنانية العسكرية المتمثلة بحزب الله، كبدت جيش العدو خسائر فادحة.
الكلفة الباهظة في الخسائر البشرية، أجبرت العدو على اتخاذ قرار أحادي بالانسحاب المذل من لبنان في 23 من شهر أيار العام 2000، ومن دون إبرام أي اتفاق سلام، وهو ما سمي بعيد التحرير في لبنان.
العدو الصهيوني لم يهضم الهزيمة في العام 2000، في هذه الأثناء جرى تهيئة المسرح العربي والدولي إلى شرق أوسط جديد، وهو عنوان لإبرام السلام والتطبيع مع العدو الصهيوني.
في 2005 اغتيل الرئيس رفيق الحريري وعلى الفور اتهمت سورية والمقاومة من أجل تأليب المجتمع الدولي ضدهما، على الأثر، أُخرج السوري من لبنان، اعتقدت السعودية بأنها تخلصت من معادلة السين السورية، وبخروج السوري انكشف ظهر المقاومة اللبنانية، وخيّل للسعودية بأن الساحة اللبنانية، صارت تحت أمرة السين السعودية فقط.
وبتمويل سعودي أميركي شنت حملة شعواء ضد سورية وحزب الله، جرى من خلالها تهيئة المسرح لعملية عسكرية إسرائيلية مماثلة لاجتياح 1982 لكن هذه المرة بغرض القضاء على المقاومة اللبنانية، فكانت حرب تموز 2006.
مُني العدو الصهيوني بالهزيمة النكراء، وانتصرت المقاومة اللبنانية انتصاراً إستراتيجياً وباعتراف العالم، أما السعودية التي وصفت إنجاز المقاومة بـ«المغامرة غير المحسوبة» فقد أصيبت بالخيبة جراء انكسار العدو الصهيوني.
بعض اللبنانيين الموالين للسعودية وللسلام مع العدو الصهيوني، أصيب بالإحباط، ولم يعترف بانتصار المقاومة، هذا البعض استعاد نغمة السلاح غير الشرعي للمقاومة، وبتمويل أميركي سعودي بدأت حملة تشويه وشيطنة صورتها، حتى إن السعودية وصفت المقاومة اللبنانية بـ«الميليشيا الإرهابية»، فقط لأنها ألحقت الهزيمة بالعدو الإسرائيلي.
إذاً ومع إخفاق مشروع الشرق الأوسط الجديد، فإن دول الخليج المؤيدة للسلام مع العدو الإسرائيلي، منيت أيضاً بالهزيمة، فكانت المؤامرة العربية الإسرائيلية اللئيمة على سورية العروبة وروح المقاومة.
قررت المقاومة المشاركة في الدفاع عن الهوية العربية وعن قلب العروبة النابض، وسورية التي صمدت صموداً أسطورياً، وقلبت كل الموازين، ها هي تستعيد دورها الإقليمي والدولي، ومرة أخرى منيت دول المؤامرة ودول السلام مع العدو بهزيمة نكراء.
في 2020 حدث انفجار كارثي في مرفأ بيروت، وبالأسلوب نفسه الذي اتبع في 2005، عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وجه الاتهام باتجاه حزب الله وسورية، وأيضاً لم تنجح محاولات الضغط والاستنسابية عبر التحقيق القضائي.
انطلقت تظاهرات احتجاجية، والجملة الأكثر تداولاً بين منظماتNGOs ، أي «منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية» المدعومة من السفارات الأميركية والسعودية هي: أن سلاح حزب الله غير الشرعي هو سبب الانفجار ومسبب للفساد المستشري في الدولة وللأزمة المعيشية، والهدف هو تأليب المجتمع اللبناني والبيئة الحاضنة على المقاومة وسلاحها.
السعودية وأميركا وعبر أدوات الفتنة، تستكمل بالضغط على لبنان اقتصادياً ودبلوماسياً أو بافتعال الفتن الأمنية، عبر عملائها الحصريين اولئك هم قتلة الرئيس رشيد كرامي.
في المقابل حزب الله، وضع الملح على الجرح، واستطاع تدارك الأمر، فلجؤوا إلى افتعال الفتنة المذهبية عبر حادثة الطيونة، ورغم سقوط شهداء، ضغط حزب الله على جرحه، تجنباً لفتنة حرب أهلية قاتلة لا تبقي ولا تذر.
فجأة قامت السعودية بمغامرة غير محسوبة، افتعلت المملكة أزمة مع لبنان، بحجة هيمنة حزب الله على قراره السياسي، وبقرار سعودي مسبق، أقفلت كل الأبواب وكل الطرق ومنعت كل المعاملات التجارية مع لبنان.
إذاً قررت الرياض التخلي عن لبنان، وتركته يواجه سكرات الموت البطيء، القرار يعني الإعلان عن موت اتفاق الطائف، يعني البحث عن صيغة جديدة للبنان، لن يكون فيها للسعودية حصة السين كما كان في اتفاق الطائف.
في اتفاق الطائف، وافقت السعودية على حذف مسمى «الجمهورية العربية اللبنانية» واكتفت بتسمية «الجمهورية اللبنانية» ذي الوجه العربي، وذلك نزولاً عند رغبة أولئك الذين أنكروا عروبة لبنان، وهم الآن رأس حربة في مشروع شيطنة المقاومة اللبنانية، وهم من المطالبين بنزع سلاحها «غير الشرعي» لأنه سلاح مقاوم للعدو الإسرائيلي، أولئك هم من رفض التبعية السعودية أيام رفيق الحريري، وأولئك هم أنفسهم يطالبون اليوم بفدرلة لبنان.
السعودية أوغلت في حصار وابتزاز وامتهان كرامة دولة قطر، ثم تراجعت، السعودية وصفت الحوثيين بالفرس والمجوس، ثم تراجعت، وأعلنت استعدادها للحوار معهم، السعودية هددت إيران بنقل المعركة إلى طهران، ثم تراجعت، وعقدت مع الإيراني جلسات حوار وصفت بالبناءة، وها هي السعودية نفسها توغل في ابتزاز لبنان سياسياً واقتصادياً وبامتهان كرامته وكرامة اللبنانيين بعدما وصفت المقاومة اللبنانية التي حررت لبنان من العدو الصهيوني ودافعت عن قلب العروبة بـ«الإرهاب».
السعودية ستتراجع عن مغامرتها غير المحسوبة مع لبنان، كما سبق لها وتراجعت مع قطر والحوثيين والإيرانيين، لكن إلى حين تراجع السعودية عن مغامرتها غير المحسوبة، ستجد أن لبنان القوي في ضعفه، قد تحول إلى «الجمهورية العربية اللبنانية» اعترافاً بعروبة المقاومة اللبنانية، الجمهورية المتمسكة بلاءات جمال عبد الناصر الثلاثة: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بالعدو الصهيوني، الجمهورية المتكاملة سياسياً واقتصادياً مع قلب العروبة النابض سورية.
لبنان ما بعد إتفاق الطائف، نحو الاسم الذي يليق بعروبته وبعروبة مقاومته، هو «الجمهورية العربية اللبنانية» لأنه اسم يستحقه بجدارة.
الموقع غير مسؤول عن النص وهو يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط
المصدر: خاص