بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين الانسان وبين الله هي علاقة العبد بخالقه وسيّده، ومقتضى العبوديّة لله هو ان يعترف العبد بحقّ سيده عليه، فلا يجترء عليه ولا يستخف به ولا يعصيه، بل عليه ان يعظمه ويطيعه ويشكره على نِعمه ويبتعد عن معاصيه، لا ان يستخفّ بها وبالنعم التي أنعمها الله عليه.
وقد حذّر الله من الجرأة عليه بارتكاب معاصيه والاستخفاف بها، سواء كانت صغيرة او كبيرة، وشدد تحديدا على عدم احتقار الذنوب الصغيرة والاستهانة بها وبعواقبها.
فعن النبي(ص) انه قال: “لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى مَن اجترأتم”.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: “لا تحقرنّ صغائر الآثام فإنّها الموبقات، ومن أحاطت به محقّراته أهلكته”.
وعن الامام الباقر عليه السلام: إن الله خبأ ثلاثة في ثلاثة: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرن من الطاعة شيئا، فلعل رضاه فيه. وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئا، فلعل سخطه فيه. وخبأ أولياءه في خلقه فلا تحقرن أحدا، فلعله الولي.
ولذلك على الانسان المؤمن أن لا يستخفّ بأي ذنبٍ مهما صغر في عينه، لأنّ ذلك قد يكون موجبا لسخط الله وغضبه، كما انه قد يكون مدعاة أيضاً للاستمرار به والاعتياد عليه، وارتكاب ما هو أكبر منه.
وقد حذرت الروايات الواردة عن النبي(ص) وائمة اهل البيت(ع) بشدة من ارتكاب الذنوب الصغيرة والاستخفاف بها، فبالاضافة الى الروايات المتقدمة، فقد روي عن النبي(ص) انه قال: “ألا لا تحقّرنّ شيئاً وإن صغر في أعينكم، فإنّه لا صغيرة بصغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة بكبيرة مع الاستغفار، ألا وإنّ الله سائلكم عن أعمالكم…”.
وروي عن أبي أسامة زيد الشحّام قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: “اتقوا المحقّرات من الذنوب فإنّها لا تغفر.
قلت: ما المحقّرات؟
قال: الرجل يذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك”.
وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال أشدّ الذنوب (عند الله) ذنب استهان به راكبه”.
وعنه عليه السلام ايضا: أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه”.
وقد يصاب الإنسان بمرض الاستخفاف بالذنوب ويعتاد عليها إمّا غفلة وجهلاً، وإمّا عناداً وتعنّتاً، وفي كلتا الحالتين فان النتيجة واحدة وهي الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة، لأن للاستخفاف بالذنوب والمعاصي وارتكابها عواقب ونتائج وآثارا خطيرة في الدنيا والآخرة، أبرزها:
اولا: غضب الله: وهذا من الآثار المهلكة في الدنيا والآخرة، والغضب هنا بمعنى عقاب الله وعذابه، كما ورد في الرواية عن الإمام الباقر (ع) عندما سأله عمرو بن عبيد عن قوله تعالى: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)، “ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر (ع): هو العقاب”.
وعن أمير المؤمنين (ع) قال: “مجاهرة الله بالمعاصي تعجّل النقم”.
ثانيا: قساوة القلب وأسوداده: والمراد بالقلب الجوهر الذي تتقوّم به إنسانية الإنسان، وقد أودعه الله فينا مفطوراً على التوحيد والعبودية والطاعة، طاهراً أبيضَ سليماً رقيقاً شفّافاً ليس فيه أي نقصٍ وفسادٍ، لكن بارتكاب المعاصي والذنوب والابتعاد عن الله يقسو شيئاً فشيئاً، حتى يصبح أشدّ قسوة من الحجارة: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً…) (البقرة/ 74). ويتحوّل إلى قلب أسود لا بياض فيه ولا نور، ففي الحديث عن الإمام الباقر (ع) قال: “ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادَ في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين/ 14).
وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال: كان أبي (عليه السلام) يقول: ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله.
وعن الإمام علي (عليه السلام): ما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب
ثالثا: الخروج من ولاية الله والدخول في ولاية الشيطان: فإنّ عصيان الله وإطاعة الشيطان توجب دخول العبد العاصي في ولايته وخروجه من ولاية الله، وقد يؤدي به إلى خروجه من الإيمان وإلى الكفر بالله عزّ وجلّ. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر/ 42).
رابعا: حرمان الرزق: وقد يكون الرزق معنويّاً كالتسديد والتأييد والتوفيق والحفظ ونيل الشهادة في سبيل الله. وقد يكون مادّياً – كما هو المتبادر عند عامّة الناس – كالمال والملك والطعام وغير ذلك. يقول الله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت/ 17).
وفي الحديث عن رسولُ الله (ص): وإنَّ الرجل ليُحرم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه.
وعن الإمام علي (ع): احذروا الذنوب، فإن العبد ليذنب فيحبس عنه الرزق .
وعن الإمام الباقر (ع): إن العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق
وعن الإمام الصادق (ع): إن المؤمن ليأتي الذنب فيحرم به الرزق …
والظاهر أنّه حرمان الزيادة في الرزق؛ لأنّ بعض الرزق مضمونٌ من قبل الله لكلّ مخلوق حيّ حتى الفسّاق والكفرة والعصاة، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود/ 6)، لا حرمان أصل الرزق لهؤلاء لأنّه يعني قطع أصل الحياة وقبض أرواحهم. وقد يكون الحرمان في رفع البركة من أرزاقهم وأموالهم وطعامهم، كما ورد في رواية الزهراء (عليها السلام): “ويرفع الله البركة من رزقه”.
خامسا: نقصان العمر: ففي الحديث عن أبي عبد الله (ع): “مَن يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال”. ويخبرنا الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم عن هلاك الأُمم السابقة، الذين ظلموا أنفسهم وعصوا الله، وطغوا في الأرض وقتلوا أنبياء الله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (يونس/ 13).
سادسا: زوال النِّعم وحلول النِّقَم: يقول الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف/ 96).
وعن الإمام الصادق (ع) قال: “ما أنعم الله على عبد نعمةً فسلبه إيّاها حتى يذنب ذنباً يستحقّ بذلك السلب”.
سابعا: الابتلاء بالامراض والوباء: عن أبي عبد الله (ع) قال: “أما إنّه ليس من عرقٍ يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلّا بذنب، وذلك قول الله عزّ وجلّ في كتابه (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ، ثم قال (ع): وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به”.
فارتكاب المعاصي سببٌ للمرض والوباء، وهذا ما نراه ونلاحظه اليوم حيث ان العالم كله ابتلي بوباء كورونا ، البعض قد يرجع السبب فيما اصاب العالم من هذا الوباء إلى الأسباب المادية البحتة, أو إلى أسباب سياسية او اقتصادية او امنية أو ما أشبه ذلك، في الوقت الذي يمكن ان يكون وراء ذلك الوباء أسباباً لها علاقة بطغيان العالم وابتعاد الناس عن طاعة الله وارتكاب الذنوب والمعاصي كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} }[الأعراف: 96-99].
والحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع المنار