بسم الله الرحمن الرحيم
التكافل الاجتماعي بمعنى الرعاية الاجتماعية والاحتضان والمتابعة الدائمة والمستمرة للفقراء والمحتاجين، وكذلك روحية العطاء وقضاء الحاجات والوقوف الى جانب الفقراء والمساكين والأيتام والمتعثرين ومتابعة حاجاتهم، الذي نراه في سلوك اتباع أهل البيت(ع) لا سيما في الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية كالتي نعيشها اليوم في لبنان، هو ليس حالة طارئة او موسمية او نتاج انفعال عاطفي عابر، بل هو وليد تربية وثقافة تضرب جذورها في التاريخ، وهو شكل من اشكال التأسي بأئمة أهل البيت(ع)، وأحد التعابير الصادقة للولاء الحقيقي لهم، والاقتداء العملي بهم، وبما كانوا يقومون به على صعيد رعاية الاسر الفقيرة والمحتاجة وتعاهد امورهم في السر والعلن، وهو ما جسده الامام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في سلوكه الاجتماعي تجاه الفقراء والمحتاجين في المجتمع الاسلامي لا سيما في المدينة المنورة .
فقد اتبع حكام بني امية لا سيما في زمن الامام زين العابدين(ع) سياسة العقوبات والتضييق الاقتصادي ضد خصومهم، خصوصا ضد أتباع أهل البيت(ع)، لإضعافهم في ساحة العمل السياسي كقوة مقاومة للحكم الأموي الظالم، واستأثروا باموال الدولة ومواردها من اجل تقوية سلطانهم واعتمدوا سياسات مالية لم يستفد منها سوى أعوانهم وبطانتهم وجنودهم ليأمنوا شرهم وليكونوا عونا لهم في تعزيز سلطانهم وطغيانهم، وأداة لقمع خصومهم ومعارضيهم، وقد أثرت هذه السياسات المالية والاقتصادية الظالمة سلبا على حياة الناس، لا سيما على أتباع أهل البيت (ع) ومواليهم، وتسببت بأزمة معيشية لدى شرائح واسعة، وزادت من حالة الفقر والعوز في المجتمع الاسلامي، وتكونت طبقة من المحتاجين، خصوصا من شيعة أهل البيت(ع)، حيث كان بعضهم لا يجد شيئا لسد رمقه ، ولا يجد من يكفله ويتعاهد أمره، وظهرت الحاجة إلى تفعيل العطاء والتكافل الاجتماعي ورعاية الاسر والعائلات الفقيرة، بما يتناسب مع حجم المشكلات الاقتصادية التي أفرزتها السياسات الأموية الجائرة، فتصدى الامام زين العابدين(ع) لمواجهة هذه السياسات وحماية هذه الطبقة من خلال رعاية الفقراء واحتضانهم وتعاهدهم في السر والعلن، وقد نقلت لنا كتب السير والتاريخ عنه مواقف جليلة في الجود والكرم والانفاق والتصدق والرعاية الدائمة لفقراء والمحتاجين: فكان يقضي الدين، ويعتق العبيد، ويكرم الفقراء، ويواسي إخوانه المؤمنين، وكان (ع) محط أنظار المسلمين عامة، وشيعة أهل البيت خاصة، يرون ما يقدمه لمساعدة الناس وقضاء حوائجهم، كان (ع) الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة التي التزمها المقربون إليه واتباعه وشيعته، وكان هذا السلوك وتلك التدابير من الإمام(ع) هي الرد العملي على السياسة الأموية الجاهلية تجاه المسلمين واتباع اهل البيت.
فقد كان الامام علي بن الحسين زين العابدين(ع) يهدي أفخر ثيابه للمحتاجين والمعوزين ، وكان يحمل جرابه ملثّماً في جوف الليل يوزّع المال والطعام على الفقراء والمساكين وذوي العسر والفاقة من يتامى وأرامل المسلمين..
وجاء في رواية أحمد بن حنبل والصدوق عن الامام الباقر (عليه السلام): أنّه كان يعول مائة بيت في المدينة .
وينقل أبو جعفر الصدوق ، في « علل الشرائع » ، عن سفيان بن عيينة: ( ان الزهري رأى علي بن الحسين في ليلة باردة مطيرة وعلى ظهره دقيق وحطب وهو يمشي فقال له : يا ابن رسول الله : ما هذا ؟.
قال : « أريدُ سفراً أعدُّ له زاداً أحمله إلى موضعٍ حريز » ، فقال الزهري : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى ، فقال : أنا أحمله عنك. فقال : « لكني لا أرفع عن نفسي عما يُنجيني في سفري ويُحسن ورودي على ما سأرِد عليه ، سألتك بالله لمّا مضيت في حاجتك وتركتني ! » .
وحينما أرسل يزيد بن معاوية إلى المدينة قائده مسرف بن عقبة ليستحلها وينتهك حرمتها في واقعة الحرة، عال الإمام زين العابدين(ع) أربعمائة عائلة إلى أن تفرق جيش مسرف بن عقبة.
وكان يعول أهل بيوت كثيرة في المدينة لا يعرفون من يأتيهم برزقهم حتى مات.
ويروي الزهري: ( لما مات زين العابدين فغسّلوه وجدوا على ظهره محل « أي علامة » فبلغني أنّه كان يستقي لضعفة جيرانه بالليل. وقيل : وجدوا على ظهره مثل ركب الابل ممّا كان يحمله على ظهره إلى منازل الفقراء ) .
وكان(ع) إذا أتاه سائل يسأله كان يجيب : « مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة » مذكّراً بمقولة جدّته الزهراء (عليها السلام) ومجسّداً لمواقفها العظيمة مع من كان يطرق بابها من الفقراء ، فلا تردّهم ، رغم حاجتها وحاجة أطفالها، بل كانت تقول: « كيف أردُّ الخير وقد طرق بابي ، أو نزل ببابي »
وكان يفسّر إهداء ثيابه لفقراء المسلمين ، أن ذلك يُسرهم ويؤثّر في نفوسهم ، وحين يُسئل لمَ لا تبيعها وتتصدّق بثمنها ؟ يجيب : « إنّي أكره أن أبيع ثوباً صلّيتُ فيه ».
وكان (عليه السلام) لا يكتفي بمساعدة الفقراء، بل كان يُقبّل أيديهم قبل أن يناولهم الصدقة ، مذكراً مرة أُخرى بمقولته المشهورة : مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة.
ولعلَّ ( صدقة السر ) المنسوبة له )عليه السلام( هي تجسيدٌ مثاليٌ رائعٌ لهذا السلوك الانساني الرفيع ، فكان يسمى ( صاحب الجراب ) ؛ إذ كان يقصد بجرابه فقراء المسلمين ليلاً ملثماً ، فيقرع أبوابهم باباً باباً ليضع ما يضعه أمامها في جوف الليل من طعام أو صرّة مال ، ولم يكن ليعرف المسلمون ( صاحب الجراب ) هذا حتى مات )عليه السلام( حيث كشف بعض خواصه كلمته الخالدة : « إنّ صدقة السرّ، أو صدقة الليل تطفىء غضب الرب » لتبقى شعاراً خالداً يندّد بالمرائين وتجار السياسة وعشّاق الوجاهة والرئاسة وشُرّاء الذمم والاَصوات..
ويقول أبو نعيم في حلية الاولياء : ( كانت بيوتٌ في المدينة تعيش من صدقات علي بن الحسين ، وبعضها لا تدري من أين تعيش ، فلمّا مات علي بن الحسين فقدوا ما كان يأتيهم ، فعلموا بأنّه هو الذي كان يعيلهم. وقال بعضهم : ما فقدنا صدقة السرّ حتى فقدنا علي بن الحسين ).
وكان (عليه السلام) يعجبه ان يجلس على مائدة طعامه اليتامى والمعوقين والمساكين الذين لا كفيل لهم ، وكان يناولهم الطعام بيده بكل شفقة وحنان وود ومحبة.
ويروى انه (صلوات الله وسلامه عليه) كان له يوميا في داره مجلس إطعام عام. وطبعا تظهر أهمية هذا السلوك الذي كان يقوم به الامام(ع) إذا لاحظنا مكانته ومسؤولياته الكثيرة التي كانت ملقاة على عاتقه، وحجم المراجعات التي كان يتلقاها، ومن الواضح ان فتح البيت ووضع موائد الطعام يرتب مسؤوليات إضافية على صاحب البيت، لأنه لابد من الجلوس مع الوافدين، والتحدث معهم وقضاء حوائجهم، ولعل الكثير منهم لا يقدِّرون وضع الانسان، ووقته، وقيمة هذا الوقت، وقد لا يتعاملون بالشكل اللائق أو المناسب، ولكنها الرحمة والإنسانية والأخلاق النبوية الرفيعة هي التي كانت تدفع بالامام (ع) الى مثل هذا السلوك الاجتماعي والرعائي النبيل.
ولو أن هذه الثقافة اصبحت ثقافة عامة لتغيرت أوضاع المجتمع الاسلامي كله ولما بقي الفقر يقرع ابواب الناس.
إننا بحاجة الى ترسيخ هذه الثقافة وتعزيز هذه الروح؛ روح العطاء والشعور بالمسؤولية تجاه من يعانون، وتعزيز التعاون داخل المجتمع، بعد أن تفاقم الوضع الاقتصادي والمعيشي، حيث يزداد الفقراء فقراً ويتحول متوسطو الاحوال الى فقراء ومتعسرين، نتيجة الازمة الاقتصادية وجائحة كورونا، الامر الذي نحتاج فيه الى التعاون والتكامل واطلاق المبادرات الفردية والجماعية، عبر الجمعيات والمؤسسات واللجان الاجتماعية المختلفة، من اجل القيام بهذه المسؤولية والتخفيف من تداعيات الازمة المعيشية، فاليوم مسؤولية المجتمع كلّه أن يبادر للتكافل الاجتماعي، وان يساند ويدعم من يقوم بذلك من جمعيات ومؤسسات ولجان اجتماعية، لان المساندة في مثل هذه المجالات والمساهمة في إعانة الفقراء وذوي الحاجة، هو مقياس نجاحنا في القيام بمسؤوليات وقبول أعمالنا.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
المصدر: موقع المنار