نص الخطبة
كيف نستقبل السنة الجديدة؟
لقد مضت سنة من عمرنا وها نحن ندخل في سنة جديدة فكيف نستقبلها؟
السنوات والاشهر والايام والساعات والوقت والزمن هو مسؤوليَّتنا، لأنّه يمثل عمرنا وحياتنا ووجودنا، وقد حمّلنا الله مسؤوليَّة الزمن، وجعله شاهدا علينا، يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في دعاء الصباح: “اللّهمّ وهذا يومٌ حادثٌ جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ”. فالزمن شاهد علينا يراقبنا هل نقوم بمسؤوليتنا التي حملنا الله اياها ام اننا نتخلى عنها؟ وهل اننا نطيع الله في فسحة هذا الزمن ام اننا نعصيه فيه؟ وعلينا أن ندرك أنّ لهذا الزمن الشاهد الحاضر إحساساً عميقاً بنوعيّة ما نقوم به “إن أحسنّا” فيه واستثمرناه بطاعة الله والعمل الصالح ، ودعنا بحمد، اي وهو يثني علينا ويمتدحنا وكأنه يرافقنا إلى الباب كما يرافق الإنسان زائراً عزيزاً ليودعه وليقول له بامان الله أو نستودعك الله، ولكن عندما نسيء، فإنه ينظر إلينا نظرة ازدراء وغضب، بل يفارقنا غير مبال او مهتم بنا. ولاحظوا التفرقة في تعبير الإمام زين العابدين بين “ودعنا” و”فارقنا”، أي أن الإقبال بحميميّة وبحنان، بينما المفارقة تمثل اللامبالاة.
مسؤوليتنا في راس السنة الجديدة ان نقف وقفة تأمل وتفكر فيما مضى، وأن نعمل جردة حساب، كما يفعل الاقتصاديون في آخر السنة، لنرى كم كان لنا من الحسنات وكم كان لنا من السيئات في تلك السنة؟، وماذا قدمنا لآخرتنا، هل صنعنا ما يبني حياتنا الخالدة لتكون في الجنة ونعيمها ام اننا فعلنا ما يودي بنا الى النار وجحيمها؟ ، يجب ان ندقق في كل ما صنعناه في الزمن لنعرف حجم رصيدنا عند الله سبحانه وتعالى {يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظرْ نفسٌ ما قدَّمت لغد} لا بد ان تتأمل في كل ما قدمته لآخرتك.
ولذلك، لا بدّ من أن تكون نهاية السنة وبدايتها مرحلة تأمل وتفكير ومراجعة للنفس، نتأمل في أحداثها واوضاعها وما جرى فيها لنأخذ العبرة، ونفكر ونخطط لمستقبل افضل، ونراجع كل اعمالنا وسلوكنا واخلاقنا ومواقفنا وعلاقاتنا هل كانت حسنة ومنسجمة مع ما يريده الله ويرضاه ام كانت خلاف ذلك؟ فإن رأينا ان اعمالنا كانت حسنة سألنا الله أن يوفقنا لأمثالها ولما هو أفضل منها، وإن كانت سيِّئة،استغفرنا الله ورجعنا وتبنا إليه منها،وطلبنا من الله ان يجعل مستقبلنا مليئا بالطاعات وليس مثقلا بالسيئات والمعاصي، لأن الله يريد لنا أن نظلّ في خطّ تصاعدي، لا أن نعيش في خط تنازلي. كما يقول الامام زين العابدين(ع): “اللّهمّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيامي يوم ألقاك فيه”؟
في بداية السنة الجديدة علينا ان نفكر كيف نجعل مستقبلنا خيرا من ماضينا وكيف نحول سنتنا الجديدة الى سنة خير ؟.
وحتى نحول سنتنا الجديدة الى سنة خير، يجب أن نركّز على أهميّة تدبّر الأُمور وتعقلها، فالمطلوب التأني في اعمالنا وسلوكنا ومواقفنا بعيداً عن الارتجالية كي نضمن سلامة ما نقوم به أو نفكّر فيه، فالمؤمن هو مَن يدرس الأُمور ويتدبّر فيها ولا يكون إنساناً عاطفياً تحرّكه الغواطف والانفعالات والعناوين والشعارات، بل يتحرك في اموره بذهنية التخطيط ويستفيد من الخبرات والتجارب وعبر الماضي.
فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) انه قال: «إنّ رجلاً أتى إلى النبيّ (ص) فقال: يا رسول الله اوصني، فقال له رسول الله (ص): فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم يا رسول الله، فقال له رسول الله (ص): فإنّي أُوصيك، إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يكن رشداً فامضه، وإن يكن غياً فانته عنه».
فلا بدّ للإنسان من أن يتدبّر أمره في كلّ ما يريد القيام به، سواء على المستوى الشخصي او على المستوى العام قبل أن يبدأ بالعمل، ليعرف مداخل الأُمور ومخارجها، ومصادر الأُمور ومواردها، وليعرف النتائج السلبية أو الإيجابية الناجمة عن القيام بهذا العمل أو ذاك. لأنّ الإنسان إذا كان متدينا، عليه أن يزن كل تصرفاته ونشاطاته سواء كانت اجتماعية او سياسية اوغيرها بميزان الدين واحكام الدين، كما جاء في الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام): ثلاثة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله: رجل أنصف الناس من نفسه، ورجل لم يقدم رجلا ولم يؤخر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله عز وجل رضى أو سخط … ».
فالانسان المؤمن عندما يريد القيام باي عمل عليه ان يسأل: هل ان ما يقوم به يرضي الله او يسخط الله؟ هذا هو الاساس الذي ينبغي ان يفكر فيه الانسان، لأنّ المشكلة ان بعض الناس ينساقون عاطفياً ولا يتحرّكون من موقع العقل والتدبر، فيتعصبون للعائلة او للعشيرة او للضيعة او للحزب الفلاني او للبلد الفلاني، بحيث يتعصّب الإنسان لخصوصيته، بقطع النظر عمّا إذا كانت حقّاً أو باطلاً، الأمر الذي يدفع بالإنسان وإن كان صائماً أو حاجاً أو مصلياً، إلى التحرّك من خلال عصبيته بعيداً عن موازين الحقّ وبعيدا عن ضوابط الدين واحكامه.
وهكذا حتى عندما يريد الانسان ان يتلفظ باي كلمة، عليه ان ينظر في عواقبها ونتائجها.
فقد ورد عن الإمام عليّ (ع) انه قال: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه». فالعاقل إذا أراد أن يقول كلمة في أي مجال من المجالات، في بيته أو في منطقته، مع زوجته او مع اقربائه او جيرانه او اصدقائه، مباشرة كان يتكلم او عبر وسائل التواصل، وكذلك اذا أراد أن يوقّع، مثلاً، على قرار أو على عقد من العقود او على اي شيء اخر، فإنّه يتدبّر الأمر قبل ان يطلق الكلمة او يقوم بالفعل، أي أنّه يستشير عقله قبل أن يقول كلمته، ليدرس العقلُ نتائج الكلمة وسلبياتها وإيجابياتها وتأثيراتها، فإذا قال له العقل قُلها قالها، وإذا قال له لا تقلها لم يقلها، ولذلك فاللسان جندي من جنود العقل، أمّا الأحمق فقلبه وراء لسانه، فإذا خطرت الكلمة في ذهنه قالها، ثمّ إذا بدت له النتائج السلبية من جرائها، طلب من العقل أن يدبّره وأن ينقذه من ورطته، وأن يخلّصه من المشكلة التي وقع فيها.
ويقول الإمام عليّ (ع) في هذا المجال: «مَن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»، أي أنّ على الإنسان، إذا ما أراد أن يتحرّك في أمر، أن يتعرّف على كلّ الاحتمالات، وأن لا يستغرق في ما يفكّر فيه، بل يحاول أن يعرف كلّ وجهات النظر وما فكّر فيه الآخرون، الاحتمالات التي يمكن أن تتحقّق من خلال هذا العمل أو ذاك، أو من خلال هذه الكلمة أو تلك، فالإنسان الذي يدرس اموره من جميع جوانبها ويدرس جميع احتمالاتها، يعرف مواقع الخطأ ليجتنبها، حتى إذا سار في أي مشروع، سار وهو يعرف طريق الصواب. وفي ذلك يقول الإمام عليّ (ع): «مَن نظر في العواقب، أمن من النوائب»، فالإنسان الذي يفكّر في عواقب الأُمور، يستطيع أن يحمي نفسه من كلّ المشاكل ومن كلّ المصائب التي قد تحدث له، ويقول الإمام الصادق (ع) في وصيته لابن جندب: «وقفْ عند كلّ أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه، قبل أن تقع فيه فتندم». لانّك إذا بادرت إلى أمر دون أن تعرف مدخله ومخرجه، فإنّك ستندم. وهكذا يقول الإمام الصادق (ع): «احذروا عواقب العثرات»، أي تفكّر في الطريق التي تسير فيها، وفكّر في ما يمكن أن تقع فيه من العثرات، لتعرف ما هي نتائجها على حاضرك ومستقبلك.
إنّ علينا أن نتدبّر الحاضر والماضي لنعرف العواقب التي حلّت بالدول وبالشعوب من خلال الارتجال وعدم التفكير بالنتائج والعواقب، كما أنّه علينا أن نتدبّر عواقب الآخرة في كل مجالات حياتنا الاسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها،لان على الإنسان أن لا يدرس فقط عاقبة عمله في الدُّنيا، بل عليه أن يدرس عاقبة عمله في الآخرة أيضاً، لأنّ الآخرة هي دار الخلود في الجنّة إذا أحسنت، ودار الخلود في النار إذا أسأت، وهذا مضمون ما ورد في الدُّعاء: «اللّهُمّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه».
المصدر: موقع قناة المنار