نشهد اليوم جبهات من المفاوضات والتسويات ما لم يكن ممكنا في العقود السابقة. فإثر انهيار الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩٠، بسطت الولايات المتحدة الأميركية سيطرتها على العالم، وباتت المقرر لكل الأمور دون منازع.
وأبرز محطتين غالت الولايات المتحدة الأميركية فيهما، كانتا أفغانستان والعراق، وقد هيأت المشاريع التفتيتية للمنطقة على أن تبدأ بتطبيقها عقب انتهاء الحرب العراقية، وفق ما عرف في حينه ب”الفوضى الخلاقة”.
برزت المقاومة العراقية، ونهضت بقوة، وراحت تشن الضربات على الأميركيين، مما اضطرهم للإعلان عن الانكفاء، والانسحاب، ساعين كبديل من ذلك لتطبيق مشاريعهم بطرق أخرى، منها ما سمي الربيع العربي، ومنها الحروب المباشرة على ليبيا وسوريا واليمن.
ولم يعد خافياً أنه نتيجة كل تلك الخطط والمشاريع كان الفشل الذريع لقوى العدوان على المنطقة، وسقوط الاعتقاد بان عام ٢٠١١، وتحت عناوين الربيع العربي، والحرية والديمقراطية تستطيع تلك الدول إحداث تغير جوهري في خارطة المنطقة عبر الفوضى، وتفكيك الجيوش تمهيدا لترويض محور المقاومة عبر استنزاف إيران، وانهاك حزب الله، ودخول المنطقة العصر الاميركي.
في الأيام الأولى من تجارب الربيع العربي ، سقطت مصر، وتونس وبعد أشهر جاء دور ليبيا ، ومن ثم بدأ التحضير للهجوم على سوريا بالتزامن مع إشغال اليمن والعراق. لم يكن في حسابات دول الخليج والتحالف الغربي ان سوريا ستصمد، ولا أن اليمن لن يكون لقمة سائغة، إضافة إلى استسهال تدجين العراق.
شكلت دول الخليج مع تركيا غرفة عمليات لادارة أزمة المنطقة بدعم اميركي، ودخلت المنطقة برمتها حروبا ضروس مما استدعى تطوير جبهة محور المقاومة في كل ساحات المواجهة، وجاء الدعم الروسي مستندا على قوى جدية، وطيلة السنوات العشر الماضية، تعبر المنطقة في مخاض عسير.
إن الصمود الأسطوري لقوى المقاومة، إن في سوريا أو اليمن، انعكس سلبا على تحالف قوى العدوان، ومن تداعياته بداية التفكك والتراجع، ونشوب الخلافات الإقليمية بسبب هذا الفشل، بينما يستمر محور المقاومة متماسكا ، قويا، وفي حالة تطور متواصل.
وانتقلت سوريا من الدفاع إلى الهجوم وخاصة ان تنسيق العمليات بين العراق وسوريا في جبهتي الموصل- دير الزور أعطى نتائج سريعة، وفعالة، وتم طرد ارهابيي داعش من المحافظتين، مع إكمال التحرير في بقية المحافظات بوتيرة عالية وسريعة.
كما بدأت جبهات اليمن تستعيد عافيتها أيضا حيث انتقل اليمن إلى الهجوم المضاد خاصة بعد الصمود الكبير في جبهة “الحديدة” على الساحل الغربي، ومن ثم الانتقال إلى تحرير جبهات كتاف-الجوف- حجة، وقد جاء ذلك بعد تطوير منظومات اليمن الصاروخية ، والطائرات المسيرة ، مما أتاح استهداف العمق السعودي مرّات ومرّات.
لا شك أن تلك الانتصارات حولت اليمن إلى دولة محورية، وكذلك كانت سوريا تسجل الانتصار تلو الآخر مما فرض واقعا جديدا.
ويأتي بروز روسيا كدولة قوية في الشرق الأوسط لتصبح لاعبا كبيرا في المحافل الدولية، كما أن إيران استطاعت تجاوز العقوبات، والحصار، والتغلب على قرارات أقوى دولة في المنطقة، مما ارغم الاميركي على العودة إلى التفاوض.
ومع فوز جو بايدن بالانتخابات الأميركية بدأت مرحلة جدية من البحث عن حلول، و تسويات خشية الخسارات المتزايدة وانقاذ ما يمكن إنقاذه.
من هنا تجري محاولات الالتفاف على نتائج الميدان في اليمن عبر مبادرات أميركية، وخليجية، ولكن كل المؤشرات تؤكد أن حسم معركة مأرب ستكون مقررة وحاسمة، وان وقائع الميدان هي ما سيقرر شكل التفاوض وسيفتح الباب واسعا أمام محور المقاومة لفرض سياسته واستراتيجياته.
*كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية