“يُقال في مجالس العزاء، أن الحُسين ضحَّى بنفسه لصيانة شرف وأعراض الناس، ولحفظ حرمة الإسلام، ولم يرضخ لتسلُّط ونزوات يزيد، إذاً تعالوا نتخذه لنا قدوة، لنتخلص من نير الاستعمار، وأن نفضِّل الموت الكريم على الحياة الذليلة”(موريس دو كابري).
ليس إحياء المجالس العاشورائية، حدثاً سنوياً نمطياً، يستذكر خلاله المؤمنون ما حصل منذ مئات السنوات، عندما قارعت سيوف ثورة المظلومين ظُلم واستكبار الظَلَمَة حتى الشهادة، بقدر ما أن عاشوراء غَدَت واقعاً مُعَاشاً كل يوم، واستمرارية مواجهة بين الحالة الإنسانية التي تنشُد العدالة في الأرض، وبين طُغيان الفساد والقهر وكل ما يُخالف الأحكام السماوية والقوانين الوضعية لحقوق الإنسان.
ولسنا نتناول في مقالتنا هذه بذكرى عاشوراء، الشؤون الدينية في فكر الإمام الحُسين عليه السلام، بقدر ما نعتبر هذا الفكر عابراً للأزمنة والأديان والطوائف والمذاهب، حاملاً النفحة الإنسانية المُستدامة في مواجهة الظُلم، والتأسيس الفعلي للكيان المجتمعي العادل، وكما حمل الحُسين سيف الدفاع عن المظلومين حتى الشهادة، وكتب بدمائه ثقافة المقاومة بوجهِ كلِّ فكرٍ يزيديٍّ ظالم، بات وجود كل “يزيد” يجعل من كل “حُسين” حتمي الوجود في عالمٍ لن ينتهي فيه الظلم، ولن تنتهي فيه مقاومة المظلومين، منذ زمن السيوف وصولاً الى زمن الصواريخ، وغدا الإمام الحُسين مدرسةً إجتماعية تربوية شاملة، تتوارثها أجيالٌ تجتمع على القِيَم السامية، قادمة من سائر جغرافيات الأرض ومن مختلف المناهِل الدينية والفكرية والحضارية، ويُخطىء من ينسِب الحُسين كنبراسٍ وراية في أيامنا هذه، الى بيئة هويتها محدَّدة في زمن انهيار الحدود وتمزُّق الأوطان حيث لا يُكتب البقاء فيها للضعفاء سوى بالدمّ والدموع.
منذ أيام، مات الرئيس الأسبق للكيان الصهيوني شمعون بيريز، وعزَّى به مِن العرب مَن عزَّى، وجاء التعليق على وفاته من بعيد، وقال فيه الكاتب روبرت فيسك: “لن أنسى رؤوس الأطفال المقطوعة في قانا، فكيف يكون بيريز صانع سلام؟”، ومن قانا وكل لبنان، الى غزَّة وكل فلسطين، الى سوريا والعراق وليبيا، وصولاً الى اليمن، ظُلمٌ وقتلٌ وتنكيلٌ وتهجير، ولم يتعب “يزيد” من الفتك، ولم يرتوِ من لعق الدماء، وما على كلِّ “حُسينيٍّ” من أي دين ومذهبٍ كان، سوى أن يسير على نهج المقاومة ودحر الظلم، منذ أطلق الإمام الحُسين ثورة الصرخة بالسيف، حتى وصل أحفاده الى ثورة الصواريخ، التي بدأتها المقاومة العظيمة في لبنان وانتقلت ثقافتها الى قطاع غزَّة، ومنها الى اليمن.
من لبنان بدأت فلسفة الردع لإيقاف كُفر “يزيد”، وقطع يده من المِرفق، وملاحقته الى عُقر داره، كي لا يُستعاد الظلم الذي لحِق بأطفال قانا الأطهار، وبأطفال غزّة الأبرار، وفي كل ميادين الإنتحار العربي، وهي نفسها، ثقافة المدى غير المحدود في الردِّ على العدوان تُثمر، وكما صواريخ لبنان بإشارة من سُبابة قائد المقاومة وحفيد الحُسين، دكَّت تحصينات العدو وبنيته التحتية وأسكنت مدنييه الملاجىء، كذلك فعل أبناء غزّة، وكذلك فَعَل القائد اليمني المقدام السيد عبد الملك الحوثي في عُقر دار الوهابية التكفيرية مؤخراً.
في الليلة الأولى من محرَّم، أطل سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من مجمع سيد الشهداء، وأكَّد في كلمته أن الإمام الحسين ما زال يملك قدرة الإستنهاض، وهذا ما حصل في الثورة الإسلامية في ايران، والمقاومة الإسلامية في لبنان، وما يحصل من مواجهة مع كل الجماعات التكفيرية، يُثبت أن المنطق والروح والعزم للمقاومة ما زالت فاعلة وحاضرة، وأن ما نعيشه اليوم، يؤكد ان الدمّ انتصر على السيف، وفي اكثر من مرحلة في هذا العصر نشهد انتصار الدم على السيف، الدم المُحاصر والمتآمَر عليه في اكثر من ساحة وميدان.
وكانت أيضا إطلالة للسيد عبد الملك الحوثي، بمناسبة الهجرة النبوية الشريفة، وخاطب كافة شرائح الشعب اليمني الصامد، ولفت الى أن استكبار أميركا وإسرائيل ومن التحق بهما، يسعى لاضطهادنا كشعوب والتحكُّم الكامل بنا ونهب ثرواتنا، وما يُلفِت في خطاب السيِّد الحوثي هو التطابُق في العبارات التوجيهية للجماهير مع خطاب السيد نصرالله، فتنساب وتنسكب في القلوب، كلمات الإيمان والعزم والعمل والتضحية والجهاد والمقاومة والنصر ترياقاً لجماهير تصنع النصر.
والمُلفِت أيضاً في كلمة السيد الحوثي، أنه أكَّد فيها بإصرار على تعزيز القوَّة الصاروخية اليمنية وضرورة تطويرها، إثر تدمير الجيش اليمني واللجان الشعبية السفينة الحربية الإماراتية “سويفت” المُستأجرة من أميركا قبالة سواحل “المخاء”، بعد استهدافها بصاروخ نوعي، مما أدى لمصرع ٢٢ من مشاة البحرية الاماراتية إثر الضربة، كما لفت المصدر، أنه وبعد استهداف البارجة وتدميرها شوهدت زوارق حربية تهرع الى مكانها وتم استهدافها بصليات من صواريخ الكاتيوشا، واستذكرنا مع احتراق “سويفت” على الساحل اليمني، تدمير البارجة الإسرائيلية “ساعر” قُبالة السواحل اللبنانية خلال عدوان تموز، حين كان سماحة السيِّد نصرالله يُلقي كلمته، وأُدخِلت إليه قُصاصة ورقٍ تُفيد أن ضرب ساعر سيتمّ في هذه اللحظة، وأشار عبر الشاشة وبشَّر اللبنانيين يومذاك وقال: “أنظروا ها هي البارجة ساعر تحترق”!
بين “ساعر” و”سويفت” قاسمٌ مُشترك هو الصاروخ المُقاوم كما صدور المقاوِمين، وإذا كان من الطبيعي أن يُبدي رئيس وزراء العدو الإسرائيلي إستياءه المتكرر من المراسم العاشورائية، ويشاركه قلقه منها بعض حكَّام الخليج، فلأنهم ومعهم أميركا، يرُون في الجماهير المليونية التي تخبط على صدورها وعداً وعهداً وقَسَماً باستمرار مسيرة الحُسين عليه السلام، لكن السيف الذي كان يُزيِّن الميادين العاشورائية في الأزمنة الغابرة، غداً صاروخاً ضارباً في البرِّ والبحر والجو، وأينما حلّ “يزيد” سواء في إسرائيل أو السعودية أو أميركا، أو في أيِّ كيانٍ يرعى الإرهاب، سيطلع له “الحُسين” بصواريخ على عدد القبضات التي تخبِط على الصدور ما دام هُناك ظُلم، وما دامت الكرامة تُطلِق النار من صُدور المظلومين…
المصدر: موقع المنار